بون ـ المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات ECCI ـ وحدة الدراسات (26)
لطالما واجه الاتحاد الأوروبي السنوات الماضية انتقادات مستمرة، بشأن سياساته الخارجية وإدارة العلاقة داخل حلف الناتو ومع الولايات المتحدة، وقدرته على الاستقلالية في القرارات الخاصة بالأمور الدفاعية، كثفت الدول الأعضاء بالاتحاد مشاوراتها العامين الماضيين، لاتخاذ خطوات جادة بشأن دعم القدرات العسكرية والصناعات الدفاعية المشتركة، مع اقتراب الانتخابات الأوروبية في يونيو 2024، والتخوف من فرص التيارات اليمينية المتطرفة في الانتخابات وسيطرتها على النتائج، في ضوء استطلاعات الرأي التي تشير إلى تفوق هذه التيارات على حساب باقي الأحزاب التقليدية.
تصحيح مسار الاتحاد الأوروبي
كشف الصراع الراهن بين روسيا والغرب، عن ثغرات في خطط أوروبا العسكرية وقدراتها على تصنيع الأسلحة، لتخلي أغلب الدول عن زيادة الإنتاج العسكري وتطبيق التجنيد الإجباري، ووافق المجلس الأوروبي في 21 مارس 2022، على وثيقة البوصلة الاستراتيجية بعد تعديلات أجريت عليها وفقاً للمتغيرات الجيوسياسية بالقارة، وانضمت دولة مثل سويسرا للوثيقة بعد تخليها عن الحياد الذي تبنته في 1992. واتفقت الـ 27 دولة بالتكتل على تعزيز سياسة الأمن والدفاع بحلول 2030، بجانب إنشاء قوة انتشار سريع تابعة للاتحاد يبلغ تعدادها (5) آلاف جندي، ودعم العمل والاستثمار والشراكة والحماية بين دول التكتل.
رؤية المفوضية الأوروبية لاستغلال تيارات اليمين المتطرف نقطة ضعف السياسات العسكرية بالانتخابات الأوروبية، جعلتها تستبق الحملات الانتخابية بإصلاح الوضع، وقدمت في 19 يوليو 2022 مقترحاً لإنشاء أداة لتعزيز صناعة الدفاع الأوروبية عبر عمليات الاستحواذ المشتركة (Edirpa) بقيمة (500) مليون يورو. وفي 18 يناير 2023 وضعت أسس مشاريع تطوير مشتريات الأسلحة المستقبلية بمضاعفة الميزانية لتصل إلى (1.5) مليار يورو. وجددت إيطاليا في 7 يناير 2024، دعوة تشكيل جيش أوروبي موحد توكل له مهام الحفاظ على السلام ومنع النزاعات في أوروبا.
تلقى مبادرة “درع السماء الأوروبية” التي أطلقتها ألمانيا في 23 يوليو 2022، بترحيب (15) دولة بحلف الناتو، بعد موافقة مجلس الاتحاد السويسري في 10 أبريل 2024، على مشاركة بلاده بالمبادرة التي تهدف لبناء نظام متكامل للدفاع الجوي والصاروخي بأوروبا. وفي 3 أبريل 2024 دعا وزراء خارجية ألمانيا وفرنسا وبولندا، لتعزيز القدرات العسكرية الأوروبية، ما يتطلب إبرام عقود ملزمة طويلة الأجل بجداول زمنية واضحة والتزامات مالية ثابتة، وضمانات شراء من الحكومات الأوروبية، وأن إنفاق (2%) من الناتج المحلي على الدفاع يكون مجرد بداية.
تنظر فرنسا إلى الانتخابات كنقطة محورية في البناء الأوروبي لصعود التيارات الشعبوية، وأشار استطلاع رأي لمؤسسة “أوبينين واي”، إلى حصول الغالبية الرئاسية على (19%) من الأصوات، مقابل (29%) لحزب التجمع الوطني الفرنسي. وشدد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في 25 أبريل 2024، على تراجع أوروبا في مواجهة القوى الكبرى والتغيرات الجيوسياسية، داعياً لبناء مفهوم استراتيجي لدفاع أوروبي، والحصول على قرض أوروبي للاستثمار في التسلح، وإعطاء الأولوية للموردين الأوروبيين في شراء المعدات العسكرية.أمن دولي – الناتو وأوروبا.. سياسية دفاعية جديدة
استراتيجية أوروبية جديدة للدفاع
أصبحت سياسة الأمن والدفاع المشتركة شغل الاتحاد الأوروبي الشاغل الفترة الأخيرة، ما دفعه للإعلان عن استراتيجية جديدة للدفاع، وفي 28 فبراير 2024 دعت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، إلى استراتيجية جديدة لصناعة الدفاع للرد على التحديات الأمنية المتعلقة بشراء الأسلحة والذخيرة في أوروبا، مؤكدة أن السيادة الأوروبية تعني تحمل المسؤولية والاستعداد للدفاع عن مصالحها. وترتكز الاستراتيجية الأوروبية على زيادة الإنفاق الدفاعي، وطرح مقترح بدء محادثة حول استخدام الأرباح غير المتوقعة من الأصول الروسية المجمدة، لشراء معدات عسكرية مشتركة لأوكرانيا.
تعتمد رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، على الترويج لتحسين قدرات الاتحاد العسكرية بتعيين مفوض دفاع في المفوضية المقبلة، خلال حملتها الانتخابية للفوز بفترة ولاية ثانية في الانتخابات المقبلة. وتوافقت تصريحات منسق السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل، والذي يشغل منصب نائب رئيس المفوضية أيضاً، مع موقف فون دير لاين، بالتأكيد أن مهام هذا الشخص هو صناعة الدفاع بأوروبا. ووضعت المفوضية الأوروبية في 5 مارس 2024، هدفاً رئيسياً يتعلق بشراء ما لا يقل عن (40%) من المعدات العسكرية بشكل مشترك بحلول عام 2030، مع تخصيص (1.5) مليار يورو للفترة من 2025 إلى 2027 لجعل الصناعة الأوروبية أكثر قدرة على التكيف. ويرى كبير الباحثين في معهد كلينغينديل الهولندي للعلاقات الدولية ديك زاندي، أن هذه الأرقام مؤشر جيد على تغيير الاتحاد سياسته الدفاعية للأفضل، خاصة وأنه تم تحديد (35%) من المعدات العسكرية في 2007، وتم شراء (18%) من المنتجات الدفاعية بشكل مشترك من دول التكتل في 2021.اليمين المتطرف في ألمانيا ـ تزايد المخاوف بشأن الانتخابات القادمة
خطط الأحزاب للانتخابات الأوروبية
كشف استطلاع رأي لموقع “يورونيوز” في 27 مارس 2024، أن أكثر من ثلث الناخبين الأكثر تشككاً في الاتحاد الأوروبي، يعتقدون أنه يجب إعطاء أولوية لسياسة دفاعية مشتركة. وأشار استطلاع لشركة “إبسوس” تم إجرائه على (26) ألف من الناخبين في الاتحاد، أن ما يقرب من نصفهم يؤيدون تجميع القوى العسكرية، الأمر الذي يتوافق مع برنامج رئيسة المفوضية الأوروبية الانتخابي. وبانطلاق الحملات الانتخابية الأوروبية في مارس 2024، وسط مخاوف من صعود التيار اليميني المتطرف والانقسام حول حرب أوكرانيا، ركزت بعض الأحزاب في مقدمتها حزبي الاتحاد الديمقراطي المسيحي والاتحاد الاجتماعي المسيحي على التسلح الضخم لدى الاتحاد، نظراً لاقتناع الحزبان بتغير الوضع الأمني الأوروبي بعد حرب أوكرانيا وحاجة أوروبا إلى أجندة أمنية شاملة.
تضمنت وثيقة البرنامج الانتخابي للاتحاد الأوروبي (25) صفحة، لتوضيح الرؤية المستقبلية للقوة الدفاعية للاتحاد، بالاعتماد على سياسة خارجية وأمنية مشتركة أفضل، تجعل من أوروبا لاعباً قادراً للتصدي لأي تحديات، وإنشاء قوات مسلحة أوروبية مدمجة في هيكل حلف الناتو. وأشارت الوثيقة إلى أن الأمر يتطلب العمل الجماعي في إطار اتحاد دفاعي أوروبي معزز، مع وضع المملكة المتحدة في الاعتبار، كونها قوة عسكرية أوروبية رائدة ما يعني أهمية دمجها بأفضل طريقة.
وتتوافق هذه الوثيقة مع رؤية الحزبين (الاتحاد الديمقراطي المسيحي والاتحاد الاجتماعي المسيحي) حول جعل أوروبا أكثر استقلالية وقادرة على الصمود، مع الإشارة إلى أن الشراكة عبر الأطلسي ومع الولايات المتحدة يجب أن تظل قوية، في ظل صعود القوى المتطرفة المناهضة للمشروع الأوروبي القائم على أسس الليبرالية والديمقراطية. ويعتبر الاتحاد الانتخابات الأوروبية المقبلة، بأنها خطوة لازدهار القارة لمواجهة إعادة تشكيل القوى العظمى بالعالم، في ضوء تحديات أمنية وتكنولوجية ومناخية، لذا يحرص الاتحاد على أن يحافظ على الناخبين الأساسيين، بتقديم برنامجه القائم على تطوير المعدات العسكرية مثل الدبابات المقاتلة والطائرات بدون طيار وحاملات الطائرات بالتعاون مع الشركاء الأوروبيين، برصد ميزانية طويلة الأمد لتحقيق هذا الهدف.
أسباب اهتمام الاتحاد الأوروبي بتعزيز الدفاع قبل الانتخابات
الحرب الأوكرانية: حفز التقدم العسكري الروسي في أوكرانيا، إلى زيادة الإنفاق الدفاعي لدول أوروبا، خاصة وأن الاتحاد الأوروبي كان يستهدف تصنيع مليون قذيفة مدفعية سنوياً حتى الآن، ولكنه لم ينتج سوى نصف الرقم، وقد يصل الإنتاج إلى (1.4) مليون قذيفة سنوياً بحلول نهاية ديسمبر 2024.
توحيد قوة الاتحاد الأوروبي: تهدف الاستراتيجية الدفاعية الجديدة إلى منع التشرذم، نظراً لأن الدول الـ 27 تزود جيوشها بأسلحة لا تتوافق مع أسلحة دول الاتحاد، ما يعني أن التكتل لا يشكل قوة شرائية جماعية. وأكدت نائبة رئيسة المفوضية الأوروبية مارغريت فيستاغر، أن الاستراتيجية تضمن قدرة صناعة الدفاع الأوروبية بشكل أسرع وجماعي.
تحقيق الاستقلالية الأوروبية: أنفق الاتحاد أكثر من (100) مليار يورو على المعدات العسكرية منذ بداية الحرب الأوكرانية وحتى يونيو 2023، وأنفق (80%) من هذا المبلغ خارج دول التكتل، واتجه (60%) منه للشركات المصنعة بالولايات المتحدة، والهدف إنفاق ما لا يقل عن (50%) من أموال الدول الأعضاء المخصصة للمعدات الدفاعية داخل الاتحاد، تحقيقاً لمزيد من الاستقلالية للتسلح الأوروبي، للتخوفات من متغيرات في ديناميكيات الانتخابات وفوز المرشح الرئاسي الأمريكي دونالد ترامب بالانتخابات المقررة في نوفمبر 2024، لذا يخطط الاتحاد لإنشاء هيئة جديدة تتألف من المفوضية وممثل الشؤون الخارجية ورئيس وكالة الدفاع الأوروبية والدول الأعضاء، لتحديد احتياجات الدول عند شراء الأسلحة وأن يصبح الشراء المشترك للأسلحة هو القاعدة.أمن قومي ـ تداعيات حرب أوكرانيا على أوروبا (ملف)
هل تنجح خطة تعزيز الدفاع؟
أوضح الأمين العام لاتحاد الصناعات الجوية والأمنية والدفاعية بأوروبا جان باي، دعمه الكامل لتحسين الدفاع والصناعات العسكرية بالقارة، ولكن يتوقف النجاح على موقف الدول الأعضاء واستعدادها للخطوة. وتحتاج الاستراتيجية لدعم الدول والتصويت لصالح القانون الذي ينفذها. ويتوقع كبير الباحثين في معهد كلينغينديل الهولندي للعلاقات الدولية ديك زاندي، توافق الاتحاد على تعزيز الصناعات الدفاعية، رغم أن الأمر يتطلب من الدول الأعضاء خفض ميزانياتها في الإنفاق الاجتماعي. بينما ترى مديرة قسم شمال أوروبا بمركز المجلس الأطلسي للأبحاث آنا فيزلاندر، أن القرار يعتمد على الإرادة السياسية للدول. وتشير دراسة لمعهد” إيفو” الألماني للأبحاث الاقتصادية، إلى إمكانية أن تصل دول أوروبا لمستوى (2%) من الإنفاق العسكري بتقليص النفقات الحكومية الأخرى بما يقل عن نقطة مئوية.
تقييم وقراءة مستقبلية
– أصبح الاتحاد الأوروبي مجبراً على تحديد مستوى الإنفاق العسكري والالتزام بالاستراتيجية الدفاعية الجديدة، نظراً للضغوط الداخلية على الحكومات من قبل التيارات اليمينية المتطرفة، التي تستغل الثغرات المتعلقة بسياسات الأمن والدفاع الأوروبي والعلاقة مع الولايات المتحدة، لتحمل الأنظمة الحالية مسؤولية الحرب على أوكرانيا، وتبعاتها الأمنية والسياسية والاقتصادية، من أجل تعزيز فرصهم في الانتخابات الأوروبية المقبلة، الأمر الذي ينعكس بشكل مباشر على نفوذهم في الانتخابات العامة والمحلية داخل دول الاتحاد.
– التحذيرات الفرنسية حول خطورة الوضع الأمني على أوروبا وضرورة تعزيز القدرات العسكرية، يصب في صالح الحملات الانتخابية للأحزاب التقليدية المنافسة لحزب التجمع الوطني، الذي يتفوق في استطلاعات الرأي المتعلقة بالتصويت، لذا سنشهد احتدام في التصريحات بين الأحزاب الفرنسية وحالة من الاستقطاب للناخبين الفترة المقبلة.
– إن مخاوف الاتحاد من سيطرة اليمين المتطرف على المناصب القيادية بداخله، تدفع دول مثل ألمانيا وفرنسا للتنسيق مباشرة، في إطار البرنامج الانتخابي للتكتل، والبدء في اتخاذ خطوات جادة نحو مسألة قوانين التجنيد الإجباري وتحسين قدرات قواتها العسكرية، مع إبرام اتفاقيات دفاعية مع بريطانيا، وحثها على الانضمام لمقترح تشكيل جيش أوروبي موازي، بهدف تعزيز موقف الاتحاد أمام حلف الناتو وبالأخص الولايات المتحدة في مسألة الاستقلالية الدفاعية.
– تصبح الأزمات الاقتصادية والعلاقة مع الولايات المتحدة تحديات أمام استراتيجية أوروبا الدفاعية، لتقليص حجم شراء الأسلحة والمعدات الأمريكية، والاتجاه نحو الإنتاج والتصنيع العسكري، ما يعني اتجاه الاتحاد الأوروبي نحو إنهاء هيمنة واشنطن على الجيوش الأوروبية، ما ينتج خلافات داخل الناتو، وربما تعول الولايات المتحدة على محاولة إقناع دول شرق أوروبا باستمرار الاعتماد على الأسلحة الأمريكية، الأمر الذي يهدد وحدة ورؤية التكتل.
– زيادة ميزانية الإنفاق العسكري، تضغط أغلب ميزانيات دول الاتحاد المتعلقة بالإنفاق الاجتماعي، ما قد يتسبب في زيادة الاضطرابات داخل قطاعات حيوية، وهي نقطة تستغلها التيارات اليمينية المتطرفة طوال الوقت، لنشر أفكارها وتسليط الضوء على نقاط الضعف في خطط الحكومات الحالية، لذا يجب أن تراعي دول الاتحاد التنسيق المشترك معاً لتنفيذ خطة الإنفاق الدفاعي، دون المساس بباقي بنود الموازنة العامة للدول.
رابط مختصر.. https://www.europarabct.com/?p=93636
*حقوق النشر محفوظة إلى المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الارهاب والاستخبارات
الهوامش
أهداف إستراتيجية الاتحاد الأوروبي الجديدة للتسليح الجماعي
‘Europe is mortal,’ Macron warns as he calls for more EU unity and sovereignty in landmark speech
“تعزيز الدفاع” بمواجهة روسيا يهدد الإنفاق الاجتماعي في أوروبا
Neutral Switzerland joins European Sky Shield defence project