المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات، ألمانيا وهولندا ECCI
إعداد: د . مجاهد الصميدعي باحث في شؤون الامن والاستخبارات في المركز الأوروبي ECCI
“الناتو ” ـ منصة استخباراتية: تحليل الأدوار والآليات في إطار المواجهة الاستراتيجية مع روسيا
شهد حلف شمال الأطلسي (الناتو) منذ تأسيسه عام 1949 تطورًا لافتًا في طبيعته ووظائفه. فبينما انبنى أساسًا كتحالف دفاعي عسكري لمواجهة الاتحاد السوفيتي، فإنه مع مرور الوقت أدرك أن القوة العسكرية وحدها لا تكفي لتحقيق الردع. فقد أصبح عنصر التفوق الاستخباراتي ركيزة أساسية للأمن الجماعي، وشرطًا مسبقًا لنجاح أي استراتيجية دفاعية أو هجومية. وفي هذا السياق، يمكن النظر إلى الناتو اليوم كمنصة استخباراتية جماعية لا تقل أهمية عن كونه تحالفًا عسكريًا، خاصة في ظل المواجهة الاستراتيجية المتصاعدة مع روسيا.
إن الأزمة الأوكرانية عام 2014، وما تلاها من غزو روسي شامل عام 2022، شكّلت نقطة تحول جذرية في إدراك الحلف. لم يعد التهديد الروسي محصورًا في تحركات تقليدية أو عمليات عسكرية مباشرة، بل اتسع ليشمل ما يُعرف بالتهديدات الهجينة أو تحت العتبة: هجمات سيبرانية على البنى التحتية الحيوية، حملات تضليل إعلامي تستهدف الرأي العام، عمليات سرية عبر وكلاء، وضغوط اقتصادية ذات طبيعة استراتيجية. في مواجهة هذا المشهد المعقد، باتت الاستخبارات تمثل خط الدفاع الأول، وأداة الردع الأكثر فاعلية. أمن دولي ـ قوة الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع للناتو (NISRF)، المهام والأهداف
من الناحية المؤسسية، بدأ التعاون الاستخباراتي في الناتو منذ الحرب الباردة، حيث أنشئت لجان متخصصة لمتابعة التحركات السوفيتية. وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991، تحولت أولويات الحلف نحو مكافحة الإرهاب الدولي، والانتشار النووي، والأمن الإقليمي. ومع تزايد الحاجة إلى جهاز استخباراتي أكثر تكاملًا، أنشأ الناتو عام 2010 قسم الاستخبارات والأمن التابع للأمين العام، ثم أعاد هيكلته عام 2017 ليصبح وكالة متكاملة. كما أنشئ في المملكة المتحدة مركز الناتو لتحليل الاستخبارات الذي يعد القلب النابض لعمليات التحليل، حيث تُدمج البيانات القادمة من الدول الأعضاء في مجالات متعددة: الاستخبارات البشرية، الصور الفضائية، الاستخبارات الإشارية، والاستخبارات المفتوحة. بالإضافة إلى ذلك، يعتمد الحلف على أدوات تبادل آمنة مثل نظام البريد الاستخباراتي للناتو لضمان التدفق السريع والآمن للمعلومات.
استخبارات الناتولا تحل محل الأجهزة الوطنية للدول الأعضاء
لكن المنصة الاستخباراتية للناتو لا تحل محل الأجهزة الوطنية للدول الأعضاء، بل تعمل على أساس التكامل والتنسيق. فوكالات مثل وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، جهاز الاستخبارات السرية البريطانية، المخابرات الخارجية الفرنسية، والاستخبارات الألمانية تبقى هي الأساس في جمع المعلومات، بينما يتولى الناتو مهمة دمج هذه المدخلات وتحويلها إلى صورة موحدة يستفيد منها صناع القرار والقادة العسكريون. وتُظهر هذه الآلية قوة الحلف، إذ تجمع موارد وقدرات 32 دولة، لكنها في الوقت ذاته تكشف عن معضلة الثقة والسيادة، حيث تتردد بعض الدول في مشاركة معلوماتها الأكثر حساسية خشية تسريبها أو فقدان السيطرة عليها.
مع اندلاع الحرب في أوكرانيا، تحولت المنصة الاستخباراتية من جهاز استراتيجي إلى أداة عملياتية مباشرة. فقد ساعدت في تزويد كييف بتحذيرات مبكرة من هجمات صاروخية، وقدمت معلومات دقيقة حول تحركات القوات الروسية، ودعمت الدفاعات الأوكرانية في مواجهة الهجمات السيبرانية. كما لعبت دورًا في فضح الروايات الروسية عبر مركز تميز الاتصالات الاستراتيجية الذي يحلل حملات التضليل ويطور استراتيجيات مضادة.
الدور الأمريكي
الدور الأمريكي يبقى الأكثر مركزية في هذه المنظومة. فالولايات المتحدة، عبر وكالة الاستخبارات المركزية ووكالاتها الأخرى مثل وكالة الأمن القومي ووكالة الاستخبارات الدفاعية، توفر الجزء الأكبر من البيانات عالية القيمة. الأقمار الصناعية الأمريكية وأنظمة التنصت والقدرات البشرية تمنح الناتو تفوقًا نوعيًا لا تستطيع أوروبا تعويضه بمفردها. هذه الهيمنة الأمريكية تجعل الحلف أقوى، لكنها في الوقت ذاته تثير نقاشات حول مدى استقلالية أوروبا الاستخباراتية، وما إذا كان الناتو يمكن أن يحقق توازنًا حقيقيًا دون الاعتماد الكبير على واشنطن.
ومع النجاحات الملحوظة التي حققها الناتو، تظل هناك تحديات كبرى: مسألة الثقة بين الأعضاء، التفاوت في القدرات، خطر الاختراقات الروسية، والاعتماد المفرط على الولايات المتحدة. كما أن التطور التكنولوجي السريع، ولا سيما إدخال الذكاء الاصطناعي في تحليل البيانات الاستخباراتية، يفرض ضرورة الاستثمار المستمر في التكيف والتطوير. أمن دولي ـ التعاون ما بين الاتحاد الأوروبي والناتو.. القدرات والتحديات (ملف)
برامج الناتو في مجال الاستخبارات لمكافحة الإرهاب:
ـ برنامج التحليل الاستخباراتي المشترك JISR/SC :يجمع معلومات من الدول الأعضاء حول التهديدات الإرهابية ويحولها إلى تقييمات تشغيلية لدعم صناع القرار العسكري والمدني.
ـ مركز التميز لمكافحة الإرهاب CT COE : يقدم التدريب والتحليل الاستخباراتي ويعمل على تطوير استراتيجيات لمكافحة الإرهاب الدولي، بما في ذلك التهديدات الكيميائية والبيولوجية والنووية.
ـ شبكة تبادل المعلومات الأمنية FMNمنصة آمنة لتبادل البيانات الاستخباراتية بين الدول الأعضاء أثناء عمليات مكافحة الإرهاب أو بعثات الناتو في الخارج.
ـ فرق الدعم ضد التهديدات الهجينة، تعمل على رصد ومواجهة العمليات الإرهابية والهجينة، بما في ذلك التضليل المعلوماتي والهجمات السيبرانية المرتبطة بالإرهاب.
ـ التحليل المشترك للتهديدات عبر مركز العمليات ، يدمج المعلومات من الاستخبارات البشرية، الصور الفضائية، والمصادر المفتوحة لتوفير صورة شاملة للتهديدات الإرهابية داخل وخارج أوروبا.
ـ التعاون مع الشركاء الدوليين (EU, UN, INTERPOL)، يتيح تبادل المعلومات الاستخباراتية حول الجماعات الإرهابية العابرة للحدود، ودعم الجهود المشتركة لمراقبة التمويل، السفر، والتحركات اللوجستية للإرهابيين.
الناتو لا يكتفي بدور عسكري تقليدي، بل طور منصة استخباراتية متكاملة لمكافحة الإرهاب، تجمع بين جمع البيانات، التحليل، التبادل الآمن للمعلومات، والتعاون الدولي، مع التركيز على التهديدات الهجينة والإرهاب عبر الحدود.
لم يعد الناتو مجرد تحالف عسكري تقليدي؛ بل أعاد صياغة نفسه ليصبح منصة استخباراتية جماعية متقدمة. هذا التحول يجعل من التفوق المعلوماتي عنصرًا حاسمًا في ميزان القوى مع روسيا. وإذا كان الردع العسكري يعتمد على الدبابات والطائرات والصواريخ، فإن الردع المعاصر يعتمد بالدرجة الأولى على المعرفة والكشف المبكر. إن نجاح الناتو في الحفاظ على هذه الأفضلية سيحدد إلى حد كبير مستقبل الاستقرار الاستراتيجي في أوروبا والعالم.الناتو ـ ما هي مهام الحلف في مجال مكافحة الإرهاب؟
من المرجح أن يواصل الناتو ترسيخ مكانته كمنصة استخباراتية جماعية متقدمة، بحيث يصبح التفوق المعلوماتي والقدرة على الكشف المبكر ركيزة أساسية للردع في مواجهة روسيا، إلى جانب القوة العسكرية التقليدية. وفي ظل الحرب الأوكرانية وما بعدها، سيزداد اعتماد الحلف على الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات الضخمة والقدرات السيبرانية، مع استمرار الهيمنة الأمريكية في تزويد البيانات عالية القيمة، وهو ما يثير نقاشًا حول استقلالية أوروبا الاستخباراتية. ومع أن التعاون يحقق قوة مضاعفة، إلا أن معضلة الثقة بين الأعضاء وخطر الاختراقات الروسية ستبقى تحديات قائمة. وعليه، فإن نجاح الناتو في الحفاظ على تفوقه المعلوماتي سيحدد إلى حد بعيد مستقبل الأمن الأوروبي والاستقرار الاستراتيجي في مواجهة التهديدات الروسية والهجينة.
رابط النشر https://www.europarabct.com/?p=108855
*حقوق النشر محفوظة إلى المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الارهاب والاستخبارات ـ ألمانيا وهولندا ECCI
