بون ـ المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات ECCI ـ وحدة الدراسات (26)
تستوعب ألمانيا جنسيات وثقافات مختلفة منذ عقود طويلة، في أعقاب استقبالها أعداد كبيرة من المهاجرين من منطقة الشرق الأوسط وإفريقيا، لذا حرصت على إقرار قوانين ومواد داخل الدستور الألماني، تنص على حرية الاعتقاد وتضمن ممارسة الشعائر الدينية بحرية تامة. واهتمت السلطات الألمانية أن يضم الدستور مواداً تضمن حرية الاعتقاد، وتعزز عملية اندماج المسلمين في المجتمع، وتمنع أي محاولات استغلال من قبل الجماعات الإسلاموية المتطرفة لأي ثغرات في القوانين وملف الاندماج، بهدف استقطاب المسلمين لها ولأفكارها المتطرفة، ومن هنا أصبحت نقطة حرية العقيدة أولوية لدى ألمانيا في سياساتها في مكافحة التطرف.
الدستور الألماني
يعد الدستور الألماني نموذجاً للدساتير في العالم التي تضمن حرية الأديان، حيث تنص المادة الـ (4) من الدستور على ضمان حرية الدين والعقيدة والضمير، إضافة إلى حرية ممارسة الشعائر الدينية، ومنع إكراه أحد على المشاركة في الخدمة العسكرية بما يتعارض مع معتقداته، وتعمل القوانين الاتحادية على تنظيم التفاصيل المتعلقة بتطبيق المادة.
تحظى هذه المادة بأهمية بالغة فيما يتعلق بالحرية الدينية، لاسيما مع تراوح عدد المسلمين من ذوي الأصول المهاجرة الذين يعيشون في ألمانيا ما بين (5.3) إلى (5.6) ملايين مسلم خلال عام 2021، ما يمثل (6.4%) إلى (6.7%) من إجمالي عدد سكان ألمانيا، وهي زيادة تقدر بنحو (900) ألف مسلم عن عام 2015.
تحرص ألمانيا على تطبيق المادة المتعلقة بحرية الاعتقاد، وساهمت المحكمة الدستورية في تحويل القانون الأساسي إلى دستور متكامل ومندمج مع المجتمع، وفي نهاية أربعينيات القرن الماضي بدأ ظهور مسمى “الوطنية الدستورية” بين الألمان، وهو يعني إدراك المواطنين أهمية الدستور وأنه جزء من هويتهم ويضمن لهم الحقوق الأساسية، وتدريجياً وفي مطلع التسعينيات ومع إجراء أول انتخابات ديمقراطية، أكدت ألمانيا على وحدتها بتفعيل الدستور ومواده التي تحمي حريات الأديان.
يكفل الدستور الألماني لكل المواطنين الحق في اختيار المعتقد الديني، وتنظر الدولة إلى كافة الأديان بحيادية تامة وتتعامل معها بتسامح، وفي الوقت نفسه تتعاون مؤسسات الدولة مع المؤسسات الدينية المختلفة، مع الانفتاح على مشاركة مؤسسات المجتمع المدني، لدعم فكرة دمج الأقليات في المجتمع وفي مقدمتها المسلمين، لذا شاركت وزارة الخارجية الألمانية متمثلة في قسم “الدين والسياسة الخارجية” في مؤتمر منظمة “أديان من أجل السلام RfP”، في أغسطس 2019، لدعم العمل المشترك بين الأديان لمواجهة الأزمات والحروب في العالم. محاربة التطرف في ألمانيا ـ جدلية الإسلام والإسلام السياسي. ملف
تشريعات وبرامج تدعم حرية الاعتقاد والاندماج
تعمل السلطات الألمانية طوال الوقت على تحسين برامج الاندماج للمسلمين، وإقرار تشريعات وسن قوانين من شأنها تفعيل حرية الأديان التي يكفلها الدستور الألماني.
برنامج “نيست NEST”
أطلقت ألمانيا في مايو 2019 برنامج نيست، بهدف تقديم رعاية مجتمعية للمهاجرين واللاجئين، بالتعاون مع منظمات الرعاية الاجتماعية والدينية، لمساعدة المهاجرين على الاندماج في المجتمع، حيث أكدت وزيرة الداخلية نانسي فيزر في يوليو 2022 على استمرار عمل البرنامج في أهدافه خلال 2023.
سوق العمل
بعد استقبال ألمانيا موجة لجوء وهجرة قياسية في 2015 و2016، عملت على منح المهاجرين واللاجئين فرصة للعمل لتحقيق الاندماج، حيث أشارت إحصائيات في 2020 إلى أنه نحو (65%) من اللاجئين يمتلكون وظيفة، وتظل اللغة الألمانية عائقاً أمام المهاجرين للالتحاق بالوظيفة، ما دفع المكتب الاتحادي للهجرة واللاجئين “بامف” في 2020 إلى توفير دورات تدريبة لتعلم اللغة الألمانية، ومساعدة المهاجرين للتغلب على أي صعوبات في عملية الاندماج بالمجتمع.
خطة دمج
وضعت ألمانيا في مارس 2021 خطة عمل وطنية للدمج، بمشاركة سياسيين ومنظمات المجتمع المدني، لوضع أنشطة تعليمية ومجتمعية لمكافحة أي تمييز وعنصرية بسبب الدين أو العرق، وتعزيز اندماج المهاجرين المسلمين كجزء من المجتمع.
الجنسية الألمانية
شجعت الحكومة الألمانية في مايو 2021، المهاجرين والأجانب المقيميين في ألمانيا، على الاستفادة من حقهم في الحصول على الجنسية في حال اكتمال الشروط المطلوبة، الأمر الذي يشير إلى تشجيع الحكومية الألمانية للمهاجرين وللمسلمين على المشاركة في الحياة السياسية.
رفع الأذان
رفع مسجد كولونيا المركزي في 14 أكتوبر 2022، لأول مرة الأذان بعد اتفاق مع الاتحاد التركي الإسلامي للشؤون الدينية “DITIB”، يسمح برفع الأذان في (35) مسجداً في كولونيا يوم الجمعة لمدة (5) دقائق وبشرط ألا يتجاوز مستوى الصوت لأكثر من (60) ديسيبل وعلى مسافة (100) متر ولمدة عامين.
جاء هذا الاتفاق بمبادرة من رئيسة بلدية كولون هنرييت ريكر، التي أكدت على أن السماح لنداء المؤذن هو علامة على الاحترام، استناداً على القوانين الألمانية التي تنص على أن نداء الصلاة حق من الحقوق الأساسية للفرد وضمن الحريات الدينية وممارسة الشعائر. محاربة التطرف في ألمانيا ـ جدلية التكامل والاندماج الأجتماعي . بقلم داليا عريان
السماح للمحجبات بالعمل
أكدت السلطات الألمانية في 29 مارس 2023، أنه سيتم السماح للمعلمات المسلمات في برلين بارتداء الحجاب، في أعقاب رفض المحكمة الدستورية الاتحادية الألمانية طعناً قدمته حكومة ولاية برلين، على حكم بشأن عدم جواز حظر ارتداء المعلمات المسلمات للحجاب دون مبرر.
يعد هذا القرار بداية لإعادة النظر في قانون الحياد الصادر في عام 2005، الذي يحظر ارتداء موظفي الخدمة المدنية الملابس والرموز الدينية أثناء تأديتهم للعمل، حيث أشارت لجنة خبراء من مجلس الشيوخ في برلين في سبتمبر 2022، إلى أن قانون الحياد يروج للتمييز ضد المحجبات من دون مبرر موضوعي.
أول مستشار في شؤون الإسلام
نظراً لأن ألمانيا تضم نحو (2800) مسجد، وتظهر خلافات حول سمات بناء المساجد متعلقة بالمآذن، لذا تم تعيين حسين حمدان أول مستشار رسمي في شؤون الإسلام في ألمانيا في 26 أغسطس 2023، للمساعدة على حل الخلافات بين الجمعيات الإسلامية والسلطات المحلية للولايات، خاصة وأنه شديد الحرص على إشراك المسلمين وتحديداً الشباب في المشاريع المجتمعية.
الموقف الألماني من حرية الاعتقاد
تعد الحرية الدينية جزءاً أساسياً من سياسات الحكومة الألمانية، لتعزيز حقوق الإنسان وفقاً للقوانين الدولية والإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948، وتعتبر السلطات الألمانية أن ضمان حرية المعتقد أمر ضروري، ويشمل حق الشخص في تكوين واختيار معتقد وممارسته بحرية تامة سواء بشكل فردي أو مع آخرين، إضافة إلى ضمان الحق في تغيير الانتماء الديني للفرد، وحرية عدم الانتماء لأي دين ومعتقد.
أشار التقرير الثاني للحكومة الألمانية الصادر في 28 أكتوبر 2020، إلى ضرورة تطبيق حق الإنسان في حرية المعتقد، وسبل التعاون بين الأديان وقدرتها على دعم مفاهيم حرية الدين.
تلتزم ألمانيا بجانب شركاء من الاتحاد الأوروبي، بالتوسع في تعزيز الضمان العالمي لحرية الاعتقاد، والحوار بين الثقافات لصالح فهم أفضل بين الناس من مختلف الديانات، كما صادقت على إرشادات الاتحاد الأوروبي بشأن حماية حرية الأديان الذي تم اعتماده في يونيو 2013. ملف: محاربة التطرف – أزمة الهوية والاندماج والتكامل في أوروبا
تقييم وقراءة مستقبلية
– تأتي ألمانيا في مقدمة دول العالم التي نجحت في وضع قواعد، لضمان حرية الاعتقاد وفقاً للدستور والتشريعات القانونية، ما يجعلها مساحة آمنة للكثيرين من المهاجرين والمسلمين، ويتيح الفرصة لتحقيق عملية اندماج المسلمين والأقليات في المجتمع الألماني، ما يحافظ على تماسك المجتمع والأمن القومي، في ظل تزايد مخاطر التهديدات القادمة من الجماعات الإسلاموية المتطرفة من جانب، والجماعات اليمينية المتطرفة من جانب آخر.
– نصوص مواد الدستور الألماني المتعلقة بمسألة حرية المعتقد، تضمن للجميع حق الاحتفاظ بحرية اختيار معتقداتهم، مع حق الانخراط في أي أنشطة مجتمعية وسياسية في المجتمع، وفي الوقت نفسه يحافظ القانون الأساسي للدولة الألمانية على عدم المساس بمبدأ الفصل بين الدين والدولة، ما يحقق توازن في شكل النظام الديمقراطي والأمن المجتمعي.
– تعد التجربة الألمانية في تطوير التشريعات والإجراءات المتعلقة بعملية دمج المسلمين، من أكثر التجارب الأوروبية الناجحة في تحقيق طفرة في اندماج المسلمين داخل المجتمع والحياة السياسية، رغم الحملة التي تشنها الجماعة الإسلاموية المتطرفة ضد سياسات الحكومة الألمانية بشأن الاندماج، ولكن عملت ألمانيا على مدار العقد الأخير في تحسين دور المؤسسات الإسلامية والتواصل الدائم معها من أجل حماية حقوق المسلمين في ممارسة الشعائر الدينية، عبر قرارات رفع الأذان ببعض المساجد يوم الجمعة وفقاً للقوانين الألمانية، وتعيين مستشار لشؤون الإسلام كحلقة وصل بين الجمعيات الإسلامية والسلطات الألمانية.
– برامج رعاية وتأهيل المهاجرين واللاجئين تمثل نقطة رئيسية ومهمة، في عملية دمج المسلمين داخل المجتمع، لأنها ترتكز على منحهم فرص تعلم اللغة الألمانية ومن ثم إتاحة فرص العمل دون أدنى تمييز، لذا سعت ألمانيا منذ موجات نزوح عامي 2015 و2016 في تحسين هذه البرامج وتسهيل عملية قبول المهاجرين بها.
– تفسح ألمانيا المجال أمام المسلمين للمشاركة في الحياة السياسية والمجتمعية، لذا أسندت مهمة مساعدة المسلمين على الاندماج من خلال المكتب الاتحادي للهجرة واللاجئين، والذي نجح في توفير دورات الاندماج والمراكز الاستشارية لمناقشة أي صعوبات تتعلق بالدمج.
– تعد الانتخابات البرلمانية الأخيرة في ألمانيا مؤشراً، على مشاركة المسلمين في الحياة السياسية واقتناعهم بأهمية التواجد داخل الوسط السياسي وبناء المجتمع، وارتفعت نسبة مشاركة المرشحين المسلمين في قوائم الأحزاب السياسية في انتخابات سبتمبر 2021 مقارنة بأي انتخابات سابقة، وانعكس هذا الأمر في استطلاعات الرأي الأخيرة التي كشفت عن أن (81%) من المسلمين يرون أن الديمقراطية الحل الأمثل في الحكم، ما يؤكد على نجاح سياسات ألمانيا في ملف اندماج المسلمين.
– ينبغي على السلطات الألمانية تكثيف الجهود، للتصدي لأي تحديات تعرقل عملية دمج المسلمين في المجتمع وتهدد أسس الدستور والقانون الأساسي للدولة الألمانية، وفي مقدمة هذه التحديات تغلغل الجماعات الإسلاموية المتطرفة بين المسلمين، ونشر أفكارها المتطرفة التي تسعى لعزل المسلمين عن باقي المجتمع الألماني، إضافة لانتشار الإسلاموفوبيا وأفكار معارضة لعملية دمج المسلمين والتي تتبناها تيارات اليمين المتطرف.
رابط مختصر..https://www.europarabct.com/?p=91607
*حقوق النشر محفوظة إلى المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الارهاب والاستخبارات
الهوامش
شاهد: لأول مرة مسجد كولونيا المركزي يرفع الأذان في ألمانيا
https://bit.ly/3F92Wo0
ارتياح بين مسلمي ألمانيا بعد السماح للمحجبات بالعمل في مدارس برلين
https://bit.ly/46JiMS8
المادة الرابعة: حرية الأديان
https://bit.ly/3tmqPWp
Meet Germany’s first Islamic affairs consultant
https://bit.ly/3LW06q2