خاص ـ المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات، ألمانيا وهولندا ECCI
الناتو والطاقة ـ لماذا ما زالت بعض دول الحلف تعتمد على الغاز الروسي؟
أطلق الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، تصريحات مثيرة للجدل طالب فيها بالانفصال التام والفوري عن النفط الروسي، معتبرًا أن أي خطوات تصعيدية ضد موسكو، بما في ذلك فرض عقوبات إضافية، لن تحظى بموافقته ما لم يلتزم الأعضاء بهذا المطلب الرئيسي. تصريحات دونالد ترامب فتحت باب التساؤلات مجددًا حول دوافع بعض الدول الأعضاء التي لا تزال تعتمد على الطاقة الروسية رغم مرور أكثر من ثلاث سنوات على حرب أوكرانيا في فبراير 2022.
تعثر السلام وتصعيد الهجمات الروسية
تأتي تصريحات ترامب في وقت يشهد فيه الوضع في أوكرانيا مزيدًا من التوتر والتصعيد بعيدًا عن المسار الدبلوماسي. فقد شنت روسيا موجة جديدة من الهجمات العسكرية المكثفة على الأراضي الأوكرانية، بالتزامن مع إعلانها تعليق محادثات السلام مع كييف. اتهمت موسكو دولًا أوروبية بالتسبب في إفشال مساعي مفاوضات السلام ووقف إطلاق النار، مشيرة إلى أن الغرب لاسيما الدول الأوروبية تدفع الحرب إلى مزيد من التعقيد.
في المقابل، تواصل أوكرانيا اتهام روسيا بالمماطلة وعدم الجدية في التوصل إلى اتفاق سلام ووقف إطلاق النار. وتُصر كييف على أن موسكو تسعى لكسب الوقت وتكريس الأمر الواقع على الأرض لصالحها وكسب المزيد من السيطرة والنفوذ على الأراضي الأوكرانية، بينما تتهمها موسكو بعدم الاعتراف بما تسميه “الحقائق الجديدة” الناشئة عن السيطرة الروسية على أجزاء من الأراضي الأوكرانية.
ترامب يعد بحل سريع، ويتهم الجميع بالتقصير
عبّر ترامب عن إحباطه العميق من بطء وتيرة التقدم الدبلوماسي في مفاوضات حرب أوكرانيا، بعد تأكيداته خلال حملته الانتخابية إن إنهاء حرب أوكرانيا سيكون على رأس أولوياته. بل ذهب أبعد من ذلك حين ادّعى أن بإمكانه وضع حد لحرب أوكرانيا خلال فترة زمنية قصيرة. أقر ترامب بأن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد يكون يختبره، لكنه في الوقت ذاته انتقد كلاً من بوتين والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي على حد سواء، بسبب ما وصفه بعدم اتخاذهما الخطوات الحاسمة والضرورية لوضع حد لوقف إطلاق النار.
أوروبا في مرمى الانتقاد
تُعد قضية الطاقة الروسية إحدى النقاط الحساسة في العلاقات الأوروبية الروسية منذ بداية حرب أوكرانيا في فبراير 2022، وعلى الرغم من أن معظم دول الاتحاد الأوروبي بدأت تتخلى تدريجيًا عن واردات النفط والغاز من موسكو، فإن بعض الاتفاقيات القديمة استمرت حتى نهاية عام 2024. ومع انتهاء صلاحية هذه الاتفاقيات، قامت أوكرانيا بإيقاف عبور الغاز الروسي عبر أراضيها، وهو ما أثار غضب المسؤولين الروس الذين وصفوا القرار بأنه “ضار جدًا بأمن الطاقة في أوروبا”.
صرح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون: “أنه خلال المشاورات مع الولايات المتحدة، اتفق الأوروبيون على دراسة فرض عقوبات على الدول التي تدعم الاقتصاد الروسي أو تساعد في الالتفاف على العقوبات”، وذُكرت الصين في هذا السياق.
دعم أمريكي وإنذار واضح
أيّد الأدميرال الأمريكي المتقاعد جيمس جي ستافريديس، الذي شغل سابقًا منصب القائد الأعلى لقوات الناتو في أوروبا، موقف ترامب واعتبره منطقيًا. أكد ستافريديس: “أن أوروبا قطعت بالفعل الجزء الأكبر من اعتمادها على الطاقة الروسية، لكنها لم تنهِه بالكامل بعد، وهو ما يُبقي الباب مفتوحًا أمام نفوذ موسكو”. أضاف ستافريديس قائلًا: “صحيح أن معظم دول أوروبا لم تعد تشتري كميات كبيرة من النفط والغاز الروسي، لكن لا تزال هناك دول تُصنَّف كـ(ممتنعة) عن الالتزام الكامل”. دعا ستافريديس إلى إجراءات أكثر صرامة، منها توسيع العقوبات، خاصة على الصين، التي توفر ممرًا اقتصاديًا مهمًا لروسيا، بالإضافة إلى اقتراحه مصادرة الأصول الروسية المجمّدة في البنوك الأوروبية، وتحديدًا في بروكسل، باعتبارها أداة ضغط ضرورية لإجبار موسكو على إعادة النظر في استراتيجيتها.
التحايل الروسي والعقوبات على الشركاء
رغم حزمة العقوبات الغربية الشديدة لا سيما الأوروبية على روسيا والتي وصلت تقريبًا إلى 17 عقوبة، وجدت موسكو طرقًا للالتفاف على هذه العقوبات، من خلال توجيه الصادرات الروسية النفطية إلى دول أسيوية مثل الهند والصين بأسعار مخفضة تفضيلية. وقد دفع ذلك الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى فرض عقوبات أخرى على كل من الهند والصين، ما أزعج روسيا والهند التي كانت قد بدأت بالفعل مسارًا تصالحيًا خلال العام 2025 مع الولايات المتحدة الأمريكية.
لماذا لا تزال بعض دول الناتو تشتري النفط الروسي؟
تكمن الإجابة في الجاذبية الاقتصادية التي توفرها الصفقات النفطية الروسية، إذ تعرض موسكو بيع الطاقة بأسعار مخفضة للغاية، مستفيدة من الضغوط الاقتصادية التي تواجهها بعض الدول. وبالنظر إلى الارتفاع المستمر في أسعار النفط والغاز عالميًا، فإن العرض الروسي يمثل فرصة لا يمكن تجاهلها بالنسبة لدول تعاني من أزمات في الاقتصاد والطاقة.
تُعد تركيا من أبرز هذه الدول، حيث احتلت المرتبة الثالثة عالميًا من حيث استيراد الطاقة الروسية، بعد الصين والهند، خلال الفترة من يناير من العام 2023 وحتى يوليو من العام 2025. ووفقًا لبيانات مركز أبحاث الطاقة والهواء النظيف، أنفقت أنقرة حوالي 90 مليار دولار على واردات الطاقة من روسيا، منها نحو 62 مليار دولار على النفط وحده. لا تقف القائمة عند تركيا، فالمجر وسلوفاكيا لا تزالان تستوردان كميات كبيرة من النفط والغاز الروسي. تشير التقديرات إلى أن المجر أنفقت نحو 13.4 مليار دولار، بينما أنفقت سلوفاكيا ما يقارب 10 مليارات دولار في الفترة ذاتها، ما يضعهما ضمن قائمة أكبر 10 مستوردين للطاقة من روسيا.
أزمة استراتيجية
يضع هذا الواقع حلف الناتو أمام معضلة استراتيجية، فمن جهة تُعد مواصلة شراء النفط من روسيا تمويلًا غير مباشر لألة الحرب الروسية في أوكرانيا. ومن جهة أخرى تواجه بعض الدول الأعضاء ضغوطًا داخلية بسبب ارتفاع الأسعار وتدهور الأوضاع الاقتصادية، ما يجعلها مترددة في اتخاذ خطوات قد تؤدي إلى مزيد من التدهور الداخلي. تبقى دعوة ترامب بمثابة تحذير قوي، بل إنذار نهائي، للدول الغربية: إمّا أن تلتزموا بالعقوبات حتى النهاية وتكفوا عن دعم موسكو اقتصاديًا، أو لن تجدوا الدعم الأمريكي عندما تحين ساعة المواجهة.
النتائج
تعكس التطورات تعقيدات العلاقة بين حلف شمال الأطلسي وروسيا، وخصوصًا في ما يتعلق بملف الطاقة الذي يُعد أحد أبرز أدوات الضغط الاقتصادي والسياسي في مفاوضات حرب أوكرانيا. تتبدى في تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب نزعة واضحة نحو المقايضة السياسية، حيث يربط فرض عقوبات إضافية على موسكو بالتزام أعضاء الحلف بوقف واردات النفط الروسي تمامًا، وهو ما يكشف عن تصعيد في لغة الخطاب الأمريكي تجاه الحلفاء الأوروبيين.
تشير هذه المواقف إلى توتر بنيوي داخل الناتو نفسه، إذ تُظهر التطورات أن بعض الدول لا تزال مرتبطة اقتصاديًا بروسيا، ما يضعف الموقف الجماعي ويمنح موسكو هامشًا للمراوغة. وهذا يهدد وحدة الحلف وتماسكه في مواجهة التحديات الجيوسياسية المستمرة.
من المتوقع أن يزداد الضغط الأمريكي على الحلفاء داخل الناتو لاسيما الأوروبيين، وقد يؤدي ذلك إلى تعميق الانقسام داخل الناتو بين الدول التي ترى ضرورة الردع الشامل ضد موسكو، وأخرى تفضّل الموازنة بين مصالحها الاقتصادية وتحالفاتها العسكرية.
من المرجّح أن تستمر روسيا في بيع طاقتها عبر قنوات بديلة كالهند والصين، وتلجأ إلى توسيع استخدام العملات المحلية بدلاً من الدولار واليورو لتجاوز العقوبات المالية الغربية.
أما الدول الأوروبية التي لا تزال تشتري الطاقة الروسية فقد تجد نفسها مستهدفة بانتقادات أمريكية وأوروبية داخلية متزايدة، ما سيدفعها تدريجيًا إلى التخلي الكامل عن هذه الواردات خلال العامين المقبلين.
تُبرز تصريحات ترامب تحوّلًا في مقاربة النزاع، من منطق التضامن إلى منطق الضغط والمساءلة، حيث أصبحت واشنطن تطلب من حلفائها تحمل ثمن استراتيجي واقتصادي واضح لمواقفهم.
يشير ذلك إلى مستقبل قد يكون أكثر اضطرابًا في العلاقات عبر الأطلسي، خصوصًا إذا استمرت حرب أوكرانيا دون حسم، وإذا تصاعد التنافس الاقتصادي بين الغرب وروسيا والصين.
في المجمل، هناك مؤشرات واضحة على صراع طويل الأمد، يتداخل فيه الأمن مع الاقتصاد، وتُعاد فيه صياغة التحالفات العالمية وفقًا لموازين المصالح لا المبادئ فقط.
رابط مختصر.. https://www.europarabct.com/?p=109194
