خاص ـ المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات ـ ألمانيا وهولندا ECCI
الناتو وروسيا ـ اجتماع كوبنهاغن، إلى أي حد استطاع معالجة الانقسامات الأوروبية؟
في القمة غير الرسمية للمجلس الأوروبي التي عُقدت في كوبنهاغن، تم التركيز بشكل واضح على سلسلة من القضايا الدفاعية والاستراتيجية التي تعكس قلق دول الاتحاد الأوروبي من التحديات الأمنية المتزايدة، خاصة على الجناح الشرقي. وقد جاءت المناقشات في ظل تزايد التهديدات التي تشكلها روسيا، وتطورات الحرب في أوكرانيا، والتغيرات الجيوسياسية المتسارعة على حدود أوروبا.
التركيز على مشاريع الدفاع الرائدة ومراقبة الجناح الشرقي
أبرز ما نوقش خلال القمة كان “مشاريع الدفاع الرائدة”، بما في ذلك مقترح “جدار الطائرات بدون طيار” الذي يشكل جزءًا من خطة أوسع لمراقبة وتأمين الجناح الشرقي للاتحاد. ويهدف هذا المشروع إلى تعزيز قدرة الدول الأعضاء على مواجهة التهديدات الجوية غير التقليدية مثل الطائرات المسيّرة، والتي أصبحت سلاحًا رئيسيًا في الحروب الحديثة، كما هو الحال في أوكرانيا. وأشارت رئيسة الوزراء الدنماركية، ميت فريدريكسن، في مؤتمر صحفي، إلى أن المناقشات بين القادة الأوروبيين كانت مثمرة، مؤكدة: “أعتقد أننا أجرينا مناقشات جيدة، ونحن الآن مستعدون لاتخاذ الخطوات التالية”. هذه التصريحات تعكس الرغبة المشتركة بين الدول الأعضاء في تعزيز التعاون الدفاعي، حتى وإن لم تصدر نتائج مكتوبة عن القمة.
إدراك جماعي للتهديد القادم من الشرق
من بين النقاط البارزة في القمة، كان الإجماع المتزايد، حتى من الدول الجنوبية، على أن التهديد الأمني الأكبر للاتحاد الأوروبي يأتي من الجهة الشرقية. فقد صرّح أحد مسؤولي المجلس الأوروبي بأن “حتى دول الجنوب تُدرك أن التهديد الأشد خطورةً يأتي من الشرق، ولهذا السبب علينا العمل على مواجهته”. وقد تناول رئيس المجلس الأوروبي، أنطونيو كوستا، هذه المسألة من زاوية شمولية، مؤكدًا أن أمن الاتحاد لا يجب أن يُفهم ضمن حدود جغرافية ضيقة، بل كمسؤولية جماعية. وقال كوستا: “علينا أن ننظر إلى حدودنا الخارجية كحدود مشتركة، شرقًا وشمالًا وجنوبًا وغربًا”، مضيفًا: “روسيا، وخاصةً على الجناح الشرقي، تُشكل التهديد الرئيسي الذي نواجهه”.
تباين المواقف داخل الاتحاد
ورغم هذا الإدراك الجماعي، فإن المواقف داخل الاتحاد ليست متطابقة. فمثلًا، سبق لرئيس الوزراء الإسباني، بيدرو سانشيز، أن قلّل من حجم التهديد الروسي بالنسبة لإسبانيا، بقوله في مارس 2025: “لا يتمثل تهديدنا في إرسال روسيا قواتها عبر جبال البرانس”. هذا النوع من الخطاب يُظهر التباين في الأولويات الأمنية بين دول الشمال والشرق من جهة، ودول الجنوب من جهة أخرى. من جهتها، حذّرت رئيسة الوزراء الإيطالية، جورجيا ميلوني، من مغبة تجاهل الجنوب الأوروبي، مشددة على أن ذلك “سيُضعف فعالية الكتلة بأكملها”. ويدور جدل داخل الاتحاد حول كيفية إشراك الصناعات الدفاعية في الجنوب الأوروبي في المشاريع الدفاعية الأوروبية الكبرى.
البعد الصناعي والدفاعي: الجنوب يطلب حصة
بحسب دبلوماسيين مطلعين على المحادثات، فإن هناك توجّهًا أوروبيًا نحو دمج الصناعات الدفاعية في الدول الجنوبية ضمن مشاريع الدفاع المشتركة. أحد الدبلوماسيين حذّر من أن الدول الجنوبية قد “تخسر فرصة تعزيز قواعد التصنيع الدفاعي الخاصة بها، إذا اختارت الدول الواقعة في الخطوط الأمامية إبقاء القدرة الصناعية أقرب إلى أوطانها”. وفيما يبدو أن بوادر التعاون بدأت في الظهور، تلقّت دول مثل إيطاليا والبرتغال مبالغ كبيرة من آلية قروض الدفاع الأوروبية (SAFE)، بينما تشارك إسبانيا في مشروع مشترك للطائرات المقاتلة والطائرات المسيّرة مع فرنسا وألمانيا. هذه الخطوات تمثل بداية تحول في كيفية توزيع القدرات الدفاعية والصناعية داخل الاتحاد، وقد تعزز من تماسك الكتلة الأوروبية على المدى المتوسط.
تمكين وزراء الدفاع الأوروبيين
أحد المخرجات السياسية الهامة للقمة كان الاتفاق على منح وزراء الدفاع في الاتحاد الأوروبي صلاحيات أوسع، ودورًا أكثر فعالية في صياغة السياسة الأمنية والدفاعية. وقال كوستا في هذا السياق: “إن الوزراء سيجتمعون بوتيرة أكبر، وسيكون لهم وزن أكبر بين قمم القادة، بدلًا من أن يكونوا بمثابة اجتماع فرعي لمجلس وزراء الخارجية”. وأضاف: “ما نحتاجه هو منحهم مزيدًا من الاستقلالية، لأننا بحاجة إلى إشراك وزراء دفاعنا بشكل متزايد على المستوى الأوروبي”. ورغم أن هذه الخطوة لم تُترجم بعد إلى قرارات مؤسسية واضحة، فإنها تشير إلى رغبة في بناء هيكل دفاعي أوروبي أكثر فاعلية، يكون فيه وزراء الدفاع لاعبًا رئيسيًا، وليسوا مجرد مستشارين للسياسة الخارجية.
توسيع الصيغة الحالية بدلًا من إنشاء آليات جديدة
بحسب تصريحات المسؤولين، فإن الخطة لا تهدف إلى تأسيس هيئات جديدة، بل إلى توسيع نطاق العمل ضمن الصيغة الحالية. إذ يجتمع وزراء الدفاع تحت مظلة مجلس الشؤون الخارجية، برئاسة كايا كالاس. وأوضح أحد مسؤولي المجلس أن “الاهتمام يتركز على وزراء الدفاع”، مضيفًا أن المفوضية الأوروبية ستواصل دعم الجوانب الصناعية من سياسة الدفاع الأوروبية. الهدف من هذا التوجه، بحسب المسؤول، هو “خلق روح أوروبية في مجال الدفاع”، أي تجاوز منطق المصالح الوطنية الضيقة، والانتقال نحو توحيد الرؤية الدفاعية على مستوى القارة.
الغموض بشأن مفوض الدفاع الأوروبي
رغم هذه الطموحات، تبقى بعض المسائل غامضة، وعلى رأسها دور المفوض الأوروبي للدفاع، أندريوس كوبيليوس، الذي عُين كأول مفوض في تاريخ الاتحاد الأوروبي. لم توضح المفوضية ولا المجلس كيف سينسجم منصبه مع الترتيبات الجديدة المقترحة لتمكين وزراء الدفاع. هذا الغموض يفتح الباب أمام نقاش مؤسسي داخل أروقة الاتحاد الأوروبي حول تقسيم الأدوار بين المجلس والمفوضية، ومسؤولية كل جهة عن رسم وتنفيذ السياسة الدفاعية. وقد تكون هذه المسألة أحد التحديات الرئيسية التي سيواجهها الاتحاد في المرحلة المقبلة، خاصة في ظل تداخل المسؤوليات بين الجهات المختلفة.
ختام غير تقليدي لكن بنبرة حازمة
أظهرت القمة أن أقوى قادة أوروبا الوطنيين لا يزالون أصحاب الكلمة الفصل. قد يكون هذا الأمر مزعجًا لمن يديرون آليات الاتحاد في بروكسل. ورغم أن القمة انتهت دون بيان رسمي أو نتائج مكتوبة، فإنها عكست تحولًا نوعيًا في كيفية تعامل الاتحاد الأوروبي مع التهديدات الأمنية، حيث بات هناك توافق واسع على ضرورة تعزيز القدرات الدفاعية، وتوسيع قاعدة التصنيع، وإعادة توزيع الأدوار داخل مؤسسات الاتحاد. ويُتوقع أن تستمر هذه النقاشات خلال العام 2025، مع تركيز خاص على تنفيذ الخطط الصناعية والعسكرية الجديدة، وتحديد دور المفوض الدفاعي، وإيجاد توازن بين أولويات الشرق والجنوب الأوروبيين. بهذه التطورات، يقترب الاتحاد الأوروبي خطوة جديدة من بناء سياسة دفاعية مشتركة أكثر نضجًا، في عالم يزداد اضطرابًا وتغيرًا.
رابط مختصر.. https://www.europarabct.com/?p=110144
