بون ـ المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات ECCI ـ وحدة الدراسات (27)
شهدت العلاقات بين الاتحاد الأوروبي وأوكرانيا تحولات كبيرة خلال العقد الأخير، مدفوعة بالتغيرات الجيوسياسية والصراعات الإقليمية. لعبت الولايات المتحدة، تحت قيادة الرئيس دونالد ترامب، دورًا محوريًا في تشكيل هذه الديناميكيات، سواء عبر مواقفها تجاه روسيا أو سياساتها تجاه أوكرانيا. ورغم أن إدارة ترامب اتخذت خطوات لدعم أوكرانيا عسكريًا، إلا أن تصريحات الرئيس وقراراته أحيانًا أثارت تساؤلات حول التزام واشنطن الطويل الأمد تجاه كييف. تستعرض هذه الدراسة تأثير سياسات ترامب على العلاقات الأوروبية مع أوكرانيا، مع التركيز على المواقف الأمريكية تجاه روسيا وأوكرانيا، وتقييم الدور الأوروبي في ظل أي تغيرات محتملة في السياسة الأمريكية.
ما مدى تأثير المواقف الأمريكية تجاه روسيا وأوكرانيا على الاتحاد الأوروبي؟
تُعد مواقف إدارة ترامب تجاه روسيا من أكثر القضايا إثارة للجدل خلال فترته الرئاسية السابقة من 20 يناير 2017 إلى 20 يناير 2021. فمن ناحية، فرضت الإدارة عقوبات مشددة على روسيا ردًا على تدخلها في الانتخابات الأمريكية وضمها لشبه جزيرة القرم. ومن ناحية أخرى، أظهرت تصريحات ترامب مواقف متباينة، منها الإشادة بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين. هذا التناقض أثّر بشكل مباشر على الاتحاد الأوروبي، الذي يسعى لتحقيق توازن بين موقفه الحازم ضد روسيا ودعمه لأوكرانيا. الاتحاد الأوروبي، الذي يعتبر روسيا تهديدًا لأمنه، واجه ضغوطًا إضافية لتعزيز سياسته الدفاعية والاقتصادية تجاه أوكرانيا لتعويض أي غموض في السياسة الأمريكية. علاوة على ذلك، شجعت سياسات ترامب الاتحاد الأوروبي على إعادة تقييم اعتماده على الولايات المتحدة كشريك استراتيجي رئيسي، مما دفعه نحو تعزيز استقلاليته الاستراتيجية.
تأثير هذا التوجه الأمريكي لم يقتصر على الأبعاد السياسية فقط، بل امتد أيضًا إلى المجالات الاقتصادية. العقوبات الاقتصادية التي فرضتها واشنطن على موسكو أثرت على الشركات الأوروبية التي تعتمد على التعاون مع روسيا، مما دفع الاتحاد الأوروبي للبحث عن سبل لتعزيز اقتصاده بعيدًا عن النفوذ الأمريكي المباشر. على سبيل المثال، اضطرت الدول الأوروبية إلى تسريع جهودها لتطوير مصادر طاقة بديلة وتقليل الاعتماد على الغاز الروسي، وهو أمر زاد من أهمية التنسيق الأوروبي مع أوكرانيا في مجال الطاقة.أمن دولي ـ هل تنتهي حرب في أوكرانيا خلال العام 2025؟
ما مواقف الرئيس ترامب المتوقعة بشأن دعم أوكرانيا؟
رغم دعم إدارة ترامب لأوكرانيا عسكريًا، بما في ذلك إرسال مساعدات دفاعية ومعدات عسكرية، إلا أن تصريحات الرئيس بشأن مكافحة الفساد في أوكرانيا واستخدام هذه القضية كذريعة لتجميد المساعدات في بعض الأحيان أثارت قلق الشركاء الأوروبيين. مواقف ترامب أظهرت تركيزًا أكبر على مصالح الولايات المتحدة الداخلية بدلاً من التزام طويل الأمد بأمن أوكرانيا.
الاتحاد الأوروبي من جانبه، كان ينظر بعين القلق إلى هذا النهج، حيث يعتمد موقفه في دعم أوكرانيا بشكل كبير على التنسيق مع الولايات المتحدة. تراجُع دعم واشنطن كان يعني أن الاتحاد سيحتاج إلى سد الفراغ الناجم عن هذا التراجع، سواء عبر زيادة المساعدات الاقتصادية لكييف أو تعزيز جهوده الدبلوماسية في مواجهة النفوذ الروسي. يمكن تحليل مواقف ترامب من زاوية براغماتية تسعى لتعظيم الفوائد الأمريكية. ترامب، الذي اشتهر بسياساته “أمريكا أولاً”، حاول استغلال الدعم الأمريكي كأداة ضغط للحصول على تنازلات أو مكاسب من أوكرانيا أو حتى من الدول الأوروبية الحليفة. هذا النهج أثار قلقًا أوروبيًا واسعًا، إذ اعتُبر إشارة إلى أن الدعم الأمريكي قد لا يكون مضمونًا دائمًا، بل قد يُعاد النظر فيه بناءً على الحسابات السياسية الضيقة.أمن دولي ـ ما هي الأسباب التي تهدد اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحزب الله وحماس؟
ما التغيرات المحتملة في السياسة الأمريكية؟
خلال فترة ترامب السابقة، أظهرت الولايات المتحدة بوادر انحسار في الالتزام التقليدي تجاه الحلفاء الأوروبيين، ما انعكس على قضايا متعددة، بما في ذلك الدعم العسكري والاقتصادي لأوكرانيا. إذا استمرت هذه التوجهات، فقد يؤدي ذلك إلى:
زيادة الضغط على أوروبا: سيضطر الاتحاد الأوروبي إلى تحمل المزيد من الأعباء في دعم أوكرانيا، وهو ما قد يتسبب في توترات داخلية بين دول الاتحاد.
التغيرات في السياسة الأمريكية قد تدفع الاتحاد الأوروبي لتعزيز شراكته مع أوكرانيا كجزء من استراتيجيته للتصدي للنفوذ الروسي.
تغيير ديناميكيات الناتو: أي تراجع أمريكي قد يُضعف حلف الناتو ويزيد من المخاوف الأمنية لدول شرق أوروبا. في هذا السياق، يمكن النظر إلى إدارة ترامب على أنها بداية مرحلة جديدة في العلاقات الدولية، حيث قد تضطر القوى الإقليمية مثل الاتحاد الأوروبي إلى لعب أدوار أكبر في القضايا العالمية. هذا التحول سيضع دول الاتحاد أمام تحديات جديدة، أبرزها تعزيز قدراتها العسكرية وتوسيع نطاق تأثيرها السياسي.
ما انعكاس أي تراجع أمريكي في دعم أوكرانيا على الدور الأوروبي؟
مع تقلص الدعم الأمريكي المحتمل، قد يتحول الاتحاد الأوروبي إلى اللاعب الرئيسي في الملف الأوكراني. هذا التحول يتطلب استثمارات أوروبية إضافية، سواء في صورة مساعدات اقتصادية أو تعزيز القدرات الدفاعية لدول المنطقة. ومع ذلك، فإن قدرة الاتحاد على تحمل هذه المسؤوليات تعتمد على عوامل متعددة، منها مدى استعداد دول الاتحاد الأوروبي لتوحيد جهودها وتحمل التكاليف.
قدرة أوروبا على زيادة الدعم المالي لكييف في ظل تحديات اقتصادية داخلية. وتعزيز التعاون مع الناتو ضمان استمرار التنسيق العسكري مع الولايات المتحدة حتى في حال تراجع الدعم المباشر. كما أن تراجع الدعم الأمريكي قد يؤدي إلى تباينات داخل الاتحاد الأوروبي نفسه. دول شرق أوروبا، التي تعتبر روسيا تهديدًا مباشرًا، قد تدفع باتجاه مزيد من الالتزام الأوروبي تجاه أوكرانيا، في حين قد تكون الدول الغربية أكثر تحفظًا نظرًا لأولوياتها الاقتصادية والسياسية المختلفة. هذا الانقسام المحتمل سيُضعف قدرة الاتحاد على صياغة سياسة موحدة تجاه أوكرانيا وروسيا.أمن أوروبا ـ ماذا نعرف عن سفينة التجسس الروسية التي تم تعقبها في المياه البريطانية؟
احتمالات التحول في سياسة ترامب
تزامنًا مع بداية ولاية جديدة لترامب، تبرز تساؤلات عديدة حول اتجاه السياسات الأمريكية تجاه أوكرانيا. تصريحات ترامب السابقة التي ركزت على تقليص الإنفاق العسكري الأمريكي على الحلفاء قد تتجدد في الفترة المقبلة، مما يعزز احتمالية تقليص المساعدات العسكرية والاقتصادية لكييف. هذا التحول المحتمل سيضع أوروبا أمام تحديات كبيرة:
تعزيز الدفاع الذاتي: قد تضطر أوروبا إلى تحمل مسؤولية أمنها بشكل أكبر، مما يعني زيادة الاستثمارات في الدفاع وتطوير استراتيجيات عسكرية أكثر استقلالية.
زيادة الضغط على أوكرانيا: أي تراجع أمريكي قد يدفع أوكرانيا للبحث عن دعم بديل، مما يعزز حاجتها إلى شراكات أوروبية أقوى. هذا قد يتطلب من الاتحاد الأوروبي تحمل أعباء إضافية في دعم الإصلاحات الأوكرانية ومواجهة الفساد.
إعادة تقييم التحالفات: الدول الأوروبية، خاصة تلك القريبة من الحدود الروسية، قد تدفع باتجاه تعزيز تحالفات جديدة خارج إطار الناتو لتعويض التراجع الأمريكي.
ما تحديات العلاقة بين ترامب وأوروبا في ظل التوترات الأوكرانية؟
تعكس الفترة الجديدة لإدارة ترامب مرحلة من إعادة تشكيل العلاقات الأطلسية، حيث قد تتصاعد التوترات بين واشنطن وبروكسل بشأن ملفات متعددة، أبرزها القضية الأوكرانية. السياسات الأمريكية التي تركز على “تقاسم الأعباء” قد تُعقد التنسيق الأطلسي، مما يضعف الجهود المشتركة لمواجهة التحديات الروسية. من جهة أخرى، قد تستغل موسكو هذا التراجع لتوسيع نفوذها في شرق أوروبا، مما يزيد الضغط على الاتحاد الأوروبي لتطوير استراتيجية دفاعية ودبلوماسية شاملة. وتشمل التحديات المستقبلية أمام الاتحاد الأوروبي وأوكرانيا:
الضغوط الأمنية: مع استمرار التوترات مع روسيا، ستحتاج أوروبا إلى تعزيز أمنها الجماعي وتطوير استراتيجيات دفاعية طويلة الأمد.
الأزمات الاقتصادية: دعم أوكرانيا يتطلب موارد مالية ضخمة، وهو ما قد يشكل تحديًا في ظل الأزمات الاقتصادية المتكررة داخل دول الاتحاد.
الحاجة إلى تنسيق أفضل: تحقيق التوازن بين المواقف المختلفة داخل الاتحاد الأوروبي يتطلب بناء توافق أوروبي أعمق.
تقييم وقراءة مستقبلية
– من الواضح أن سياسات ترامب أحدثت تغييرات عميقة في توازن القوى بين الولايات المتحدة، الاتحاد الأوروبي، وأوكرانيا. بينما حاول الاتحاد الأوروبي تعزيز دوره كفاعل مستقل، لا يزال يعتمد بشكل كبير على الدعم الأمريكي في مواجهة التحديات الأمنية. في المستقبل، من المرجح أن يزداد التقارب الأوروبي مع أوكرانيا كرد فعل لأي تراجع أمريكي، سيعمل الاتحاد الأوروبي على تعزيز علاقاته مع كييف. ويستمر الضغط على روسيا من خلال العقوبات والدبلوماسية، سيحاول الاتحاد الأوروبي كبح الطموحات الروسية في المنطقة.
– مع إعادة انتخاب ترامب واستمرار تبنيه نهجًا غير تقليدي في السياسة الخارجية، من المتوقع أن يدفع الاتحاد الأوروبي نحو زيادة استقلاليته الاستراتيجية. إذا تراجعت الولايات المتحدة عن دورها التقليدي كحليف قوي لأوكرانيا، فقد يجد الاتحاد نفسه مضطرًا لتعزيز دعمه العسكري والاقتصادي لكييف. من جهة أخرى، قد يؤدي ذلك إلى تقارب أوروبي أوسع مع الشركاء الإقليميين، مثل كندا واليابان، لضمان استقرار الموقف الدولي الداعم لأوكرانيا في مواجهة روسيا.
– أي تراجع أمريكي عن دعم أوكرانيا قد يمنح روسيا فرصة لتوسيع نفوذها السياسي والعسكري في المنطقة. يمكن أن يُترجم ذلك إلى تعزيز الضغط الروسي على دول شرق أوروبا وزيادة التحديات الأمنية التي تواجه الاتحاد الأوروبي. بالتالي، قد تزداد حاجة أوروبا إلى تعزيز إنفاقها الدفاعي وتكثيف استثماراتها في مبادرات الأمن الجماعي.
– ضعف الالتزام الأمريكي قد يدفع الاتحاد الأوروبي إلى إعادة هيكلة مساعداته الاقتصادية لأوكرانيا، بما في ذلك دعم بنيتها التحتية وتحفيز اقتصاداتها المحلية لمواجهة الضغوط الروسية. ومع ذلك، فإن هذا التوجه قد يضع أعباء إضافية على ميزانيات الدول الأوروبية التي تعاني بالفعل من تحديات اقتصادية نتيجة جائحة كورونا وتداعياتها.
– مع احتمال انخفاض الدعم الأمريكي، ستسعى أوروبا إلى تسريع استراتيجياتها لتقليل الاعتماد على الطاقة الروسية. وقد يشهد المستقبل توثيق التعاون الأوروبي مع أوكرانيا في مجال الطاقة، بما في ذلك تعزيز الاستثمارات في مشاريع الطاقة المتجددة وتوسيع شبكات الغاز البديلة عبر أوكرانيا.
– تراجع الولايات المتحدة في دعم أوكرانيا قد يعيد تشكيل المشهد الجيوسياسي العالمي. يمكن أن يعزز ذلك التعاون بين الاتحاد الأوروبي وحلفائه التقليديين مثل اليابان وأستراليا، وربما يؤدي إلى تزايد الانخراط الصيني في المنطقة. هذه الديناميكيات قد تُعقد التحديات التي تواجه أوكرانيا، لكنها قد تدفع أوروبا نحو لعب دور أكبر في قيادة الاستجابة الدولية للأزمة الأوكرانية.
رابط مختصر..https://www.europarabct.com/?p=100331
*حقوق النشر محفوظة إلى المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الارهاب والاستخبارات
هوامش
Trump’s policy on Ukrainian war may lack focus, but it’s an unexpected priority
How could Trump’s policies impact Europe’s economy and politics?
Prepare for the worst: Four scenarios for Ukraine under Trump 2.0
Getting Europe Ready for a Second Trump Administration