الدكتور محمد الصالح جمال – باحث في المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب و الإستخبارات ألمانيا و هولندا
استغل تنظيم داعش الصراع السوري، الذي اندلع في 2011 بمظاهرات ضد الرئيس بشار الأسد، من أجل إقامة موطئ قدم له في سوريا والعراق. وبعد تزايد قوة التنظيم خاصة في 2014، التي شهدت استيلاء التنظيم الإرهابي على مساحات شاسعة من الأراضي في كلا البلدين، أعلن داعش عن تأسيسه لما سمي “الخلافة” في 2014 ، والتي اجتذبت الآلاف من المقاتلين من مختلف مناطق العالم. إلا أن تنظيم داعش تراجع وفقد جميع الأراضي التي احتلها في العراق ومعظم المناطق التي كانت تحت سيطرته في سوريا.
وتحدث العديد من الخبراء الأمنيين عن أن “عودة هذه العناصر إلى افريقيا يشكل تهديدات خطيرة للأمن والاستقرار الوطنيين مما يتطلب علاجا محددا وتعاونا مكثفا بين الدول الإفريقية في سبيل منع تفاقم خطر هؤلاء العناصر”.
في البداية الكثير من دول شمال افريقيا لم تعتمد تدابير محددة لمنع مواطنيها من الخروج للقتال في سوريا، وفي بعض الحالات ، هناك من الدول التي وافقت ضمنيا على ذهاب مواطنيها إلى سوريا للقتال ضد نظام الأسد. ومع ذلك ، فإن المخاوف بشأن ذهاب مواطنيها إلى سوريا والعراق للقتال بقيت قائمة. و لم تتخذ معظم دول شمال افريقيا التدابير اللازمة للتصدي للتحديات التي يفرضها المقاتلون الأجانب إلا بمجرد ان “قدامى المقاتلين” من سوريا والعراق قد بدأوا في العودة إلى ديارهم.
لكن يبدو أن الجزائر كانت الإستثناء ، إذ اتخذت بالفعل تدابير وقائية و ردعية لمنع مواطنيها من القتال في الصراعات الخارجية ، وذلك عبر سنّ قوانين صارمة و تكثيف الرقابة على الحدود و الإستغلال الجيد للمعلومات من طرف مختلف الأجهزة الأمنية الداخلية و التنسيق الأمني والإستخباراتي على المستوى الإقليمي بالمقارنة مع جيرانها من دول شمال إفريقيا.
وقد كانت إفريقيا في مرمى التنظيم و هذا ما ذكرته مجلة تنظيم داعش ” دابق “، حيث أشارت هذه الأخيرة إلى أن عدة مناطق ستكون جزءا من “الخلافة” ، بما في ذلك منطقه شمال افريقيا التي تشمل ليبيا وتونس والمغرب والجزائر وموريتانيا. وعلى الطرف الآخر ، فإن تدهور الحالة الأمنية والسياسية في ليبيا تعني أن الحكومة الليبية تفتقر إلى القدرة على التصدي بشكل كبير لظاهرة المقاتلين الأجانب، على اعتبار أن حالة اللاأمن و اللاإستقرار و ضعف الأجهزة الأمنية والإستخباراتية والعسكرية ، هي التي تجذب هذا النوع من المقاتلين و تدفعهم للعودة إلى بؤر التوتر الجديدة .
عودة “الجهاديين” والمقاتلين الأجانب وإعادة التموقع
تشير ليزا واتانابي في أحد أهم دراستها حول هذا الموضوع إلى عودة بعض المقاتلين الأجانب بالفعل إلى أوطانهم الأصلية أو إلى أماكن إقامتهم في شمال إفريقيا. وكان من بين هؤلاء حوالي 800 تونسياً، و220 مغربياً، وما لا يقل عن 87 جزائرياً (أي ما يصل إلى 25 و13 و33 بالمئة على التوالي من الأعداد الإجمالية للمقاتلين الذين غادروا إلى سوريا والعراق). ونظراً للأهمية الاستراتيجية التي تحظى بها ليبيا بالنسبة لتنظيم داعش ، فمن المرجح عودة عدد من المقاتلين الأجانب الليبيين إلى وطنهم، على الرغم من عدم توفر إحصائيات رسمية بهذا الشأن.
و بغض النظر عن المقاتلين الأجانب الذين تم إلقاء القبض عليهم، فقد عاد العديد منهم سرّاً إلى بلادهم، خاصةً وأن عودتهم عبر المنافد الحدودية الرسمية قد تؤدي إلى اعتقالهم. ومن غير المرجّح أن يكون العائدون الذين خابت آمالهم أو أولئك الذين يخضعون لمراقبةٍ شديدة من قبل الأجهزة الأمنية العاملة في أوطانهم مصدر خطرٍ كبير. ويتمثل الخطر الأكبر في الآخرين الذين يحظون بالمهارات المعقدة والشبكات الشاملة.
ومن الممكن إرسال هؤلاء في بعض الحالات إلى الوطن لمواصلة القتال هناك. وتم تأسيس جيب تنظيم “الدولة الإسلامية” في ليبيا على يد المقاتلين الأجانب الليبيين الذين عادوا من سوريا في عام 2014. وفي الوقت الذي من المستبعد فيه تكرار تكوين جيبٍ مماثل لهذا الجيب في مكانٍ آخر، إلا أن انتباه بعض العائدين قد يتحوّل نحو أوطانهم. وبالفعل، فقد أعلن بعض المقاتلين الأجانب التابعين لتنظيم داعش والذين يحملون الجنسية المغربية عن عزمهم شن الجهاد ضد المملكة هناك.
قد لا تؤثر عودة المقاتلين الأجانب على الشبكات الجهادية الوطنية فحسب، بل أيضاً على الشبكات الجهادية الإقليمية. وقد تشكّل عودة هؤلاء المقاتلين دعماً للشبكات الجهادية الإقليمية لتصبح أكثر قوة. وعلى الأرجح، فقد حصل العديد من العائدين على التدريب في ليبيا قبل سفرهم إلى سوريا والعراق، ما يعني إمكانية تمتع العديد منهم بعلاقاتٍ جهادية في ليبيا. وسافر التونسيون على وجه الخصوص بأعدادٍ كبيرة إلى سوريا والعراق، وكانوا على الأرجح قد حصلوا على التدريب ومروا أولاً عبر ليبيا، ما يوحي بأن الشبكات الجهادية التونسية – الليبية قد تحصل على دعم نتيجة عودة هؤلاء المقاتلين.
قد يتأثر الأمن الإقليمي بشكلٍ أكبر بسبب أولئك الذين لا يرغبوا بالعودة إلى ديارهم ويفضلون إعادة الانتشار في الولاية الأخيرة التي ما تزال يسيطر عليها تنظيم “الدولة الإسلامية” في شمال إفريقيا – وهي محافظة سيناء في مصر – أو في ليبيا التي ما تزال محاولات تنظيم “الدولة الإسلامية” لإعادة تجميع صفوفه فيها قائمة. وفي الواقع، فقد انتقل العديد من مقاتلي تنظيم داعش من سوريا إلى ليبيا في أعقاب الهجمات العسكرية التي تم شنها ضد معقل تنظيمهم هناك منذ عام 2015.
و من المحتمل أنه كلما تواصل سقوط تنظيم داعش في سوريا والعراق كلما أدى ذلك إلى ارتفاع هذا الرقم. وقد لا يؤثر هذا الأمر على ليبيا فحسب، بل أيضاً على الدول المجاورة لها. وكانت تونس قد تضررت بشكلٍ كبير نتيجة تواجد تنظيم “الدولة الإسلامية” في ليبيا. وتم تنفيذ أكبر الهجمات الإرهابية التي شهدتها تونس في عام 2015 على متحف باردو بالعاصمة تونس ومنتجع شاطئ تونس على يد أفراد تم تدريبهم في ليبيا.
وعلى سبيل المثال، فقد تم التخطيط لمحاولة الاستيلاء على مدينة بن قردان الحدودية في عام 2016 على يد إحدى خلايا تنظيم داعش التي اتخذت من مدينة صبراتة الحدودية مقراً لها ، و كان اخرها في أكتوبر 2018 عندما فجرت امرأة تونسية نفسها في شارع الحبيب بورقيبة بتونس العاصمة مخلفة بذلك ثمانية جرحى. ويتم استخدام النساء كمجنّدات للقيام بمهماتٍ انتحارية ، وعلى هذا النحو، قد تواصل بعض النساء العائدات المشاركة في عمليات التجنيد في أوطانهن أو في الانخراط ضمن الأعمال الإرهابية.
ودعا قادة تنظيم داعش النساء العائدات لإعداد أنفسهن للقيام بمهامٍ جديدة قد تتضمن تنفيذ الهجمات الانتحارية أو تربية الأطفال على أن يكونوا من المقاتلين المستقبليين في صفوف التنظيم. وفي الوقت الذي قد يكون فيه العديد من الأطفال أصغر من أن يتم تدريبهم على المهارات القتالية، فقد أشارت تقارير إلى تلقين بعض الأطفال الذين لم يتجاوز عمرهم تسع سنوات لتعاليم التنظيم، بالتزامن مع تعليمهم على استخدام الأسلحة.
تدابير دول شمال افريقيا في مواجهة “الجهاديين” والمقاتلين العائدين
تعاملت خمسة دول من شمال افريقيا-الجزائر ومصر وليبيا وتونس والمغرب مع معضلة عودة الجهاديين و المقاتلين الأجانب من خلال مجموعة إجراءات و تدابير تستهدف الحد من المخاطر التي يمكن أن تنجم عن عودتهم.
ـ تونس
لا تزال تونس بصدد وضع استراتيجية واضحة للتعامل مع الجهاديين و المقاتلين الأجانب العائدين من سوريا و العراق. في بعض الحالات، تلاحق السلطات التونسية الجهاديين و المقاتلين الأجانب العائدين، و في حالات أخرى تراقبهم وتعيد إدماجهم في المجتمع. وقد سجن بعض العائدين من سوريا والعراق لشهور دون محاكمة ، بينما تم الإفراج عن آخرين بعد عدة أيام من الإحتجاز،
و حسب وزير الداخلية السابق بن جدو فإنه قد تم سجن ثلث العائدين. كما أن السلطات التونسية تراقب العائدين الذين لا يتم سجنهم، و قد أنشئت في سبيل ذلك قاعدة بيانات لتسجيل الجهاديين و المقاتلين الأجانب العائدين من الخارج بهدف رصد وتتبع تحركاتهم. وبهدف إزالة التطرف وإلغاء تعبئة الجهاديين و المقاتلين الأجانب العائدين من الخارج ، وضعت الحكومة التونسية برنامج عفو لإعادة إدماج مجتمعي للجهاديين و المقاتلين الأجانب العائدين الذين لم يقتلوا أي شخص أو الذين يسلمون أسلحتهم ، ولكنه لا ينطبق على الأعضاء المعروفين في تنظيم القاعدة أو جماعه أنصار الشريعة . وتتعاون السلطات التونسية أيضا مع المنظمة الدولية للشرطة الجنائية (الإنتربول). هذه الأخيرة تعمم مذكرات تتضمن أسماء الأشخاص الذين يعتقد أنهم متورطون في القتال في سوريا والعراق ، مع التركيز على من هم في صفوف جبهة النصرة .
ـ المغرب
وفي تموز/يوليو 2014 ، قالت وزارة الداخلية المغربية أنها اعتقلت أكثر من 120 مقاتلا أجنبيا عائدين من سوريا منذ بداية الصراع هناك. لكن حسب الكثيرين فإن إطار الاعتقال غير واضح. ومع ذلك ، فإن تعديلات سنة 2015 التي أدخلت على قانون الإجراءات الجنائية وقانون العقوبات تمكّن السلطات المغربية الآن من اعتقال ومحاكمة الجهاديين و المقاتلين الأجانب العائدين من الخارج. وتنظر الحكومة المغربية في إنشاء أليات يمكن من خلالها إعادة إدماج المقاتلين الأجانب العائدين إلى الخارج في المجتمع ، شريطه أن لا يشكلوا خطرا على الأمن الوطني.
كذلك ، المغرب عضو في الإنتربول ، بالتالي يمكن لها تلقي تنبيهات الإنتربول بشأن الجهاديين و المقاتلين الأجانب المشتبه فيهم ، و أيضا إبلاغ الإنتربول بجوازات السفر المسروقة أو المفقودة التي قد يستخدمها الجهاديون و المقاتلون الأجانب المسافرون إلى سوريا والعراق.
ـ الجزائر
اعتمدت الجزائر على تدابير جنائية للتصدي لمخاطر عودة الجهاديين و المقاتلين الأجانب (المادة 87 من قانون العقوبات)، على الرغم من أن سياسات الجزائر للتصدي لتعبئة الجهاديين بصفة عامة و التي استقتها من خبرتها في العشرية السوداء ، يعطي السلطات الجزائرية خبرة كبيرة في كيفية التعامل مع الجهاديين و المقاتلين الأجانب و حتى إدماجهم مرة أخرى في المجتمع. يمكن كذلك لمسؤولي أمن الحدود في المطارات الجزائرية ، فضلا عن الحدود البرية والبحرية ، الوصول إلى قواعد بيانات الإنتربول العالمية ، بالتالي سهولة تبادل المعلومات حول تحركات الجهاديين من و إلى الجزائر.
ـ ليبيا
تفتقر الحكومة الليبية المعترف بها دوليا إلى استراتيجية حقيقية للتصدي للمخاطر المتصلة بعودة الجهاديين و المقاتلين الأجانب. في الوقت الحاضر ، لا تتوفر سوى على الميكانيزمات القانونية التي تمكّن محاكمتهم من حيث المبدأ. حيث تسمح المادة 9 من مشروع قانون مكافحة الإرهاب الذي وضعته الحكومة المؤقتة السابقة من إلقاء القبض على الجهاديين و المقاتلين الأجانب العائدين و احتمال محاكمتهم. ويبدو أنه لا توجد تدابير إدارية و أمنية ، مثل قواعد البيانات المتعلقة برصد و تتبع الجهاديين والمقاتلين العائدين أو حتى تدابير للتصدي للتعبئة الجهادية. وقبل الأزمة السياسية ، أقامت ليبيا علاقات تعاونية مع الإنتربول.
في 2012 ، أطلقت الأنتربول برنامج ” إعادة بناء قدرات التحري في ليبيا ” ، وهي مبادرة ممولة من طرف الاتحاد الأوروبي ، تهدف إلى تحسين قدرات السلطات الليبية في مجال التحقيقات والتحريات الأمنية والإستخباراتية فيما يتعلق بالأنشطة الإرهابية. وعلى الصعيد متعدد الأطراف ، شاركت ليبيا أيضا في حلقات العمل التي نظمها معهد الأمم المتحدة الإقليمي لبحوث الجريمة والعدالة لإعادة تأهيل المتطرفين العنيفين.
ـ مصر
تم اعتقال الجهادين والمقاتلين الأجانب المصريين العائدين من سوريا ، و ذلك بموجب قانون مكافحة الإرهاب الجديد ، الذي يجرم الانضمام إلى منظمه إرهابية و ارتكاب أو محاولة ارتكاب عمل إرهابي داخل الأراضي المصرية أو خارجها. ويبدو أنه لا توجد تدابير غير قانونية تتعلق بالمقاتلين بالجهاديين و العائدين من الخارج ، مثل إنشاء قواعد بيانات لرصد تحركات العائدين وتتبعها. ويبدو انه لا توجد اي تدابير للتصدي للتعبئة و البروباغوندا الجهادية.
السلطات المصرية تتعاون مع الإنتربول و لديها إمكانية الوصول إلى قواعد بياناتها ، بما في ذلك الأشخاص المطلوبين ووثائق السفر المفقودة التي قد يتم استخدامها في تعبئة جهاديين داخل و خارج مصر.
رابط مختصر : https://www.europarabct.com/?p=52335
* حقوق النشر محفوظة إلى المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والإستخبارات
الدكتور محمد الصالح جمال