المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات، ألمانيا وهولندا ECCI، وحدة الدراسات والتقارير “1”
الناتو بين تهديد المسيّرات الروسية وتفعيل المادة الرابعة
يشهد حلف شمال الأطلسي واحدة من أكثر اللحظات حساسية منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، بعدما انتقلت المواجهة لأول مرة من حدود أوكرانيا إلى عمق المجال الجوي لإحدى دوله الأعضاء. حادثة اختراق الطائرات المسيّرة الروسية للأجواء البولندية مثّلت نقطة تحول نوعية، ليس فقط لكونها خرقًا عسكريًا مباشرًا، بل لأنها وضعت الحلف أمام اختبار حقيقي لمدى جاهزيته وسرعة استجابته وتماسكه الداخلي. وبين خيار الردع العسكري وتفعيل آليات التشاور السياسي عبر المادة الرابعة من المعاهدة، يجد الناتو نفسه اليوم أمام تحدٍ مزدوج: التعامل مع الاستفزازات الروسية المتصاعدة، وفي الوقت ذاته الحفاظ على وحدة صف أعضائه ومنع الانزلاق إلى مواجهة مباشرة واسعة النطاق. الناتو ـ هل تمثل مناورة “الحارس الشرقي” نقطة تحوّل في عقيدة الحلف الدفاعية؟
في تطور غير مسبوق، وجدت بولندا يوم العاشر من سبتمبر 2025 نفسها في مواجهة مباشرة مع تهديد أمني مصدره روسيا وبيلاروس، بعدما اخترقت تسع عشرة طائرة مسيّرة روسية مجالها الجوي. ورغم أن بولندا اعتادت خلال العامين الماضيين على حوادث متفرقة لسقوط مقذوفات أو تحليق طائرات مجهولة قادمة من الحدود الأوكرانية، إلا أن الحادثة الأخيرة حملت دلالة نوعية: فالمسيّرات هذه المرة انطلقت من الأراضي البيلاروسية، ما يعني أن موسكو لم تكتفِ بحدود أوكرانيا لاختبار جاهزية الناتو، بل نقلت المواجهة إلى جبهة أكثر حساسية.
اعتبر خبراء عسكريون أن حادثة اختراق الطائرات المسيّرة للأجواء البولندية ليست مجرد واقعة عرضية، بل تمثل جزءًا من استراتيجية روسية هجينة تهدف إلى اختبار قدرة الناتو على الردع والتنسيق. أندريه كينسكي، رئيس تحرير مجلة Wojsko i Technika، شدد على أن مثل هذه الحوادث ستظل تتكرر ما دامت الحرب على مقربة من الحدود البولندية، وأنها باتت جزءًا من “الواقع الجديد” للأمن الإقليمي.
الطائرات المسيرة الروسية : رصد ردود أفعال واستجابة حلف الناتو، هي مصدر إرباك واشغال الناتو ومصدر إستنزاف أيضاً
الأبعاد الاستراتيجية للحادثة
كانت هناك سرعة استجابة القوات البولندية والحلفاء؛ إذ شاركت مقاتلات من طراز F-35 وF-16، إلى جانب مروحيات قتالية وطائرات إنذار مبكر، في اعتراض المسيّرات. والأهم أن العملية أسفرت عن إسقاط طائرات روسية فوق أراضي الناتو للمرة الأولى منذ اندلاع الحرب، ما يجعلها واقعة مفصلية في سجل الصراع. بولندا لم تركز فقط على الجانب العسكري، بل أولت اهتمامًا خاصًا للبعد المعلوماتي. فقد حذّر رئيس الوزراء من الحملات الدعائية الروسية التي سعت منذ اللحظات الأولى إلى التشويش على الحقائق وبث رسائل مضلّلة عبر الإنترنت، داعيًا السياسيين والإعلاميين إلى توخي الحذر في التعامل مع هذه الروايات. الهدف من ذلك واضح: منع روسيا من استغلال الموقف لإضعاف الجبهة الداخلية البولندية أو ضرب الثقة بين المواطنين والحكومة.

russia-poland-8
من الناحية الاستراتيجية، من غير المتوقع أن يتطور الموقف إلى تفعيل المادة الخامسة، أي الدفاع الجماعي، ما لم يتكرر الهجوم على نطاق أوسع أو يسفر عن خسائر بشرية كبيرة. لكن من المرجح أن تكون النتيجة المباشرة تعزيز الوجود العسكري للناتو في بولندا ودول البلطيق، سواء عبر نشر مزيد من أنظمة الدفاع الجوي أو تكثيف طلعات المراقبة الجوية. كما أن الخطوة تحمل بعدًا سياسيًا ورسالة ردع مزدوجة إلى موسكو ومينسك مفادها أن الحدود الشرقية للحلف خط أحمر لا يمكن تجاوزه من دون عواقب جماعية.
المادة الرابعة من معاهدة شمال الأطلسي
هذا التصعيد دفع رئيس الوزراء دونالد توسك والرئيس كارول ناوروكي إلى إعلان توصية مشتركة بتفعيل المادة الرابعة من معاهدة شمال الأطلسي. هذه المادة لا تعني اللجوء إلى الدفاع الجماعي (المادة الخامسة)، لكنها تتيح لأي دولة عضو أن تدعو إلى مشاورات عاجلة داخل الحلف إذا شعرت أن أمنها أو استقلالها مهدَّد. بالنسبة لبولندا، فإن هذه الخطوة تحقق جملة أهداف:
ـ تدويل الحادثة وعدم تركها في إطار ثنائي مع روسيا.
ـ الضغط على بيلاروس باعتبارها شريكًا مباشرًا في التصعيد.
ـ تعزيز فرص الحصول على دعم عسكري وتقني إضافي، خاصة في مجال الدفاع ضد الطائرات المسيّرة.
تاريخ استخدام المادة ( 4 ) داخل الحلف. فمنذ تأسيس الناتو عام 1949، لم يتم اللجوء إليها كثيرًا، بل في حالات استثنائية:
- في عام 2003 طلبت تركيا عقد مشاورات على خلفية حرب العراق وما قد تجره من تهديدات لأمنها.
- في عام 2012 لجأت أنقرة مجددًا إلى المادة الرابعة بعدما أسقطت الدفاعات الجوية السورية طائرة تركية.
- في عام 2013 فعلتها تركيا للمرة الثالثة، وطلبت أنظمة دفاع جوي (باتريوت) لمواجهة تداعيات الحرب السورية.
- في عام 2014 بادرت بولندا نفسها إلى تفعيل المادة الرابعة إثر ضم روسيا لشبه جزيرة القرم، وهو ما مثّل لحظة استشعار مبكر لعودة التهديد الروسي إلى أوروبا الشرقية.
- في 2015 عادت تركيا لتفعيل المادة الرابعة عقب هجمات تنظيم داعش على أراضيها الحدودية.
- وأخيرًا، في 2022، تلاقت مصالح بولندا ودول البلطيق لتفعيل المادة ذاتها مباشرة بعد اندلاع الغزو الروسي لأوكرانيا.
هذا المسار التاريخي يوضح أن المادة الرابعة غالبًا ما استخدمت إما من جانب تركيا في سياق الشرق الأوسط، أو من جانب دول أوروبا الشرقية في مواجهة التهديد الروسي. وبولندا اليوم تستعيد نفس الأداة الدبلوماسية، لكن في ظرف أشد حساسية، إذ لم يعد الأمر متعلقًا بمجرد تهديد محتمل، بل باعتداء جوي فعلي على أراضيها.
حوادث مشابهة
دول البلطيق – 2014–2022 : شهدت إستونيا ولاتفيا وليتوانيا بعض الخروقات الفردية لمجالاتها الجوية بواسطة طائرات روسية صغيرة أو مسيّرات، غالبًا لأغراض استطلاع أو اختبار رادارات الحلف. الناتو وتحديات مواجهة الطائرات المٌسيرة
ألمانيا وفرنسا : فرنسا وألمانيا سجلتا بعض الانتهاكات البسيطة بواسطة مسيّرات روسية أو مجهولة المصدر، لكنها لم ترتقَ إلى مستوى التهديد المباشر الذي يهدد سلامة الدولة، ولم تستدعي تفعيل المادة الرابعة. وكانت تستهدف الطائرات اتطلاع ومتابعة سلاسل توريد الأسلحة من ألمانيا إلى أوكرانيا.
ردود الأفعال
لم تقتصر أصداء الحادثة على وارسو وحدها، بل امتدت سريعًا إلى العواصم الأوروبية ومؤسسات الاتحاد الأوروبي. فقد شدّد رئيس الوزراء البولندي دونالد توسك في خطاب أمام البرلمان على أن بلاده “أقرب إلى الصراع المسلح من أي وقت مضى منذ الحرب العالمية الثانية”، مضيفًا أن تفعيل المادة الرابعة من معاهدة الناتو أصبح ضرورة ملحّة بعد أن أسقطت القوات البولندية مسيّرات روسية داخل أراضيها. وأكد توسك أن الخطوة لا تعني الذهاب إلى الحرب، لكنها تمثل رسالة واضحة بأن أمن بولندا هو شأن جماعي للحلف.
أما على المستوى الأوروبي، فقد عبّرت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين عن استيائها الشديد مما جرى، ووصفت الانتهاك بأنه “إهمال غير مسبوق وأحد أشد الخروقات خطورة للأجواء الأوروبية منذ اندلاع الحرب.” هذا الموقف وجد صداه أيضًا لدى رئيسة السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، كايا كالاس، التي رأت أن دخول المسيّرات الروسية المجال الجوي البولندي لم يكن عرضيًا بل جاء «بصورة متعمدة». وأبدى وزير الخارجية البولندي رادوسلاف سيكورسكي رفضه التام لأي تفسير للحادثة باعتبارها خطأ تقنيًا، موضحًا أن الحديث عن تسع عشرة طائرة مسيّرة يتجاوز حدود الخطأ أو الصدفة، بل يشير إلى نية واضحة لاختبار دفاعات بولندا والناتو على حد سواء.
تطورات ميدانية جديدة
طائرات روسية بدون طيار: طائرات مقاتلة تابعة لحلف الناتو تُحلّق فوق رومانيا، في أعقاب إسقاط طائرات روسية بدون طيار يُشتبه بأنها روسية في بولندا، وقعت حوادث أخرى هناك وفي رومانيا يوم 13 سبتمبر 2025. ويُشتبه الآن في أن الطائرات بدون طيار التي استخدمتها موسكو في حرب أوكرانيا في المناطق الحدودية، والتي تتسلل إلى أراضي الناتو أو تقترب منها، قد وُجّهت إليها عمدًا من قِبل روسيا. في منطقة تولتشيا، شرق رومانيا، على دلتا نهر الدانوب بالقرب من الحدود الأوكرانية، رصد الجيش الروماني أيضًا طائرة بدون طيار يوم13 سبتمبر 2025 . انطلقت طائرتان مقاتلتان من طراز F-16 من قاعدة فيتستي الجوية في مهمة مراقبة. وجّه حلف الناتو أيضًا طائرتين ألمانيتين من طراز يوروفايتر لحماية المجال الجوي هناك.
اختفاء طائرة بدون طيار فوق رومانيا من الرادار لم تُحلّق الطائرة بدون طيار فوق أي مناطق مأهولة بالسكان ولم تُشكّل أي تهديد، وفقًا لوزارة الدفاع في بوخارست.تتبعت طائرات مقاتلة رومانية الطائرة المسيرة لمسافة 20 كيلومترًا تقريبًا حتى مدينة تشيليا فيتشي الرومانية على نهر الدانوب، وبعد ذلك اختفى الجسم من على شاشات الرادار.منذ بداية الحرب، سقط حطام طائرات روسية مسيرة على الأراضي الرومانية في دلتا الدانوب عدة مرات، معظمها بعد هجمات روسية على موانئ تقع ضمن نطاق الرؤية على الضفة الأوكرانية لنهر الدانوب. في كل حالة، أعلنت السلطات الرومانية وحلف شمال الأطلسي (الناتو) أن هذه الحوادث غير مقصودة من جانب روسيا. الناتو وروسيا ـ الطائرات المسيّرة، أدوات تتجاوز حدود الحرب التقليدية
النتائج
ـ أن حادثة اختراق الطائرات المسيّرة الروسية للأجواء البولندية لم تكن مجرد مناورة عسكرية أو خطأ عابر في مسار الطائرات، بل ربما شكّلت محاولة مدروسة من موسكو لجس نبض قدرات الناتو وسرعة رد فعله. فالتوقيت الدقيق وتعدد الخروقات (19 انتهاكًا متتاليًا) يوحيان بأن العملية لم تكن عشوائية، بل أقرب إلى اختبار ميداني في ظروف قتال افتراضي.
ـ يدرك الكرملين إستراتيجياً أن الناتو يعتمد بدرجة كبيرة على عنصر التنسيق بين أعضائه، وأن أي تأخر في تبادل المعلومات أو تباين في القرارات قد يُظهر ثغرات يمكن استغلالها لاحقًا. لذلك فإن إرسال أسراب من المسيّرات من اتجاه بيلاروس، وليس من أوكرانيا كما حدث سابقًا، كان رسالة واضحة بأن روسيا تسعى إلى اختبار الحدود القصوى لمدى الجاهزية والقدرة على العمل المشترك بين بولندا وحلفائها.
ـ إن الاستجابة البولندية السريعة، وتحويل طائرات مقاتلة ومروحيات إلى منطقة العمليات، بالتنسيق مع أنظمة الإنذار المبكر التابعة للناتو، أظهرت أن الحلف تعامل مع التهديد على أنه تجربة فعلية لمدى مرونته العسكرية. وهنا تكمن أهمية الحادثة: فقد برهنت أن الناتو لم يتردد في اتخاذ إجراءات فورية، ما بعث برسالة معاكسة إلى موسكو مفادها أن أي تجاوز جوي لن يمر من دون ردّ. الناتو وروسيا ـ الطائرات المٌسيرة والحرب الهجينة
ـ أن العملية، حتى وإن بدت محدودة النتائج ميدانيًا، قد حققت لموسكو هدفًا مهمًا على صعيد الحرب النفسية. إذ ساهمت في نشر القلق داخل المجتمع البولندي، ودفعت الحكومة إلى اللجوء إلى خطوة سياسية كبيرة مثل تفعيل المادة الرابعة، وهو ما يعني أن روسيا نجحت في دفع الناتو إلى كشف جزء من آليات استجابته، ولو بشكل غير مباشر.
ـ إن الحادثة لم تكن مجرد اختراق لأجواء دولة عضو في الحلف، بل رسالة اختبارية مركبة: اختبار للجاهزية العسكرية، لا سيما في التصدي للطائرات المٌسيرة، واختبار للوحدة السياسية للحلف في مواجهة تهديدات غير تقليدية.
ـ مواقف الناتو مجتمعة عكست حجم القلق الأوروبي من اتساع رقعة الحرب وتسرّبها إلى أراضي الحلف، كما أبرزت إصرار بولندا على تحويل الأزمة إلى قضية جماعية داخل الناتو، لا مجرد حادث ثنائي مع روسيا وبيلاروس.
ـ إن الحادثة أخطر انتهاك جوي منذ بداية الحرب، ورسالة مباشرة إلى الحلفاء في أوروبا الشرقية. فالمناورة الروسية لا تهدف فقط إلى إضعاف الثقة في الدفاعات الجوية البولندية، بل أيضًا إلى اختبار سرعة الناتو في التفاعل.
ـ أن توقيت الحادثة يكشف عن محاولة متعمدة من موسكو لإرباك أوروبا، وقياس مدى صلابة الموقف الجماعي في ظل ضغوط اقتصادية وأمنية متزايدة. وفي المقابل، أثبتت الاستجابة الحلفية أن الناتو لا يزال قادرًا على التحرك كجبهة واحدة في اللحظات الحرجة.
ـ إن حادثة اختراق المسيّرات الروسية للأجواء البولندية لم تكن مجرد حادث أمني عابر، بل محطة جديدة تؤكد أن الحرب في أوكرانيا باتت تتسرب تدريجيًا إلى أراضي الناتو، وأن خط التماس بين روسيا والحلف لم يعد نظريًا بل أصبح واقعًا ملموسًا.
ـ أن الحرب في أوكرانيا أعادت إبراز اعتماد الناتو على القدرات الأميركية، خصوصًا في مجالات الدفاع الجوي والطائرات والصواريخ. ومع ذلك، تتحرك بولندا ودول أخرى لتعزيز استقلاليتها الدفاعية.
رابط مختصر … https://www.europarabct.com/?p=108987
*حقوق النشر محفوظة إلى المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الارهاب والاستخبارات ـ ألمانيا وهولندا ECCI
