قضية سكريبال، مواجهة بريطانية روسية تستحضر الحرب الباردة
المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والإستخبارات ـ المانيا وهولندا
تعيش العلاقات البريطانية الروسية ذروة التوتر هذه الأيام على خلفية حادثة تسميم جاسوس روسي سابق. واستعرت الحرب الكلامية والتهديدات في وقت تتنامى فيه الخلافات بين الجانبين في قضايا أخرى كالملف السوري، فهل نرى مواجهة جديدة؟تعيش العلاقات الدبلوماسية بين بريطانيا وروسيا أدنى مستوياتها هذه الأيام بعد حادثة تسمم جاسوس روسي سابق في بريطانيا والتي مازالت تداعياتها تتواصل. ففي آخر التطورات أمهلت لندن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حتى منتصف ليلة اليوم لتفسير استخدام غاز أعصاب طوره الاتحاد السوفياتي في الهجوم على الجاسوس المزدوج السابق والذي كان يمرر أسرارا للمخابرات البريطانية.
ويرقد سيرغي سكريبال البالغ من العمر 66 عاما وابنته يوليا ابنة الثالثة والثلاثين في المستشفى في حالة حرجة منذ الرابع من مارس آذار الجاري بعدما عثر عليهما فاقدي الوعي على مقعد خارج مركز للتسوق في مدينة سالزبري جنوب إنجلترا.تهديدات بريطانيا الشديدة يواجهها غضب روسي وإنكار مستمر لتورط روسيا في الحادث، ووسط الحرب الكلامية المستعرة بين البريطانيين والروس، أعلنت كل من الولايات المتحدة ودول من الاتحاد الأوروبي دعمها للموقف البريطاني وهاجمت روسيا. وجاء حادث العثور مساء اليوم على روسي مقيم في المنفى ميتا في لندن في ظروف غامضة ليزيد الأمور تعقيدا.
لكن حادث تسمم الجاسوس الروسي ليس سوى نقطة في لائحة خلافات أخرى بين الطرفين. فهل يتطور الأمر إلى مواجهة بين القوتين؟
ما مدى جدية التهديدات؟
حادثة الجاسوس سيرغي سكريبال تذكر بشكل كبير بقضية شبيهة تعود لسنة 2006 عندما قضى العميل السابق في أجهزة الاستخبارات الروسية الكسندر ليتفينينكو متسمما بمادة البولونيوم 210 وذلك بعد معاناة دامت لأسابيع. ووقتها أيضا وجهت لندن اتهامات شديدة اللهجة لموسكو وصفتها الأخيرة بـ”المهزلة”.
يضاف إلى هاتين الحالتين وفيات مشبوهة في بريطانيا لشخصيات روسية منها مثلا رجل الأعمال الكسندر بيريبيليتشني أوالمليادير السابق بوريس بيرزوفسكي. وكلها حالات كانت فيها الشبهات تحوم حول موسكو.
حزم بريطانيا في حالة سكريبال يرده الصحفي والخبير في الشأن الروسي رائد جبر ليس فقط إلى أن روسيا، في حال ثبت تورطها فعلا، تكون قد تجرأت على استهداف شخص تحت رعاية بريطانيا وعلى أراضيها، ولكن أيضا إلى أن هذه الحادثة فتحت ملفات لحالات اغتيال أخرى استهدفت 13 شخصية روسية في بريطانيا لها علاقة بملفات روسية وكلها توفيت في ظروف غامضة. ويضيف الخبير في حديث لـDW عربية أن استخدام غاز الأعصاب يشكل مؤشرا قويا لأن الأخير لا تملكه سوى الدول وهو وسبق أن استخدمت روسيا غازا مشابها في 2006 لإنهاء عملية احتجاز رهائن من طرف إرهابيين في مسرح في موسكو وهو ما أدى وقتها إلى وفاة مئات الأشخاص.
وبخصوص الإجراءات التي يمكن أن تتخذها بريطانيا في حق روسيا في حال ثبوت تورط الأخيرة. يقول جبر: “هناك الكثير والتوقعات لكن هناك مخاوف من وضع لائحة عقوبات جديدة قد تكون هذه المرة مرتبطة بأجهزة أمنية متهمة بتنفيذ هذه العملية وهذا سيعني استهداف شخصيات مرتبطة بشكل مباشرة بالكرملين”، ويضيف “وقد نرى تقليصا للحضور الدبلوماسي كما حدث في السابق أو تجميد أرصدة أو منع شخصيات روسية من دخول بريطانيا، وقد نرى أيضا حزما أكثر شدة من بريطانيا في التعاطي مع روسيا في ملفات كسوريا وأوكرانيا وفي هذا السياق قد تذهب لندن إلى ما ذهبت إليه واشنطن في الملف الأوكراني أي إمداد كييف بأسلحة”. لكنها تبقى كلها تكهنات كما يقول المحلل السياسي. ووصل التوتر بين موسكو ولندن إلى تهديد الأخيرة بسحب منتخبها من كأس العالم المزمع تنظيمه في روسيا هذا العام.
بريطانيا غاضبة جدا من تسميم جاسوس روسي تحت رعايتها وعلى أراضيها.
موسكو ردت مسبقا على أي عقوبات بريطانية محتملة من خلال وزارة خارجيتها التي توعدت اليوم الثلاثاء بأن التهديدات البريطانية بفرض عقوبات على موسكو بشأن تسميم جاسوس روسي سابق لن تمر دون رد، مؤكدة أن المزاعم الزائفة بتورط روسيا في ذلك يعد استفزازا. ويؤكد المسؤولون الروس عدم وجود أي علاقة لهم بالهجوم وأنهم سيتجاهلون الإنذار حتى تقدم لندن عينات من الغاز الذي استخدم في الهجوم وتبدأ روسيا حينئذ في الالتزام بتعهداتها بناء على معاهدة الأسلحة الكيماوية التي تنص على إجراء تحقيقات مشتركة في مثل هذه الحوادث.
على صعيد آخر، حذرت الناطقة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا الثلاثاء من أنه لن يسمح لأي وسيلة إعلام بريطانية من العمل في روسيا في حال إغلاق محطة “روسيا اليوم” في بريطانيا. وكان منظم وسائل الاعلام المرئية والمسموعة البريطانية “اوفكوم” أعلن سابقا أنه يمكن أن يتخذ قرارا بخصوص الترخيص الممنوح لشبكة “روسيا اليوم”، معتبرا أنها أداة دعاية موالية للكرملين، وذلك ردا على الاشتباه بمسؤولية موسكو في تسميم عميل مزدوج سابق في بريطانيا.
لائحة طويلة من الخلافات
لكن حدة اللهجة الحادة المتبادلة بين لندن وموسكو تفسرها أيضا علاقات بين الجانبين هي في الأصل متوترة لعدة أسباب ففي الأشهر الاخيرة تزايدت بشكل كبير عمليات اقتراب الطائرات والسفن الروسية من المياه الإقليمية البريطانية ما دفع بلندن الى تصعيد اللهجة حيال الكرملين.وقد أكدت لندن في أبريل من العام الماضي “أن البحرية الملكية متيقظة ومستعدة لضمان أمن بريطانيا” في حين تمت مواكبة سفينتين عسكريتين روسيتين خارج بحر الشمال. وخلال فترة عيد الميلاد أظهر وزير الدفاع البريطاني غافين ويليامسون حزما أكبر بعد توغل جديد لفرقاطة روسية. وأعلن وقتها أنه لن يسمح بأي شكل من أشكال العدوان. وأضاف أنه “لن تسمح بريطانيا ابدا لاي كان بترهيبها عندما يتعلق الأمر بحماية شعبها ومصالحها الوطنية”.
في يناير اضطر سلاح الجو على مواكبة مقاتلتي توبوليف روسيتين خارج المجال الجوي البريطاني. وقال الوزير “تزداد التهديدات التي تواجهها بلادنا. لن نتردد في الدفاع عن مجالنا الجوي ضد أي عدوان”. وكان مايكل فالون سلف ويليامسون قد أعرب عن قلقه حيال موقف روسيا “الذي يزداد عدائية” وبادرت بريطانيا في 2017 إلى تعزيز كتيبته المنتشرة في قاعدة للحلف الأطلسي في استونيا في إحدى أكبر عمليات الانتشار للقوات البريطانية في أوروبا الشرقية منذ عقود في خطوة اعتبرها بعض المراقبين استعدادات للحرب مع روسيا.
في 2016 انتقد نواب بريطانيون “التدخل” الروسي عبر مواقع التواصل الاجتماعي، في حملة الاستفتاء حول البريكست. وفي فبراير أعلنت الحكومة البريطانية أن روسيا “مسؤولة عن هجوم الكتروني مدمر” وقع في يونيو 2017 ألحق الأذى بمجموعة “دبليو بي بي” الاعلانية، الأولى في العالم. كما سبق و اتهمت رئيسة الوزراء تيريزا ماي روسيا باطلاق حملات “للتجسس المعلوماتي” والتأثير على الانتخابات من خلال نشر معلومات خاطئة على الانترنت. وقالت في خطاب “أوجه رسالة بسيطة الى روسيا. نعلم ما تفعلونه ولن تنجحوا”. ورغم كل ذلك لا يرى الخبير رائد جبر أن تراكم المشاكل بين بريطانيا وروسيا يمكن أن يتحول إلى مواجهة عسكرية. ويقول في هذا السياق: “الآن نعيش الحرب الباردة والسباق نحو التسلح وحروب الوكالة. المواجهات بين القوى العظمى أصبحت تتم بهذا الشكل كالمواجهة بين الروس والأمريكان في سوريا من خلال الاعتماد على محاور داخلية”.
الملفان الأوكراني والسوري
ويعتبر الملف الأوكراني من نقاط الخلاف الكبرى بين لندن وموسكو فمنذ بدء المواجهات في أوكرانيا أواخر 2013 نددت بريطانيا بشدة بالسياسة التي ينتهجها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حتى أنها أصبحت من الأصوات الأكثر انتقادا لضم روسيا لشبه جزيرة القرم الذي تعتبره غير شرعي. وفي نهاية فبراير دافع وزير الخارجية البريطاني بوريس جونسون عن العقوبات المفروضة على موسكو قائلا “من واجبنا جميعا التصدي لروسيا”.
وبالإضافة إلى أوكرانيا يصطدم التدخل الروسي في سوريا بمعارضة كبيرة أيضا من لندن، ففي مطلع مارس من هذا العام اتهم البريطانيون مجددا الجيش الروسي بالمشاركة في عمليات القصف الى جانب الجيش السوري رغم التصويت على وقف لاطلاق النار في الامم المتحدة. وحمل وزير الخارجية البريطاني روسيا مسؤولية وقف إطلاق النار طالبا منها “وقف أعمالها العدائية فورا”. ويقول رائد جبر إن بريطانيا جاءت بأكثر من مشروع قرار إلى مجلس الأمن حول سوريا يركزعلى الجانب الإنساني وموسكو أجهضت باستعمال حق النقض الفيتو مشروعي قرار من بريطانيا على الأقل، وطبعا هذا ولد غضبا في بريطانيا وانتقادات حادة للروس. باختصار توجد مواجهة مستمرة بين الجانبين داخل وخارج مجلس الأمن، لا توجد قنوات حوار ولا يوجد أي تنسيق. هي عبارة عن حرب باردة”.
سهام أشطو DW
بالاشتراك مع ال