المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والإستخبارات ـ المانيا و هولندا
إعداد: إكرام زيادة – باحثة في المركز الاوروبي لمكافحة الارهاب والاستخبارات
مكافحة الإرهاب في ليبيا ـ الدور الأوروبي
أتمت الأزمة الليبية عقدها الأول بانتهاء عام 2021، ومازالت مستمرةً في التأرجح بين التسوية المُعطلة واحتمالات الارتداد إلى ميادين المواجهة والصراع، فيما تحتل صدارة أجندة أعمال دول أوروبا سواء كان الأمر على المستوى الوطني أو على مستوى الاتحاد، ويرجع ذلك بالأساس إلى التداعيات الخطرة للأزمة الليبية على أمن دول أوروبا، التي لا تبعد أكثر من 200 كلم عن الشواطئ الليبية.
حتى العام 2020 فشلت محاولات الأوروبيين في الظهور بمظهر “الكتلة المتماسكة والمتجانسة” حيال التطورات في ليبيا، فكلاً من فرنسا وايطاليا اللتين كانتا مُتحمّستيْن لإنهاء حكم القذافي، وجدتا نفسيهما في خلاف بينيّ واضح حول تطويع الميليشيات المنفلتة وسبل التعامل مع الفوضى التي اعقبت رحيل النظام السابق. فبينما دعمت إيطاليا حكومة رئيس حكومة الوفاق المعترف بها من جانب الأمم المتحدة، قدمت فرنسا – التي تقود حلفاً عسكرياً بين خمسة بلدان صحراوية تجاور ليبيا بحكم الجغرافيا- دعماً لحفتر في سياق سعيها إلى تعزيز نفوذها على الساحل الليبي، ومكافحة الإرهاب الافريقي.
بريطانيا من ناحيتها، تطالب بتطبيق حظر تصدير السلاح بشكل كامل إلى ليبيا، واحترام قرارات مجلس الأمن الدولي في هذا الصدد، موقف يتقاطع في الجوهر مع الموقف الألماني المطالب بضرورة وقف إطلاق النار، واستبعاد الحل العسكري للصراع، والدفع نحو إيجاد حل سياسي جذري للأزمة عبر استدعاء جميع الأطراف المتحاربة وداعميهم من الخارج، ودفعهم للجلوس على طاولة المفاوضات.
دوافع الاهتمام الأوروبي بالملف الليبي
موقّف “المتفرّج” للاتحاد الأوروبي في تعاطيه مع الملف الليبي خلال السنوات الماضية، قد أوجد فراغاً مكّن دولاً كتركيا وروسيا من تعزيز حضورها في الأراضي الليبية ، ما شكل تهديداً مباشراً لدور الاتحاد الأوروبي، و خطراً على فقدان نفوذه الجيوسياسي في منطقة شمال أفريقيا، والتي تُعد الحديقة الخلفية لدول الاتحاد الأوروبي.
إذ تُعد ليبيا ورقة رابحة لروسيا لمحاصرة أوروبا من الجنوب بما يجعل روسيا منافساً خطيراً لحلف الناتو في المتوسط، ويُهدد أمن أوروبا بشكل مباشر، أو على الأقل يمثل ورقة ضغط عليهم تقوِّض خياراتهم أمام ملفات شائكة تنتظر التفاوض.
ذات الأمر ينطبق تقريباً على التمدد التركي في ليبيا، الذي قد يهدد أمن الدول الأوروبية من محاور عدة، لعل أبرزها تدفق المهاجرين والارهابيين واستغلال مصادر الطاقة لابتزاز الجانب الأوروبي، ناهيك عن صفقات اعادة الاعمار في ليبيا وهي مغرية لكافة الاطراف.
وقد حذر وزير الداخلية الإيطالي الأسبق ماركو مينيتي في مقال لجريدة “لا ريبوبليكا” الإيطالية في 7 يناير2022 من استمرار سيطرة موسكو وأنقرة على ليبيا داعياً إلى مبادرة حقيقية، قوية لا لبس فيها من جانب أوروبا، التي طالبها بـدور ريادي مباشر لقارة عظيمة تتحمل مسؤولية المبادرات السياسية والدبلوماسية الهادفة إلى ضمان الاستقرار والأمن في منطقة المتوسط.
وسبق وأن حذر كذلك وزير خارجية الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل من أن تركيا ستكون قادرة على ممارسة نفوذها بطريق الهجرة من ليبيا وأنه بفضل القواعد البحرية التي ستكون قادرة على امتلاكها في ليبيا مقابل السواحل الإيطالية، فإن تركيا سيكون لها تأثير على طرق الهجرة في وسط البحر الأبيض المتوسط، كما هو الحال في شرق البحر المتوسط، وفقاً لـ”DW” في 29 يوليو 2021.
أما الدافع الثاني لزيادة الاهتمام بالأمة الليبية فيتمثل في الخوف الأوروبي من انتقال الجماعات الارهابية الموجودة في ليبيا إلى أوروبا، على اعتبار قرب المسافة بين المنطقتين، لاسيما و أن دول الاتحاد الأوروبي لم تعد تحتمل أكثر التهديدات الأمنية المتزايدة على أراضيها من طرف الحركات الجهادية والارهابية، ولعل حقيقة أن الرئيس التشادي إدريس ديبي قُتل في أبريل 2021 على أيدي المتمردين المتمركزين في ليبيا تمثل أبرز مثال على دور البلاد كمصدر لعدم الاستقرار الإقليمي والدولي.
وهو ما عبر عنه الممثل السامي لـ الاتحاد الأوروبي للشئون الخارجية والسياسة الأمنية، نائب رئيس الاتحاد جوزيب بوريل، في رسالة إلى المجلس الرئاسي الليبي في 22 ديسمبر 2021، أكد فيها على أن أمن أوروبا وازدهارها مترابطان بشكل أساسي مع أمن وازدهار ليبيا، واقتناعا بالدور الفاعل لِليبيا في استقرار البحر الأبيض المتوسط وشمال إفريقيا والساحل، وفقاً لـ”وكالة الانباء الليبية”.
ثالث الدوافع هو تصاعد تدفقات الهجرة غير الشرعية غير الخاضعة للرقابة من وإلى البلاد وكذلك انتشار شبكات الإتجار المسلحة أدت إلى ظهور آثار غير مباشرة ليس فقط على الدول المجاورة ولكن شمال وجنوب المتوسط بأكمله. لتصبح التحديات الأمنية في ليبيا مفهوماً غير قابل للتجزئة تؤدي بآثار مباشرة وغير مباشرة على الترابط بين الأمن الأوروبي والمتوسط.
وَوفقاً لأرقام المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين ، فإن أعداد المهاجرين الواصلين لإيطاليا من ليبيا في عام 2021 وصلت لأكثر من 123ألف مهاجر، فيما اعترض خفر السواحل الليبي ما يقارب31 ألف مهاجراً ولاجئاً وأعادهم إلى ليبيا ، حسبما جاء في “infomigrants ” بتاريخ 19 يناير 2022.
فيما يكمن الدافع الأهم، في الصراع على الحصول على مصادر الطاقة و الموارد الطبيعية الموجودة في ليبيا، والاتحاد الأوروبي من خلال اهتمامه بالأزمة الليبية، فإنه يحاول الإبقاء على التوازنات الاقليمية في استغلال موارد الطاقة، و منع الفاعلين الجدد مثل تركيا وقطر من كسر النفوذ الطاقوي الأوروبي في ليبيا.
حيث كشفت وكالة الطاقة الأمريكية ارتفع احتياطي النفط الليبي من 48 مليار إلى 74 مليار برميل، لتحتل بذلك المركز الخامس عالمياً، وبمخزونها الاستراتيجي من الطاقة ترفع ليبيا العمر الافتراضي لإنتاجها النفطي من 70 إلى 112 عاماً، كذلك ارتفاع احتياطات الغاز الليبي إلى ثلاثة أضعاف حيث بلغ 177 ترليون قدم مكعب، وفقاً لـ”DW” في 7 ابريل 2021.
المبادرات الأوروبية لحل الأزمة
لطالما أكدت الحكومات في باريس ولندن وبرلين وروما جمعيها على ضرورة التوصل إلى حلٍ سياسي للأزمة الليبية، لكن كان ثمة تباين بين تلك الحكومات في تأويل هذا الموقف تبعاً لتباين المصالح فيما بينها، بيد أن التدخل التركي دفع تلك الحكومات إلى تقديم تنازلات بينية بغية التوصل إلى موقف أوروبي فاعل وقادر على المساهمة في توجيه دفّة الأمور التي تشهدها ليبيا، ولعل أهم المرتكزات كانت وضعت في مؤتمر “برلين 1″، والذي ناقش العملية الانتقالية الليبية.
مؤتمر برلين1 و 2
عقد مؤتمر السلام الخاص بليبيا في برلين بألمانيا في (19 يناير 2020) ، وشارك فيه قائد الجيش خليفة حفتر، ورئيس حكومة الوفاق الوطني السابق، فايز السراج، إلى جانب عدة منظمات دولية و11 دولة، ومن أبرز النقاط التي توصل إليها المشاركون: لا حلاً عسكريا للنزاع، وكذلك احترام حظر الأسلحة الذي فرضته الأمم المتحدة عام 2011 على ليبيا.
أما مؤتمر “برلين 2” الذي عقد حول ليبيا، الذي اختتم أعماله في العاصمة الألمانية يوم (23 يونيو 2021 )، مؤكداً على إجراء الانتخابات في موعدها المقرر يوم 24 ديسمبر2021، والانسحاب الفوري للمرتزقة الأجانب من ليبيا، وكذلك السماح بانسحاب متبادل ومتناسق ومتوازن للقوات الأجنبية، مع الإسراع في حل الجماعات المسلحة والميليشيات ونزع سلاحها. وفرض عقوبات أممية ضد من ينتهك حظر الأسلحة أو وقف إطلاق النار.
ما يحسب لألمانيا هو أنها لعبت دوراً مزدوجاً تكاملياً، يتركز الدور الأول داخل أوروبا ذاتها، حيث تعمل برلين على تقريب وجهات النظر بين الدول الأوروبية الأكثر ارتباطا بالملف الليبي وبالتحديد إيطاليا وفرنسا “المتخاصمتين”، بهدف توحيد الموقف الأوروبي، والحدّ من المزيد من التنافس الأوروبي ــ الأوروبي داخل ليبيا. أما الدور الثاني فيتمثل في طرح المبادرات الدولية لحل الأزمة، الذي كان من أبرزها “مؤتمر برلين” بنسختيه.
مؤتمر باريس حول ليبيا
استضافت العاصمة الفرنسية في (12 نوفمبر 2021) مؤتمرا حول ليبيا بمشاركة أطراف دولية بارزة وعدد من الدول الفاعلة في المشهد الليبي. ان مؤتمر باريس حول ليبيا، لا يشكل مرجعية جديدة للتسوية السياسية للأزمة الليبية، وإنما يشكل مؤتمراً ختامياً يهدف إلى التأكيد على تنفيذ أولويات الاستحقاقات المرحلية المتمثلة في إنجاز الانتخابات الليبية الرئاسية والتشريعية، ودعم اللجنة العسكرية المشتركة (5+5) التي تتولى ملف إجلاء المرتزقة والمقاتلين الأجانب.
وطلب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في هذا المؤتمر من تركيا وروسيا أن “تسحبا المرتزقة التابعة لها من ليبيا بدون تأخير لأن وجودهم يهدد الاستقرار والأمن في البلاد والمنطقة برمتها”، تشهد بعدها ليبيا أول خطوة لسحب المرتزقة من الشرق الليبي قدر عددهم بـ 300 مرتزق في إطار اتفاق فرنسي مع قائد قوات الشرق الليبي المشير خليفة حفتر، بحسب وزارة الخارجية الفرنسية في 4 يناير 2022.
نجحت الجهود الأوروبية بصورة مرحلية بإحراز تقدم ملحوظ في جهود التسوية السياسية في ليبيا ، اذ تم انتخاب ومنح الثقة البرلمانية لسلطة انتقالية جديدة (مارس 2021)، إلا أن هذا التقدم سرعان ما جرى الارتداد عنه بشكل جزئي؛ حيث دخلت حكومة الوحدة في صدام مع مجلس النواب، ما دفع مجلس النواب لسحب الثقة من حكومة الوحدة (سبتمبر2021)، واتجه المشهد الليبي نحو تعقيد إضافي؛ حين فشلت لجنة الحوار السياسي في إقرار قاعدة دستورية تؤسس الانتخابات التي كان مقرر عقدها نهاية العام (24 ديسمبر)، واستمر الاستقطاب المتصاعد بين القوى والمكونات الليبية حول تجاوز المرحلة الانتقالية الراهنة.
وفي المقابل، استطاعت الجهود الأوروبية في تهدئة الوضع الميداني خلال عام 2021 والذي شهد تراجعاً واضحاً لحالة “الحرب الشاملة” التي كانت قائمةً بين العامين (2019-2020)؛ حيث صمد اتفاق وقف إطلاق النار المستدام (أكتوبر2020) بوجه الإشكاليات والصعوبات المتجذرة بالمشهد، كما نجحت اللجنة العسكرية المشتركة (5+5) في إقرار خطة عمل لإخراج “المرتزقة” والمقاتلين الأجانب والقوات الأجنبية، إلا أن تلك الجهود لم تحقق التقدم المأمول، فمازال المرتزقة والقوات الأجنبية متواجدة بليبيا، ولم تنجز خطوات لتفعيل نصو الاتفاق المتعلقة بإعادة تأهيل ودمج العناصر المسلحة بالكيانات الأمنية-العسكرية، أو اتخاذ إجراءات ملموسة لتوحيد المؤسسة العسكرية المنشود.
في مقال له بصحيفة “لوفيغارو” الفرنسية، يقول الكاتب رينو جيرار إن فرص نجاح الانتخابات في ليبيا واعادة الاستقرار وسيادة القانون التي تحتاجها البلاد تبقى ضئيلة للغاية، فيما تعد قوية للغاية الفرص التي تحافظ بها تركيا وروسيا -اللتين أبرمتا صفقة سرا- على قواعدهما العسكرية في ليبيا، من أجل زيادة سيطرتهما على شرق البحر الأبيض المتوسط. ويرى الكاتب في مقاله الذي عنونه بـ”كيف خسرت أوروبا ليبيا”؟ أنّ ليبيا صارت ملاذاً مثالياً لتجار البشر والجهاديين، في حين لم تتمكن أوروبا من أن تكون لاعباً أساسياً في مجريات الأحداث بهذا البلد رغم أهميته بالنسبة لها، ورغم حماستها المفرطة في بداية النزاع للتدخل ودعم المنادين بسقوط الديكتاتور.
التقييم
فشل الاتحاد الأوروبي الدائم في وضع سياسة خارجية شاملة وموحدة تجاه ليبيا على مدى العقد الماضي؛ وذلك لأن الانقسامات بين فرنسا وإيطاليا تجعلهما في موقع التنافس بدلاً من التحالف.
اقتحام أنقرة للملف الليبي من البوابة العسكرية، وتزايد النفوذ الروسي في ليبيا، دفع الدول الأوروبية، وخاصة فرنسا وإيطاليا وبريطانيا إلى تبني موقف أوروبي فاعل وقادر على المساهمة في توجيه دفّة الأمور التي تشهدها ليبيا.
تعتبر المسارات الأممية الجديدة فرصة للأوروبيين لإعادة الإمساك بخيوط الأزمة الليبية، بعد أن فقدتها وفقدت أيضاً القدرة على التحكم في مجريات الأوضاع هناك لفائدة دولة أخرى لم تكن لها مكانة كبيرة في ليبيا إلى وقت قريب، لكن ذلك لن يكون بالسهولة المتوقعة.
بعد مرور ما يقارب عامين على مؤتمر برلين الأول وجميع جلسات الحوار الليبي التي تخللت هذه المدة ما بين العواصم الأوروبيةـ أظهرت جميع هذه التجارب بجلاء أنه لا يمكن تسوية خلافات الأزمة الليبية تحت مظلة سلام هش نتيجة غياب إرادة حقيقية لإنهاء خلافات هذه الأزمة وغلبة منطق سياسية المصالح سواء على مستوى الأطراف الداخلية والخارجية.
مؤشرات -الخيار العسكري- تفوق مؤشرات الخيار السياسي في ظل عدم التنفيذ الفعلي لبنود اتفاق وقف إطلاق النار وفي ظل صعوبة بناء التوافق إنهاء جميع العمليات والتواجد العسكري للمرتزقة والقوات الأجنبية وتفكيك الميليشيات وحظر توريد السلاح إلى ليبيا.
وفي ظل المعطيات القائمة والوضع الراهن، فإن أمام الاتحاد الاوروبي ثلاث خيارات لحل الأزمة:
- الخيار الأول ، في حال لم تظهر روسيا وتركيا لحد الآن استعدادات عملية لسحب قواتهما من المرتزقة فإنهما قد تقبلان بمقايضة الحضور العسكري أو على الأقل تقليصه، بمصالح اقتصادية في ليبيا ضمن خطط إعادة البناء أو عقود الطاقة
- الخيار الثاني: فرض عقوبات على الدول أو المجموعات أو الشخصيات غير المتعاونة في ملف سحب القوات الأجنبية والمرتزقة.. لكن يظل هذا الخيار مهددا بالإحباط في مجلس الأمن مثلا عبر فيتو روسي.
- الخيار ثالث، وهو الإعداد لمؤتمر آخر بعد برلين وباريس يركز على ملف المرتزقة، وسيكون المؤتمر غربياً بالأساس يكون هدفه مباشراً في ممارسة ضغط ميداني وخطط عسكرية لإخراج المرتزقة.
رابط مختصر..https://www.europarabct.com/?p=79535
*حقوق النشر محفوظة إلى المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات
الهوامش
تحليل: ليبيا جديدة قادمة والطريق ليس من حرير!
https://bit.ly/3nVV1Ck
Lo spettro della spartizione
https://bit.ly/3IxakJu
بوريل يحذر من نفوذ تركي على طرق الهجرة في ليبيا
https://bit.ly/3tXFx4t
Numbers of migrants intercepted by Libyan coast guard ‘almost tripled’ in 2021
https://bit.ly/3KGzVBH
EUROPE CAN’T IGNORE LIBYA
https://bit.ly/3AJ4W3v