خاص ـ المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات ـ ألمانيا وهولندا ECCI
اللجوء والهجرة ـ لماذا تتصدّر “قضية الهجرة” أولويات التصويت في ألمانيا؟
يشهد الأمن الدولي الكثير من الأحداث السياسية والصراعات العسكرية التي تعصف بعدد من المناطق، وتؤثر بشكل مباشر أو غير مباشر على الاستقرار الدولي. فمنذ اندلاع حرب أوكرانيا، وتزايد الحشد العسكري على حدود أوروبا الشرقية، إلى الصعود السياسي لقوى يمينية وشعبوية في عدد من الدول، وصولًا إلى رئيس أمريكي متقلّب في مواقفه واستراتيجياته، يبدو أن القارة الأوروبية تقف على مفترق طرق حرج. لكن، على الرغم من هذه القضايا الجيوسياسية الكبرى، فإن أولويات الناخبين داخل ألمانيا لا تُحدد فقط وفقًا لما يحدث على الساحة الدولية، بل تتأثر بعوامل داخلية تمس حياتهم اليومية بشكل مباشر.
العوامل السياسية التي تؤثر بشكل حاسم في قرارات التصويت لدى الألمان
هذا ما أظهره بوضوح استطلاع رأي حديث أجراه معهد “سيفي” للأبحاث في مطلع أكتوبر 2025، حيث شمل نحو خمسة آلاف شخص من مختلف أنحاء ألمانيا. هدف الاستطلاع إلى فهم العوامل السياسية التي تؤثر بشكل حاسم في قرارات التصويت لدى المواطنين، خصوصًا مع اقتراب موعد الانتخابات الفيدرالية المقبلة، والتي يُتوقع أن تشكل منعطفًا هامًا في المسار السياسي للبلاد.
بحسب نتائج الاستطلاع، فقد أجاب 53% من المشاركين بأن قضية الهجرة والاندماج تأتي في صدارة اهتماماتهم السياسية، وهو ما يجعل هذه القضية الأهم بلا منازع في نظر أغلبية الناخبين. هذه النسبة المرتفعة تعكس حالة القلق العام التي تسود شرائح واسعة من المجتمع الألماني إزاء تحديات استقبال اللاجئين، واندماجهم في سوق العمل، والثقافة، والنظام التعليمي. كما تُظهر استمرار الانقسام المجتمعي حول كيفية التعامل مع موجات الهجرة المتكررة، وخاصة في ظل الأزمات المستمرة في الشرق الأوسط وإفريقيا.
أما السياسة الاقتصادية، فقد جاءت في المرتبة الثانية، حيث اعتبر 40% من المستطلعة آراؤهم أنها العامل الحاسم في قرارهم الانتخابي. ويتعلق ذلك بعدة جوانب، منها التضخم، وتباطؤ النمو، وارتفاع أسعار الطاقة، إضافة إلى القلق من آثار الانتقال إلى الاقتصاد الأخضر. وتواجه ألمانيا في تحديات اقتصادية ملحوظة، لا سيما بعد تراجع الناتج الصناعي وتباطؤ قطاع التصدير، الذي يُعد من ركائز الاقتصاد الألماني.
في المرتبة الثالثة، عبّر 39% من المشاركين عن اهتمامهم الأكبر بـالسياسة الاجتماعية والمعاشات التقاعدية. ويرتبط ذلك بالنقاش الدائر حول إصلاح نظام التقاعد، ورفع سن التقاعد، وتحسين أوضاع كبار السن، خصوصًا مع التغير الديموغرافي الذي تشهده البلاد وشيخوخة السكان المتزايدة. تلت ذلك قضية الأمن الداخلي، التي اعتبرها 36% من المشاركين أولوية قصوى. وتشمل هذه المسألة المخاوف من تصاعد الجريمة، والتطرف، وحماية الحدود، وكذلك الأمن السيبراني، لا سيما في ظل ازدياد الهجمات الرقمية على مؤسسات الدولة والبنية التحتية الحيوية.
من المثير للاهتمام أن القضايا المتعلقة بالبيئة والمناخ لم تحظ بنفس القدر من الاهتمام، إذ لم تتجاوز نسبة المشاركين الذين اعتبروها مهمة جدًا 19%. هذا الانخفاض اللافت في الاهتمام بقضايا المناخ قد يعكس الحالة لدى بعض الناخبين، أو ربما شعورهم بأن الأحزاب الخضراء لم تقدم حلولًا فعّالة كافية في السنوات الأخيرة. كما جاءت قضية الإيجارات والإسكان في مرتبة متقاربة، حيث عبّر 18% من المشاركين عن اعتبارها ذات أهمية قصوى، وهو أمر متوقع بالنظر إلى أزمة الإسكان المتفاقمة في المدن الكبرى، وارتفاع الإيجارات بشكل غير مسبوق.
أما القضايا الدولية مثل الأمن العالمي والنزاعات الدولية، فقد جاءت في مرتبة أقل، حيث رأى 16% فقط من المشاركين أنها عامل حاسم في قرارهم الانتخابي. وهذا يُظهر أن نسبة كبيرة من الناخبين الألمان لا تعتبر السياسات الخارجية أولوية عند اختيار مرشحهم المفضل، رغم الاضطرابات العالمية.
فيما يخص الرقمنة والحد من البيروقراطية، فقد نالت اهتمام 14% فقط من المشاركين، تليها قضايا النقل والبنية التحتية بنسبة 11%. أما سوق العمل فلم تتجاوز نسبة المهتمين بها 8%، في حين جاءت السياسات الأسرية في ذيل القائمة بنسبة لا تتعدى 4%.
تفاوتات في أولويات الناخبين
الاستطلاع كشف عن تفاوتات إقليمية في أولويات الناخبين، لا سيما بين شرق ألمانيا وغربها. فعلى سبيل المثال، رأى 41% من سكان ألمانيا الغربية أن السياسة الاقتصادية هي الأهم، مقارنة بـ 35% فقط من سكان الشرق. بالمقابل، أولى سكان شرق البلاد اهتمامًا أكبر بقضايا التعليم والبحث 19% مقارنة بالغرب 14%، واهتموا أكثر بقضايا البيئة والمناخ 22% مقابل 18% في الغرب. مع ذلك، ظلّت قضية الهجرة والاندماج في طليعة الاهتمامات لدى الجانبين بشكل شبه متساوٍ: 52% في الشرق و53% في الغرب، مما يدل على أن هذه القضية باتت تمثل همًّا وطنيًا عامًا يتجاوز الفروقات الجغرافية أو التاريخية بين المنطقتين.
النتائج
تعكس نتائج الاستطلاع تحوّلًا واضحًا في أولويات الناخب الألماني، من التركيز على القضايا الدولية الكبرى إلى الاهتمام المتزايد بالقضايا الداخلية بشكل مباشر. تصدُّر “الهجرة والاندماج” قائمة الأولويات يعكس قلقًا متجذرًا لدى شرائح واسعة من المجتمع، لا سيما في ظل تصاعد الخطابات الشعبوية، وتحديات إدماج المهاجرين في سوق العمل والنظام التعليمي، والتوترات المجتمعية التي تصاحبها. ومن المرجّح أن تواصل هذه القضية هيمنتها على المشهد الانتخابي، خاصة إذا تكررت موجات لجوء جديدة أو ارتبطت بقضايا الأمن الداخلي.
من ناحية أخرى، يشير تركيز الناخبين على الاقتصاد والسياسة الاجتماعية إلى تزايد المخاوف من فقدان المكتسبات الاقتصادية والاجتماعية، في ظل ارتفاع تكاليف المعيشة، والتحول الطاقي، وتباطؤ النمو الاقتصادي. هذه المخاوف ستدفع الأحزاب التقليدية إلى إعادة طرح برامج اجتماعية واقتصادية أكثر واقعية، في حين ستستغل الأحزاب اليمينية هذا القلق لتقوية خطابها الانتقادي للحكومة.
في المحصلة، يبدو أن الانتخابات المقبلة ستدور بشكل رئيسي حول الهوية، والأمن، والاستقرار الداخلي، مما يُعيد تشكيل خريطة التحالفات الحزبية وخطابات الحملات الانتخابية، ويضع النخبة السياسية أمام تحديات غير مسبوقة في كسب ثقة ناخب أكثر قلقًا وواقعية.
رابط مختصر.. https://www.europarabct.com/?p=110453
