المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات ECCI ـ وحدة الدراسات (27)
بون ـ رشا عمار، باحثة بالمركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات
الإخوان المسلمين في ألمانيا واقع التنظيم، الهيكل، وحجم النفوذ
تشكل ظاهرة الإخوان المسلمين في ألمانيا أحد أكثر الملفات إثارة للجدل في النقاشين الأمني والسياسي. فالوجود الإخواني لا يتخذ شكلاً صريحًا، بل يعمل وفق نمط قانوني شبكي يستفيد من مساحة الحرية التي يتيحها النظام الديمقراطي الألماني. تقارير مكتب حماية الدستور (BfV) تشير بانتظام إلى أن الإخوان يمثلون “تيارًا إسلاميًا قانونيًا” يلتزم بالشكل الظاهري للقوانين، لكنه يحمل مشروعًا بعيد المدى يقوم على التأثير الثقافي والسياسي في المجتمع الألماني، بما قد يتعارض مع القيم الديمقراطية الأساسية.
وتزداد أهمية هذا الملف بالنظر إلى أن ألمانيا تضم ما يقارب 5.5 مليون مسلم، ما يجعل الساحة الإسلامية متنوعة وثرية لكنها أيضًا بيئة قد تستغلها الحركات الأيديولوجية. وعلى الرغم من أن الإخوان لا يُعتبرون تنظيمًا محظورًا، فإن أجهزة الأمن تتعامل مع أنشطتهم كعامل تهديد محتمل للاستقرار الاجتماعي والتعايش السلمي.
ما طبيعة البنية التنظيمية وطرق العمل؟
يشير رصد الأجهزة الأمنية الألمانية إلى أن الإخوان في ألمانيا لا يعملون وفق نموذج مركزي موحد، بل يعتمدون على آلية الشبكات اللامركزية. هذا النمط يسمح لهم بالعمل في أطر قانونية متباينة، من خلال تسجيل جمعيات محلية ودينية، فتح مساجد، إنشاء مراكز ثقافية، وإدارة مدارس.الجماعة تستثمر في بيئة القوانين الألمانية التي تحمي الحريات الأساسية، وتقدم نفسها كفاعل اجتماعي وديني يهدف إلى خدمة المجتمع المسلم. غير أن التقارير الأمنية مثل تقارير هيئة حماية الدستور (BfV) تحذر من أن هذه الأنشطة تخفي أهدافًا بعيدة المدى تتعلق بإعادة إنتاج مشروع سياسي إسلامي على الأراضي الأوروبية.
تُدار الأنشطة بأسلوب “التغلغل الناعم” ، حيث يتم دمج الأجيال الشابة في مسارات تعليمية ودعوية، وتهيئة بيئة فكرية مواتية لخطاب الإخوان. غياب القيادة المركزية المعلنة يخلق مرونة عالية، بحيث لا يؤدي حظر أو تفكيك جمعية بعينها إلى إضعاف كامل للشبكة، بل يتم تعويضها عبر واجهات أخرى.
يشير غيدو شتاينبرغ، الباحث في معهد الشؤون الدولية والأمنية في برلين، إلى أن جماعة الإخوان المسلمين في ألمانيا تعتمد على استراتيجية طويلة المدى تهدف إلى ترسيخ وجودها الاجتماعي والسياسي عبر شبكات من الجمعيات والمراكز الإسلامية. ويرى شتاينبرغ أن التحدي الرئيسي الذي تواجهه السلطات الألمانية يكمن في صعوبة التمييز بين الأنشطة الدعوية والاجتماعية المشروعة وبين الأبعاد الأيديولوجية التي تسعى الجماعة لترسيخها، الأمر الذي يجعل الموقف الرسمي تجاهها مترددًا، خاصة فيما يتعلق بمسألة التمويل الخارجي ومراقبة المنظمات الإسلامية المرتبطة بها.محاربة التطرف ـ كيف تمثل جماعة الإخوان المسلمين تهديدًا للأمن الفرنسي؟
ما هي أهم المنظمات والواجهات؟
IGD / DMG الجماعة الإسلامية في ألمانيا” : أبرز الكيانات التي ربطتها التقارير الأمنية بالإخوان في ألمانيا منظمة “الجماعة الإسلامية في ألمانيا” (IGD) التي تأسست في ستينيات القرن الماضي. هذه المنظمة عُدت الذراع الرئيسية للجماعة في ألمانيا، قبل أن تغيّر اسمها إلى “الجماعة المسلمة الألمانية” (DMG) في محاولة لإعادة التموضع وإخفاء الارتباط المباشر بالإخوان. أعلنت في أواخر عام 2018 تغيير اسمها رسميًا إلى “الجماعة المسلمة الألمانية” (DMG). وقد فُهمت هذه الخطوة على نطاق واسع بوصفها محاولة لتخفيف حدة الربط المباشر بينها وبين الإخوان، وتقديم صورة أكثر “ألمانية” واعتدالاً أمام الرأي العام وصناع القرار. تؤكد مراجعة مسار المنظمة أن عملية تغيير الاسم من IGD إلى DMG لم تكن مجرد خطوة شكلية، بل مثّلت جزءًا من استراتيجية أوسع للجماعة لإعادة التموضع وتخفيف الضغط الأمني والإعلامي. ومع ذلك، تستمر أجهزة الاستخبارات الألمانية في توصيف DMG باعتبارها إحدى أبرز أذرع الإخوان في البلاد ألمانيا.
تدير هذه الجمعيات شبكة من المساجد والمراكز التعليمية التي تعتبر منصات رئيسية لنشر خطاب الجماعة. إلى جانبها، تظهر منظمات تركية مثل “ميلي غوروش” (Milli Görüş)، والتي رغم اختلاف أصولها الفكرية، إلا أنها تشترك أحياناً مع الإخوان في أنشطة اجتماعية وسياسية وتشكّل تحالفات ظرفية داخل الساحة الإسلامية الألمانية. هذا التعدد التنظيمي يخلق ما يمكن وصفه بـ “الواجهة المزدوجة”: مؤسسات مسجّلة قانونيًا تعلن تقديم خدمات اجتماعية، لكنها في الواقع تعمل كقنوات للتأثير الفكري والسياسي. هذا ما دفع بعض الولايات الألمانية إلى تشديد الرقابة على هذه الكيانات، خاصة في ولايات مثل شمال الراين-وستفاليا وبرلين حيث يتركز نشاطها.
تشير التقديرات الأمنية إلى أن هذه التنظيمات لا تعمل بشكل منفصل، وإنما تشكل شبكات مترابطة تقوم على تبادل الموارد والقدرات. فالتمويل يتم تأمينه أساسًا عبر المساجد والمؤسسات الدينية التابعة لها، ويعاد توجيهه لدعم أنشطة دعوية وفكرية مشتركة بما يضمن توحيد الخطاب الإخواني داخل أوروبا. كما يعزز تبادل المعلومات والتنسيق التنظيمي قدرة هذه الشبكات على التحرك بمرونة وتجاوز الضغوط الحكومية. وإلى جانب ذلك، يمثل البُعد الإعلامي أحد أخطر أدوات الجماعة، حيث يتم توظيف القنوات الفضائية والمواقع الإلكترونية ومنصات التواصل الاجتماعي في نشر رسائلها وتوسيع قاعدة التأثير. وتستعين الجماعة بكيانات وسيطة مثل “المنتدى الإسلامي” الذي يعمل كواجهة بحثية لإنتاج مقالات وأبحاث تخدم أجندتها السياسية والفكرية، ما يعكس استراتيجية متكاملة للتغلغل والتأثير بعيد المدى. الإخوان المسلمون في أوروبا، تحوّلات في السياسات الأمنية . ملف
ماذا عن القيادات؟
يبقى ملف القيادات الإخوانية في ألمانيا من أكثر الملفات حساسية، إذ يتجنب التنظيم الإعلان بشكل صريح عن هياكله القيادية أو الشخصيات المتحكمة في مسار الجمعيات والمراكز التابعة له. غير أن تقارير أمنية وإعلامية تشير إلى أن إدارة هذه المؤسسات تقع غالبًا في يد شخصيات من أصول عربية وتركية، ممن يمتلكون شبكة علاقات واسعة داخل أوروبا.
أبرز الأسماء التي ارتبطت بقيادة منظمات ذات صلة بالإخوان: إبراهيم الزيات، الذي يعد شخصية محورية داخل “الجماعة الإسلامية في ألمانيا” (IGD)، ويُنظر إليه كأحد أبرز ممثلي شبكة العلاقات الإخوانية على المستوى الأوروبي. إلى جانبه يبرز سمير فلاح، وهو قيادي بارز في IGD وعضو في المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، ما يمنحه دورًا مزدوجًا يجمع بين البعد التنظيمي والفكري. كما برزت أسماء أخرى، خاصة في صفوف المنظمات الطلابية الإسلامية، ما يعكس اعتماد الجماعة على استقطاب القيادات الشابة وتوزيع الأدوار عبر منصات مختلفة لضمان استمرارية حضورها وتأثيرها.
ما تقديرات الحجم والتأثير؟
وفق تقديرات هيئة حماية الدستور الألمانية لعام 2024، يبلغ عدد الأفراد المرتبطين بشكل مباشر أو غير مباشر بالإخوان وشبكاتهم في ألمانيا نحو 1450 شخصًا، فيما تشير تقارير بحثية إلى أن الأعداد الفعلية قد تكون أعلى بكثير إذا ما أُخذت في الاعتبار العضويات غير المعلنة والأنشطة غير الرسمية.
التأثير يتجاوز البعد العددي إلى ما يمكن وصفه بـ “التأثير النوعي”. فالجماعة تسيطر على عدد من المساجد الكبرى وتدير مدارس ومراكز شبابية، وتتمتع بحضور مؤثر داخل الاتحادات الإسلامية التي تمثل المسلمين أمام السلطات الألمانية. هذا التغلغل يمنحها قدرة على صياغة خطاب ديني وسياسي يتنافس مع تيارات أخرى أكثر اندماجاً في المجتمع الألماني. كما تشير تقارير أكاديمية إلى أن الإخوان يسعون إلى “إعادة تعريف الهوية الإسلامية” في ألمانيا بطريقة تجعلها أكثر ارتباطاً بمشروع الجماعة الأم، ما يثير قلق السلطات من إمكانية خلق مجتمعات موازية تعيق جهود الاندماج الاجتماعي والسياسي.الإخوان المسلمون ـ تقييم أيديولوجية الإخوان في ضوء القيم الأوروبية
ما هي مصادر التمويل؟
يُعد التمويل أحد الركائز الاستراتيجية لوجود الإخوان في ألمانيا. ويمكن التمييز بين ثلاث قنوات رئيسية:
الجمعيات والتبرعات المحلية: تعتمد المراكز والمساجد على اشتراكات الأعضاء وتبرعات المصلين، فضلاً عن تنظيم حملات لجمع التبرعات خلال المناسبات الدينية. هذه القناة توفر موردًا مستدامًا للنشاط اليومي.
التمويل الخارجي: تاريخيًا، لعبت التبرعات دورًا بارزًا، سواء عبر مؤسسات خيرية أو عبر شبكات وقفية. هذا التمويل غالبًا ما يُعلن أنه مخصص لدعم مشاريع تعليمية واجتماعية، لكنه محل متابعة أمنية بسبب احتمال استخدامه كغطاء لأنشطة سياسية.
المؤسسات الوسيطة: مثل منظمة “الإغاثة الإسلامية” (Islamic Relief) التي تعرضت لانتقادات وقيود بسبب صلات مزعومة بالإخوان. هذه المؤسسات تعمل كقنوات تمويلية وواجهات داعمة للمشاريع المحلية.
السلطات الألمانية لم تلجأ إلى حظر شامل للجماعة بسبب غياب الأساس القانوني الكافي، إذ إن أغلب التمويلات تجري ضمن أطر شرعية معلنة. بدلاً من ذلك، يتم اللجوء إلى التدابير الرقابية مثل فرض الشفافية المالية، ومراقبة التحويلات الأجنبية، وتقييد بعض المؤسسات المشبوهة.
ما هي أساليب التأثير؟
الإخوان في ألمانيا يستخدمون ثلاث آليات رئيسية للتأثير:
العمل المجتمعي: إدارة مدارس ومراكز شبابية ودور تحفيظ القرآن، إضافة إلى تقديم مساعدات اجتماعية وخدمات للاجئين. هذا يمنحهم موقعًا اجتماعيًا بارزًا داخل التجمعات المسلمة.
التأثير الفكري والدعوي: نشر خطاب ديني يتبنى مفاهيم الجماعة حول الهوية الإسلامية والعلاقة مع المجتمع الغربي. هذا الخطاب يُقدّم أحياناً بواجهة معتدلة لكنه يحمل في جوهره مشروعاً سياسياً بعيد المدى.
شبكات التمويل والعلاقات الخارجية: توظيف الدعم القادم من الخارج لتقوية البنية الداخلية، وبناء علاقات مع منظمات أوروبية ودولية تمنحهم غطاءً إضافيًا.
هذا المزيج يجعل من الإخوان فاعلاً متعدد الأبعاد، قادراً على الجمع بين الشرعية القانونية والتأثير الخفي، وهو ما يصعّب على الأجهزة الأمنية مهمة التصدي لهم.
تقييم وقراءة مستقبلية
– وجود الإخوان في ألمانيا يوصف بأنه “حالة تغلغل شبكي طويل الأمد”. فهم يستثمرون في القوانين الديمقراطية لبناء بنية تحتية اجتماعية ودينية، لكنهم في الوقت ذاته يحملون مشروعًا سياسيًا يتعارض مع قيم الاندماج والمجتمع المفتوح.
– التحدي الأكبر أمام السلطات الألمانية يكمن في الموازنة بين حماية الحريات الدينية ومكافحة استغلالها من قبل تنظيمات ذات أهداف سياسية. من غير المرجح أن تلجأ الحكومة إلى الحظر الشامل، لكنها ستواصل سياسة “التقييد التدريجي” عبر مراقبة التمويل، إغلاق بعض القنوات المشبوهة، وتعزيز الخطاب البديل المعتدل.
– المستقبل يرتبط أيضًا بعوامل خارجية: استمرار الأزمات في الشرق الأوسط قد ينعكس على نشاط الجماعة عبر موجات جديدة من الهجرة واللجوء، وهو ما يوفّر للإخوان فرصًا إضافية للتوسع. في المقابل، تنامي الوعي الأمني الأوروبي بخطر الإسلام السياسي قد يؤدي إلى مزيد من التشدد في الرقابة والإجراءات.
– بناءً على ما سبق، يتعين على السلطات الألمانية والأوروبية تطوير مقاربات أكثر شمولية لا تقتصر على الإجراءات الأمنية، بل تشمل دعم تيارات الاعتدال والاندماج، وتعزيز الرقابة على التمويل الخارجي، بما يحول دون تحول هذه الشبكات إلى منصات سياسية تهدد استقرار المجتمعات الأوروبية على المدى البعيد.
التوصيات
– تعزيز الرقابة القانونية والمالية: ضرورة فرض أنظمة أكثر صرامة لمراقبة التمويل، بما في ذلك التبرعات القادمة من الخارج
– إعادة هيكلة تمثيل الجاليات المسلمة: ينبغي للحكومة الألمانية العمل على بناء شراكات مع منظمات بديلة تعكس التنوع داخل المجتمعات المسلمة.
– تعزيز التعاون الأمني والاستخباراتي الأوروبي: تكثيف تبادل المعلومات بين أجهزة الأمن الأوروبية لرصد التحركات العابرة للحدود، وتتبع الأفراد والكيانات المرتبطة بالإخوان.
– ضبط المحتوى الديني والتعليمي: مراجعة المواد التعليمية والخطب الدينية الممولة من الخارج، وضمان توافقها مع القيم الدستورية الألمانية ومبادئ حقوق الإنسان.
رابط مختصر..https://www.europarabct.com/?p=109532
*حقوق النشر محفوظة إلى المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الارهاب والاستخبارات ـ ألمانيا وهولندا ECCI
هوامش
Franchised’ Security Threats: A Review of the Muslim Brotherhood Branch in Germany & United Kingdom
Including entities linked to the Muslim Brotherhood movement on the EU’s list of terrorist organisations
Escalating Concerns About Muslim Brotherhood
Germany’s Well-Timed Crackdown on the Muslim Brotherhood
