بون ـ المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات ECCI ـ وحدة الدراسات (27)
شهد بحر البلطيق تصاعدًا متسارعًا في التوترات الأمنية، مدفوعًا بالتحديات الجيوسياسية بين روسيا وحلف شمال الأطلسي (الناتو). هذا البحر، الذي يمتد بين شمال أوروبا وروسيا، أصبح مركزًا حيويًا للنشاطات العسكرية والدبلوماسية على حد سواء. مع استمرار الأزمة الأوكرانية وتصاعد القلق الأوروبي بشأن التهديدات الروسية، أعلن الأمين العام للناتو، مارك روته، في 27 ديسمبر 2024 عن خطط لتعزيز وجود الحلف العسكري في المنطقة. جاء هذا الإعلان على خلفية الاشتباه بتعرض كابلات بحرية حيوية للتخريب، مما يهدد بنية الاتصالات والطاقة الأساسية في أوروبا. وبينما لم يعلن الناتو عن تفاصيل محددة بشأن حجم التعزيزات، يتوقع أن تشمل زيادة كبيرة في القوات البحرية والجوية والدفاعات السيبرانية.
الأهمية الاستراتيجية لبحر البلطيق
يُعد بحر البلطيق شريانًا حيويًا للاقتصاد والأمن في أوروبا، حيث يربط بين دول البلطيق وشمال أوروبا بدول الاتحاد الأوروبي الأوسع. تعبر هذه المنطقة خطوط نقل رئيسية للطاقة والتجارة، إلى جانب الكابلات البحرية التي تحمل البيانات بين القارات. أهمية المنطقة ليست فقط اقتصادية، بل أيضًا عسكرية. دول البلطيق الثلاث (ليتوانيا، لاتفيا، وإستونيا) تُعتبر خط دفاع أول للناتو أمام روسيا، نظرًا لموقعها الجغرافي الذي يجاور الأراضي الروسية. كما أن البحر يشكل ممرًا استراتيجيًا لتحركات السفن العسكرية والمدنية، مما يجعله محورًا رئيسيًا للتوترات الأمنية. منذ الأزمة الأوكرانية عام 2014، تحول بحر البلطيق إلى نقطة مواجهة بين الغرب وروسيا. زادت موسكو من نشاطها العسكري في المنطقة، بما في ذلك إجراء تدريبات واسعة النطاق ونشر منظومات دفاع جوي متقدمة، مما دفع الناتو إلى اتخاذ خطوات لتعزيز وجوده العسكري بشكل دائم.أمن دولي ـ البلطيق منطقة توتر بعد حرب أوكرانيا
حجم قوات الناتو في بحر البلطيق: القدرات والتعزيزات المتوقعة
يمثل حجم قوات حلف شمال الأطلسي (الناتو) في بحر البلطيق مكونًا رئيسيًا لاستراتيجية الحلف في ردع أي تهديد محتمل من الجانب الروسي. وفقًا للتقارير المتاحة، فإن الناتو يحتفظ بوجود عسكري كبير قرب الحدود الروسية، يتكون حاليًا من حوالي 33 ألف عسكري موزعين بين دول البلطيق وبولندا، بالإضافة إلى وحدات دعم بحرية وجوية تعمل بشكل دوري في المنطقة.
القوات البرية
يشمل الانتشار البري للناتو حوالي 300 دبابة وأكثر من 800 مركبة مدرعة، يتمركز معظمها في قواعد رئيسية داخل بولندا ودول البلطيق الثلاث (ليتوانيا، لاتفيا، وإستونيا). تعتمد هذه القوات على نظام التناوب الدوري لضمان بقاء القوات في حالة استعداد دائم، مع إجراء تدريبات منتظمة لرفع كفاءة التنسيق بين الدول الأعضاء. تُعتبر القوات البرية إحدى أبرز أدوات الردع التي يستخدمها الناتو، حيث تعمل كجدار حماية أولي ضد أي تقدم بري محتمل من الجانب الروسي. يتم دعم هذه القوات بوحدات مدفعية متقدمة وصواريخ قصيرة المدى، بالإضافة إلى تقنيات حديثة في المراقبة والاستطلاع.
القوات البحرية
تعتمد قوات الناتو، من الجانب البحري، على وجود سفن حربية حديثة، بما في ذلك المدمرات والفرقاطات، التي تعمل على تأمين الممرات المائية الحيوية في بحر البلطيق. في عام 2024، شاركت 14 دولة من أعضاء الحلف في مناورات بحرية كبرى بقيادة ألمانيا، مما يبرز أهمية التعاون البحري في المنطقة. تشمل هذه السفن أنظمة دفاعية متطورة، مثل أنظمة صواريخ سطح-جو، وأجهزة تشويش إلكترونية، بالإضافة إلى غواصات تعمل على مراقبة النشاط الروسي تحت سطح البحر. في الوقت نفسه، تعمل هذه القوات البحرية على حماية الكابلات البحرية وخطوط الطاقة التي أصبحت هدفًا رئيسيًا للتهديدات التخريبية.
القوات الجوية
القوات الجوية للناتو تلعب دورًا أساسيًا في دعم العمليات في بحر البلطيق. يتم نشر الطائرات المقاتلة بشكل دوري في قواعد جوية قريبة مثل قاعدة “شياولياي” في ليتوانيا، والتي تُستخدم كمنصة رئيسية لعمليات الاستطلاع والدوريات الجوية. تشمل التعزيزات الجوية مقاتلات من طراز “F-35” و”Eurofighter Typhoon”، بالإضافة إلى طائرات استطلاع مثل “AWACS” التي توفر صورة شاملة عن النشاط الجوي في المنطقة.
التعزيزات السيبرانية والبنية التحتية
مع تصاعد التهديدات التخريبية والهجمات السيبرانية، يعمل الناتو على تعزيز دفاعاته السيبرانية كجزء من استراتيجيته الأوسع. تشمل هذه الجهود نشر وحدات متخصصة في الأمن السيبراني، تعمل على حماية البنية التحتية الرقمية تحت البحر، مثل الكابلات البحرية التي تنقل معظم البيانات الدولية. أعلنت بعض الدول الأعضاء، مثل ألمانيا والولايات المتحدة، عن خطط لتوسيع استثماراتها في الدفاع السيبراني، مع التركيز على تطوير أنظمة متقدمة للكشف عن التهديدات وردعها.
التعزيزات المستقبلية
بالرغم من أن الناتو لم يُعلن عن تفاصيل دقيقة حول التعزيزات الجديدة التي أُعلن عنها في ديسمبر 2024، إلا أن التوقعات تشير إلى زيادة كبيرة في حجم القوات والمعدات. قد تشمل هذه التعزيزات إضافة وحدات بحرية جديدة، مثل غواصات وسفن حربية متطورة، وزيادة عدد الطائرات المقاتلة في المنطقة. كما يُتوقع أن تشمل التعزيزات إضافة وحدات برية خاصة، مثل قوات الانتشار السريع، التي تتميز بالقدرة على التحرك بسرعة في حال حدوث تصعيد مفاجئ. بالإضافة إلى ذلك، قد تشمل الخطط المستقبلية إنشاء بنية تحتية جديدة، مثل قواعد عسكرية دائمة أو منشآت تخزين للأسلحة والذخائر.أمن دولي ـ هل دول حلف شمال الأطلسي مجهزة للقتال في القطب الشمالي؟
المناورات العسكرية للناتو في بحر البلطيق
نفذ الناتو، في يناير 2024، واحدة من أضخم مناوراته البحرية في بحر البلطيق، بمشاركة 14 دولة، من بينها الولايات المتحدة وألمانيا. هدفت هذه المناورات إلى تعزيز التنسيق بين القوات البحرية والجوية التابعة للحلف، بالإضافة إلى اختبار استجابتها لتهديدات متنوعة، بما في ذلك التخريب السيبراني والاعتداءات على البنية التحتية تحت البحر. ركزت التدريبات على تأمين الممرات البحرية وضمان سلامة السفن التجارية. كما تضمنت محاكاة هجمات على الكابلات البحرية وخطوط الطاقة، مما يعكس قلق الحلف من التهديدات الروسية. إلى جانب المناورات، عززت دول الناتو من وجودها العسكري الدائم في المنطقة. تشير التقارير إلى أن الحلف نشر حوالي 33 ألف عسكري، وحوالي 300 دبابة، وأكثر من 800 مدرعة بالقرب من حدود روسيا. يمثل هذا الانتشار جزءًا من استراتيجية الردع الموسعة التي تهدف إلى طمأنة الحلفاء وردع أي تصعيد روسي محتمل.
التحديات الأمنية في بحر البلطيق
أبرز التحديات التي تواجه الناتو في بحر البلطيق هو التهديد المتزايد للكابلات البحرية والبنية التحتية تحت الماء. تُعتبر هذه الكابلات شريانًا حيويًا للاقتصاد العالمي، حيث تنقل حوالي 97% من البيانات الدولية، بما في ذلك الاتصالات المصرفية والعسكرية. في الآونة الأخيرة، اشتبهت دول الناتو في تورط روسيا في تخريب كابلات بحرية بالقرب من بحر البلطيق، مما أثار قلقًا واسعًا حول إمكانية تصعيد هذا النوع من الهجمات. إلى جانب ذلك، يمثل التوسع العسكري الروسي تهديدًا كبيرًا. تضمنت أنشطة روسيا نشر غواصات متقدمة وتجهيزات تشويش إلكترونية، مما يعقد من مهمة الناتو في مراقبة وتأمين المنطقة. التحديات لا تتوقف عند الجانب العسكري فقط، بل تشمل أيضًا التهديدات السيبرانية. تتعرض المنشآت العسكرية والمدنية في دول البلطيق بشكل متكرر لهجمات إلكترونية يُعتقد أن روسيا تقف وراءها، مما يجعل تعزيز الدفاعات السيبرانية أولوية قصوى للناتو.أمن أوروبا ـ كيف يمكن لأوروبا والناتو مواجهة تحديات الأمن والدفاع؟
تقييم وقراءة مستقبلية
يعكس حجم قوات الناتو في بحر البلطيق التزام الحلف بالدفاع عن أعضائه في وجه التهديدات الروسية. ومع ذلك، فإن هذا الانتشار الكبير يثير مخاوف من تصعيد التوترات مع روسيا، التي تعتبر هذه التحركات تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي. وفي ظل هذه الديناميكيات، يبقى تعزيز قوات الناتو في المنطقة مسألة توازن دقيق بين الردع الفعّال وتجنب تأجيج المواجهة العسكرية المباشرة.
يمثل إعلان الناتو عن تعزيز وجوده العسكري في بحر البلطيق خطوة استراتيجية لمواجهة التحديات الأمنية المتزايدة في المنطقة. بحر البلطيق ليس فقط ممرًا مائيًا حيويًا، بل أيضًا خط دفاع أساسي ضد التهديدات الروسية. بينما يحمل هذا التعزيز فوائد كبيرة من حيث الردع وطمأنة الحلفاء، فإنه قد يؤدي أيضًا إلى تصعيد التوترات مع روسيا. في ظل هذه الديناميكيات، يبقى مستقبل المنطقة رهينًا بقدرة الناتو وروسيا على إدارة الصراع بحكمة لتجنب مواجهة عسكرية مباشرة.
ويبدو إن المستقبل الأمني في بحر البلطيق سوف يتوقف على قدرة الناتو وروسيا على إدارة التوترات المتصاعدة بحكمة. يبقى الناتو بحاجة إلى الحفاظ على وجود عسكري قوي لتأمين مصالحه، لكن دون تجاوز الحدود التي قد تُفسر كتهديد مباشر من روسيا. على الجانب الآخر، تحتاج روسيا إلى التراجع عن استراتيجيات التصعيد المتكررة للحفاظ على قنوات دبلوماسية مفتوحة.
إذا استمر الطرفان في نهج التصعيد المتبادل، فقد يؤدي ذلك إلى سباق تسلح خطير في المنطقة وزيادة احتمالية نشوب مواجهات غير محسوبة. في المقابل، يمكن أن يسهم الحوار الدبلوماسي في تخفيف التوترات.
يبقى على الناتو الاستثمار في تحسين التعاون بين الدول الأعضاء لتعزيز الاستجابة لأي تهديد، مع توسيع الجهود الدبلوماسية مع موسكو. في حال نجح الحلف في الموازنة بين الحشد العسكري والدبلوماسية، فقد يتمكن من تحويل بحر البلطيق إلى منطقة استقرار نسبي بدلًا من أن يكون بؤرة توتر دائمة.
يتوقع أن تركز استراتيجية الناتو المستقبلية في بحر البلطيق على ثلاثة محاور رئيسية:
تعزيز القوات البحرية والجوية: من المتوقع زيادة عدد الدوريات البحرية والجوية في المنطقة، بالإضافة إلى نشر مزيد من السفن الحربية والطائرات المقاتلة.
تحسين الدفاعات السيبرانية: ستعمل دول الناتو على تعزيز قدراتها في مواجهة الهجمات السيبرانية، خاصة تلك التي تستهدف البنية التحتية الحيوية.
توسيع التعاون مع دول البلطيق: يُعتبر تعزيز التعاون مع ليتوانيا، لاتفيا، وإستونيا أمرًا ضروريًا لتقوية الجبهة الشرقية للناتو.
رابط مختصر..https://www.europarabct.com/?p=99777
*حقوق النشر محفوظة إلى المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات
هوامش
NATO’s military presence in the east of the Alliance
?Is the Baltic Sea a NATO Lake
NATO to Kick Off Largest Baltic Operations Exercise to Date
NATO Is Dangerously Exposed in the Baltic