اعداد : هشام العلي، باحث متخصص في الدفاع والتسلح
المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والإستخبارات ـ المانيا وهولندا
مشكلة البحث الحالي تكمن في شحة المعلومات المستنبطة من افادات المقاتلين ضمن خطة ( دراسات ما بعد المعركة) والتي وجدنا صعوبة بالغة في الحصول عليها ولاسباب عديدة لا يمكننا شرحها حاليا … لكن وفي كل الاحوال يمكننا الاستمرار في البحث استنادا الى المعلومات والمعطيات العامة للقواطع وانتشار القوات فيها والوضع التعبوي والسوقي اضافة الى بعض المعلومات المتيسرة من افادات المقاتلين…
من خلال دراستنا لمرحلة ما بعد الحرب الحالية يتحتم علينا ان نتناول صفحة الدفاع التي ستكون صعبة جدا على بغداد بسبب مواجهتها للمتطرفين والانفصاليين ومن خلال معارك سوف تترافق في توقيتاتها بالنظر لابسط مفاهيم الحرب .. اضافة الى كون الجبهة المعنية بالدفاع تاخذ شكل العمق الواسع وليس الخط المتواصل كما هو معروف في شكل الحرب اللانظامية (حرب العصابات)..
وهو التحدي الاكبر لبغداد وقواتها المشتركة التي تتعرض الى تهديد جدي في جبهة تتجاوز مساحتها 229000كم مربع موزعة على اتجاهات شمال وشرق وغرب وشمال غرب وجنوب غرب بغداد حتى الحدود السورية والاردنية والسعودية .. اضافة الى كون المناطق المتنازع عليها تتشابك فيها التهديدات نظرا لطبيعتها الديموغرافية .. كما ان الدفاع يجب ان ياخذ اولوية قصوى على المدى السوقي والاستراتيجي لكون خسارة اية مدينة مرة اخرى سيكون لها مردودات سياسية اسوأ بكثير من المردودات السابقة كونها ربما قد تؤدي الى التدويل او تحول العراق الى سوريا اخرى .. اضافة الى ان سيناريوهات الاضطرابات في المنطقة تجعل خطر التهديد ضد قواتنا مستمر الى امد بعيد ..
ايضا هناك دلائل تشير الى احتمال عودة المسلحين مرة اخرى بالاستفادة من المعطيات السياسية والاجتماعية والاقليمية الحالية والمحتملة .. اذن اصبحت صفحة الدفاع القادمة هي الصفحة الاعقد والاخطر والاهم بعد صفحات تحرير المدن العسيرة والدامية ..
ولذلك فنحن ملزمين بتناول مفهوم الدفاع وتهيئة القوات المشتركة وتاهيلها له وفقا للمفاهيم العلمية الحديثة واستنادا على الامكانيات المادية المتيسرة.. وهنا وقبل ان نقحم انفسنا في المفهوم العام للدفاع يجب التنويه الى انه من غير الممكن تناول مفاهيم الدفاع من خلال دراسة خواص الاسلحة التي تمتلكها القوات المشتركة.. وذلك بالنظر للتناقض الكبير في نوع وكميات وخواص وكفاءة تلك الاسلحة وتعدد مناشئها الشرقية والغربية ما يجعل كل تشكيل او موضع دفاعي يحتاج الى دراسة منفصلة تشمل خواص الاسلحة مع الامور الخاصة بالدفاع في ذلك الموضع او القاطع..
وهي مسألة صعبة للغاية كوننا لا نملك صفة رسمية تمكننا من الاطلاع على التفاصيل المطلوبة … ولذلك نرى ان اكبر ما نستطيع فعله هو تناول فلسفة الدفاع ومفاهيمه العامة وكيفية تطبيقها وفقا للعناصر الجغرافية والديموغرافية والتهديدات الجيبولتيكية واستنادا على التجارب المريرة التي خاضتها القوات المشتركة قبل واثناء وبعد كارثة انهيار القوات في منتصف عام 2014م وعمليات التحرير ومسك الارض حاليا.
اعتقد ان فلسفة الدفاع بالنسبة لبغداد يجب ان تتستند على نقطتين اساسيتين اولهما (العمق الاستراتيجي) وقد تناولناه في بحث منفصل نشر على شكل حلقات على
صفحة المركز الاوربي لدراسات مكافحة الارهاب والاستخبارات بعنوان (العراق ونظريات العمق الاستراتيجي) اشرنا من خلاله الى العناصر الجيوثقافية والجيوستراتيجية والجيبولتيكية والمشاكل التي تمثل التهديد الاكبر للبلد في ظل الاوضاع الاقليمية والعالمية المتوترة, وطرحنا من خلاله عشرات التساؤلات الموجهة للجامعات العراقية والاساتذة اصحاب الاختصاصات في المجالات المعنية وخصوصا (السياسة, الاقتصاد, الاجتماع, العلاقات العامة, الاعلام, علوم الحرب) واعتبرنا ان الاجابة على تلك التساؤلات والعمل وفق النظريات الاصح المتيسرة كفيلا باخراج البلد من ازماته ومن ثم (وقف التهديد المعادي) بما يحقق عنصر (العمق الاستراتيجي) المهم جدا لاية دولة تعيش في اوضاع محلية واقليمية متوترة ..
اما النقطة الاساسية الثانية لفلسفة الدفاع فهي (الاستراتيجية والتكتيكات الدفاعية العامة) والتي يجب ان تدرس وفق بعض الاسس النفسية والاجتماعية والذهنية للحرب ومن خلال طرح بعض الاسئلة تكون الاجابات عليها منطلقا لفلسفة جديدة تلائم صفحة الدفاع المهمة والخطيرة للغاية ومن اهم تلك الاسئلة:
1. مشكلة الدفاع تكمن في ان معطيات المعركة والمعلومات المتيسرة عن الاحداث خلالها لا تاتي دفعة واحدة بل بصورة متتالية تغلب عليها الضبابية, حيث لا يوجد يقين مطلق في الحرب.. والضباب والشك هما عنصران ملازمين للمعركة خصوصا الدفاعية, كما تكون هناك ضرورة للتركيز على قوانين الاحتمال والصدفة اثناء المعركة.. ولذلك يجد القادة انفسهم في اوضاع ذهنية متوترة تشل القدرة على الابداع في الحين الذي يفترض على القائد دائما ان يراهن على عنصر المرونة في الزمن ويسمح للمعركة ان تدوم وتستمر لفترة اطول مما خطط لها المهاجم من خلال عمليات المناورة والمخادعة والمقاومة..
وهنا نتسائل هل الامكانيات النفسية للقادة والضباط والصلاحيات المتاحة لهم تمكنهم من تجاوز الازمة الذهنية والمشكلة النفسية للمعركة؟.. وهل لدينا عدد كاف من القادة ممن لديهم خبرة عالية وطاقة نفسية تؤهلهم للسيطرة على الموقف العام رغم بعض الانتكاسات الحاصلة وتحويله بمرور الوقت الى جانبهم؟.. هل يستطيع القائد الحالي في مواجهته لمعطيات المعركة ان يميز بين الحقيقي والوهمي او بين الواضح والمشكوك فيه وان يتخذ القرار الصحيح في تلك الاجواء الغامضة وهو في اجواء المعركة المعروفة بضبابيتها وغموضها ومفاجئاتها .. وهل هو على استعداد لتحمل نتائج قراراته .. وما هو مدى الثقة في كون القوات قد وضعت في اوضاع فعالة لمواجهة الاحداث العرضية المفاجئة؟..
2. من اهم اسس الدفاع هو محاولة الحفاظ على التوافق والتوازن والتناغم من اجل الوصول الى النتيجة النهائية التي من المفترض ان تتمثل في (وقف التهديد المعادي).. حيث يفترض انه في حالة حصول احباطات او انتكاسات او تعثر للاعمال الدفاعية في قاطع معين او عدت قواطع فان على القيادات ان تحافظ على استراتيجيتها وخططها العامة, ويكون ذلك من اهم اولوياتها في مثل تلك الاحداث..
في نفس الوقت الذي يكون فيه للسعي لدعم الوحدات المتعثرة والمنتكسة ومحاولة انعاشها اهمية بالغة من دون ان يؤثر ذلك على امكانية تعديل الاستراتيجية او التخلي عن بعض بنودها.. وبمعنى اخر فان الانتكاسات او التعثرات التي تحصل هنا وهناك غير كافية لتبرير الاضطراب في مجمل العمليات الدفاعية او انهيار الدفاع بصورة عامة ..
من عوامل الوهن في فلسفة الدفاع العراقية السابقة عدم توازن القيادة في التعامل مع الاحداث بسبب تعثرات او انتكاسات حدثت هنا وهناك, في الحين الذي كان من المفترض ان تكون القيادات متمتعة بمهنية وصلاحيات تؤهلها لمواصلة العمليات الدفاعية دون ان تتاثر بضبابية المواقف التي سببتها الانتكاسات الحاصلة.. والسؤال الذي يطرح نفسه بالحاح هو لماذا اثرت انتكاسة الفلوجه عام 2013م وما رافقها من عمليات دامية ضد قواتنا في الجبهة الغربية على الوضع العام واختفت الاستراتيجية الدفاعية عندها.. وهل كان لانتكاسة الموصل منتصف عام 2014م مبررا لانهيار القوات في جميع المناطق بما فيها كركوك ذات البعد الديموغرافي الآمن بعض الشيء؟..
3. يكاد يجمع الخبراء والمفكرون العسكريون على ان النصر النهائي في المعركة ليس نتيجة لحزمة اعمال صحيحة بالضرورة, بقدر ما هو محصلة لجهود بعضها صحيحة وناجحة
واخرى خاطئة وخاسرة ومسببة لانتكاسات نسبية, لكن في النهاية تؤدي بمجملها الى النجاح .. وهو ما يجب ان يعرفة كل قائد اثناء عمله العسكري.. هل يمكن للقادة اليوم والمؤسسات البحثية العسكرية ان تفرز عوامل القوة والوهن قبل واثناء انهيار منتصف عام 2014م وتعين كل منهما؟.. وفي نفس الوقت هل يمكنها ان تفرز وتعين مواطن القوة والوهن والنجاح والفشل الذين رافقا عمليات التحرير الاخيرة وما ترتب عليها من نجاحات؟..
4 .يفرض التكتيك الدفاعي ان تكون القطعات في حالة التماس الدائم مع العدو او اماكن تواجده المحتملة, في حين تتطلب الاستراتيجية الدفاعية وضع القوات في مجال زماني ومكاني واسع بغية تحقيق الهدف الاستراتيجي العام.. واعتقد ان من عوامل الوهن في الدفاعات العراقية السابقة هي تركيزها على التكتيك بغض النظر عن الاستراتيجية العامة للدفاع.. هل تعمنا الدرس؟.. وهل سيتم توزيع القوات باسلوب متوازن يصب في صالح التكتيك والاستراتيجية الدفاعية في آن واحد؟..
5. من المعروف ان اية خطة ناجحة يجب ان تتغير حال انتهاء العمل بها ولا تتكرر في عمل اخر, لان من يلعب في الحرب بنفس الخطة السابقة سوف يخسر الحرب كونه كشف خطته للعدو.. ومع انه لا توجد طريقة متكاملة للعب في الحرب, وكل ما هو متاح هي النظريات والخطط المتصادمة بين الطرفين, فعلينا ان نكون مؤهلين دائما لوضع الخطط والخطط البديلة المتسلسلة والمرنة والمتجددة .. هل نحن مؤهلين لذلك؟.. وفي الصفحة القادمة وعند اجراء الهجمات التي تصب في استراتيجية الدفاع هل من المفترض ان يتم الدخول بعقيدة الحرب السابقة؟.. ام ان علينا التجديد ما يحول العملية برمتها الى مغامرة؟.. مع اننا يجب ان نتذكر دائما ان كل استراتيجية يجب ان تستند الى فلسفة جديدة كامنة لم يتم التعرف عليها من قبل او العمل بها… كيف ستكون الموازنة؟..
6. الحرب تعني وجود خسائر يجب القبول بها ومن بينها (الارواح, الممتلكات, جزء من الارض) وامكانية القبول بالخسائر على النطاق المعقول بما فيها خسارة الارض من اجل تحقيق الهدف النهائي امرا حتميا.. حيث يرى المختصون ان الدفاع عن كل شيء هو من اكبر اسباب الهزيمة وخسارة المعركة برمتها.. لكن وفي نفس الوقت وبسبب ايمان العدو الحالي بمنطق الارض المحروقة وجر الاخرين معه الى الدمار يتحتم علينا وضع استراتيجية دفاعية من اولوياتها عدم خسارة مدن او تجمعات سكانية او مؤسسات حيوية.. لكون ثمن استعادتها سيكون باهضا.. هل يمكن للقادة ان يميزوا بين ما يمكنهم التضحية به او ما لا يمكنهم خسارته اثناء المعركة الدفاعية بكل ما يحيطها من غموض وارباك وضبابية؟.. وهل الصلاحيات الممنوحة للقادة والضباط كافية لجعلهم يتخذون القرارات اللازمة والضرورية والفورية بهذا الشان؟..
7. حينما ينجح المهاجم في تحقيق نتائج جيدة يدفعه ذلك دائما للاستمرار في مغامراته لكونه غير قادر على مقاومة الدافع النفسي لتكرار عمله تحت تاثير نشوة النصر, وهو ما يفترض ان يمنح المدافعين فرصة كبيرة لاجهاض نجاحاته, لكن ذلك يتطلب مهنية حقيقية وثقة وانضباط عاليين من قبل الوحدات المدافعة .. هل اصبحنا مؤهلين للاستفادة من هذه الخاصية؟.. ام ان اي نجاح من الممكن ان يحققه العدو لاحقا سوف يؤدي الى كارثة جديدة اشبه بكارثة عام 2014م؟..
8. يجب التسليم بان الموانع الطبيعية والصناعية وخطوط النار واهنة في المفهوم العام للدفاع, وتبقى المناورة هي سيدة الموقف بما فيها من عمليات التقرب الغير مباشر واستهداف النقطة من اجل التحول الى النقطة الاخرى المستهدفة بالاساس.. قد لا تكون القوات الرديفة ومنها قوات الحشد الشعبي والعشائري مؤهلة للعمل وفق هذا المبدأ.. لكن الى اي مدى يمكن الوثوق بان القادة والضباط ووحدات الجيش والشرطة الاتحادية مؤهلين للعمل وفق هذا المبدأ المهم والحاسم في تاثيره على سير المعارك؟..
9. لا زلنا غير متفقين على ضرورة ترك مجال واسع لانسحاب العدو وعدم حصره وتطويقة خصوصا اثناء عمليات التحرير على الرغم من انه الاسلوب الامثل ضد عدو متمركز في موضع محصن يحمل صبغة عقائدية ولا يمكن طرده الا بثمن باهض.. ولا زال البعض من مرجعيات السياسة والفقه وبعض العسكريين الغير محترفين يرون انه خيانة.. هذا على الرغم من ان (اتاحة السلم الذي ينزل من خلاله الخصم الى بئر الانهيار) هو مبدأ مهم من مبادئ السياسة والحرب والاعلام .. كيف يمكننا اقناع الغير ان ترك بعض خطوط الانسحاب للعدو امر ضروري خصوصا في معارك المدن من اجل تقليل الخسائر والدمار؟.. وهل نحن ملزمين بالنظر الى العلوم العسكرية من زاوية السياسة والفقه والاعتبارات الاخرى التي تتعارض مع فن الحرب ؟..
10. قد لا يكون للتهديد اية قيمة في الحرب التقليدية الا اذا كانت له بدايات تنفيذية.. فالتهديد ليس استعراض او تهويل بقدر ما هو اعلام مرتبط بامكانيات مادية حقيقية.. خصوصا ونحن في عصر ثورة المعلومات.. حيث يجب ان تكون هناك استراتيجية متكاملة للردع مبنية على معطيات حقيقية ومن ثم اعلامية كي تعطي ثمارها في استراتيجية وقف التهديد المعادي.. والا فانها سوف تاتي بنتائج عكسية كما حصل في ما قبل كارثة عام 2014م ومن خلال عدت احداث نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر سلسلة الوعود الوهمية من قبل القادة العسكريين والسياسيون بتحرير مدينة الفلوجه في فترة ما بين عام 2013م وحتى انتكاسة منتصف عام 2014م من غير ان يحصل ذلك, وفي الوقت الذي كانت فيه الاوضاع في جميع القواطع تزداد سوأ يوما بعد يوم.. هل تعلمنا الدرس؟..
باختصار (وقف التهديد المعادي) يعتمد اساسا على عنصري القوة والخوف.. ومن المعروف ان القوة النفسية هي نتاج القوة المادية, وان النصر يعني ارهاب الخصم, ما يؤدي الى ما يسمى بـ (السلام).. والذي هو في حقيقته عبارة عن هدوء نسبي مستند الى خوف متبادل .. ومن هنا تبدا فلسفة الدفاع.
https://wp.me/p8HDP0-bg5 رابط مختصر
*حقوق النشر محفوظة إلى المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والإستخبارات