بون ـ المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات ECCI ـ وحدة الدراسات (3)
الدفاع والأمن في ألمانيا ـ المفاهيم الجديدة بعد حرب أوكرانيا
تشهد العقيدة الأمنية الألمانية تحولًا جذريًا يعكس إدراك برلين لتغير طبيعة التهديدات المحيطة بها، خصوصًا بعد اندلاع حرب أوكرانيا عام 2022. فبعد عقودٍ من الحذر العسكري الذي أعقب الحرب العالمية الثانية، تتبنى ألمانيا نهجًا أكثر واقعية وفاعلية يقوم على “الجاهزية للحرب” وتعزيز الردع والدفاع الذاتي. يأتي هذا التحول ضمن سياسة “نقطة التحول Zeitenwende” التي أعلنها المستشار الألماني السابق “أولاف شولتس”، والتي تمثل انتقال ألمانيا من الاعتماد على الحماية الأمريكية إلى بناء قوة عسكرية مستقلة قادرة على حماية أمنها وأمن أوروبا في مواجهة التهديدات الروسية المتصاعدة.
ما هي أسباب التحوّل في الفكر الأمني الألماني؟
تعكس التطورات في المشهد الدفاعي في ألمانيا تحوّلًا ملحوظًا في الفكر الأمني الألماني، الذي لطالما اتسم بالحذر بعد الحرب العالمية الثانية. فبينما كانت برلين تتجنب الحديث عن الاستعداد للحرب لعقود طويلة، بدأت تتحدث بصراحة عن ضرورة “الجاهزية للحرب” وإعادة بناء منظومة الردع والدفاع. يأتي هذا التغيير في ظل سياسة نقطة التحول “Zeitenwende” التي أعلنها المستشار الألماني السابق “أولاف شولتس” عقب حرب أوكرانيا في فبراير 2022، والتي تهدف إلى تعزيز قدرات الجيش الألماني وتخصيص مئات المليارات لتطوير التسليح والتقنيات الدفاعية.
يشعر جهاز الاستخبارات الخارجية الألمانية “BND” بقلق خاص بشأن أمن لواء الجيش الألماني في ليتوانيا، بعد تدهور الوضع الأمني في دول البلطيق، وبالتالي على الجانب الشرقي لحلف شمال الأطلسي، بشكل أكبر خلال عام 2025. ويظل اللواء الألماني هدفًا للتجسس والتخريب، وترى وزارة الدفاع الألمانية أن التقديرات الاستراتيجية والعسكرية تشير إلى أن الكرملين يسعى لاستعادة قدراته القتالية بسرعة بعد حرب أوكرانيا، ويعمل على تعبئة اقتصاده وجيشه على أساس صراع طويل الأمد مع الغرب، لا سيما ألمانيا. وتشير التقييمات الاستخباراتية إلى أن هذا الموعد قد يشهد تصعيدًا روسيًا محتملًا يشمل هجمات هجينة أو استفزازات مباشرة ضد دول الحلف، لا سيما ألمانيا.
يرى خبراء الجيش الألماني، في ضوء التهديد الذي تشكله روسيا، أسبابًا وجيهة لزيادة الإنفاق الدفاعي، وإعادة توجيه استراتيجياتها وخططها الدفاعية بشكل متسارع، وتعزيز جاهزيتها وتحديث قدراتها لمواجهة هذا التهديد المتوقع، وكذلك استثمار المزيد من الأموال في القوات المسلحة التي أُهملت لعقود من الزمن. تقول خبيرة الأمن “آيلين ماتل” من المجلس الألماني للعلاقات الخارجية (DGAP): “الأمر لا يتعلق بإرضاء الأمريكيين، ولا بإثراء صناعة الأسلحة؛ فمن مصلحة ألمانيا الوطنية أن تكون قادرة على الدفاع عن نفسها”. الناتو وروسيا ـ بحر البلطيق كمنطقة استراتيجية ونقاط الاحتكاك
تحديث وتعزيز قدرات الجيش الألماني
يهدف الجيش الألماني، بحلول عام 2035، إلى زيادة قوامه إلى (260 ) ألف جندي نشط ممن أمضوا (6) أشهر على الأقل في الخدمة، بالإضافة إلى (200) ألف جندي احتياطي. يبلغ تعداد القوات حتى عام 2025 حوالي (182) ألف جندي نشط، مع حوالي (100) ألف جندي احتياطي على أهبة الاستعداد. يقول “توماس إرندل”، المتحدث باسم السياسة الدفاعية في الكتلة البرلمانية للحزبين CDU/CSU: “يجب إجراء نقاش شامل حول توسيع الجيش الألماني واحتياطياته، لا يمكننا تأجيله ببساطة”. أضاف “إرندل”: “من مصلحة أمن بلادنا، وبالطبع مصلحة الائتلاف، أن نتوصل بسرعة إلى موقف مشترك”.
يحظى تعزيز الجيش الألماني ماليًا وبشريًا بتأييد متزايد. لم يسبق أن أيد عدد أكبر من المواطنين زيادة الإنفاق الدفاعي (64%)، بزيادة (7) نقاط مئوية مقارنة بعام 2024، وزيادة عدد أفراده (65%)، بزيادة (7) نقاط مئوية. تؤيد غالبية المشاركين في الاستطلاع تعزيز الجيش الألماني، بينما تؤيد أقلية ضئيلة خفض الإنفاق الدفاعي (8%) وخفض عدد أفراد الجيش الألماني (7%). بينما يؤيد ربع المشاركين (24%)، بانخفاض (6) نقاط مئوية، الحفاظ على المستوى نفسه. لا تزال أغلبية كبيرة من المجتمع، تتجاوز (80%)، تتمتع بموقف إيجابي تجاه الجيش الألماني، وتثق به، وتقيِّم العلاقة بينه وبين المجتمع بشكل إيجابي.
تعزيز القدرات الوطنية للتعامل مع تهديدات الطائرات بدون طيار
تعمل الحكومة الألمانية على مراجعة شاملة لقانون أمن الطيران المدني، والتي تُعد الخطوة الثانية في مسار تعزيز القدرات الوطنية للتعامل مع تهديدات الطائرات بدون طيار. تتمثل أبرز بنود هذا الإصلاح في تنظيم مشاركة الجيش الألماني في العمليات المتعلقة بالطائرات بدون طيار، لا سيما في الحالات التي تفوق فيها قدرات الشرطة. حدّد “ألكسندر دوبريندت” خلال أكتوبر 2025 حزمة من الإجراءات التي لخّصها بثلاثية “التمكين، والتسليح، والدمج”، وفيما يخص “الدمج” شدد على التعاون الوثيق بين سلطات الأمن والدفاع من أجل تقصير أوقات الاستجابة وتوضيح المسؤوليات.
يختبر باحثون من المركز الألماني لأبحاث الفضاء (DLR) خيارات أكثر دقة للتعامل مع الطائرات بدون طيار المعادية المحتملة، من خلال مجموعة من معدات الكشف عن الطائرات بدون طيار كـ”البصريات والكاميرات المتطورة، ومصفوفات الرادار وغيرها من المعدات”. يقول “يوهان داور”، الذي يقود أبحاث الطائرات بدون طيار في معهد أنظمة الطيران التابع للمركز الألماني للطيران والفضاء في أكتوبر 2025: “إن التدابير المضادة المستخدمة للدفاع ضد الطائرات بدون طيار تختلف اختلافًا كبيرًا، ويجب أن تكون مصممة بدقة شديدة لتناسب الموقف”. التجسس ـ هل تمثّل الطائرات المسيرة خطرًا أمنيًا على البنية التحتية الألمانية؟
خطة شاملة للتسليح والمشتريات من الأسلحة
ارتفعت واردات ألمانيا من الأسلحة بنسبة (%334) وجاء حوالي (%70) منها من الولايات المتحدة، وفقًا لمعهد “سيبري” لأبحاث السلام في ستوكهولم. تعمل الحكومة الألمانية على خطة شاملة للتسليح والمشتريات بقيمة تصل إلى (83) مليار يورو. ستُخصّص غالبية الطلبات لمصنّعين أوروبيين، بينما ستُشترى حوالي (%8) فقط من الولايات المتحدة الأمريكية. وفي المجمل، تخطط الحكومة الألمانية لإتمام (154) عملية شراء دفاعية رئيسية بين سبتمبر 2025 وديسمبر 2026. يقول الدكتور “جوزيف برامل”، الخبير الأمريكي ومؤلف كتاب “الوهم عبر الأطلسي”: “لقد انتهى الأمن، وانتهى السلام الأمريكي. لعقود من الزمن، وضعت ألمانيا دفاعها في أيدي الولايات المتحدة، لذلك يتعين على البلاد أن تتحمل مسؤولية أمنها في أقصر وقت ممكن”.
قرر رؤساء الوزراء في ألمانيا الشرقية “إنشاء قدرات الإنتاج والإصلاح بشكل متزايد في ألمانيا الشرقية”. أوضح وزير الدفاع الألماني “بوريس بيستوريوس”: “نحن متفقون تمامًا على ضرورة بذل قصارى جهدنا لتوسيع مواقع الصناعات الدفاعية في ألمانيا الشرقية”. أوضح “بيستوريوس”: “لسنا في حالة حرب، لكننا لم نعد في سلام تام، نتعرض لهجمات متعددة، من خلال حملات تضليل إعلامي، وبالطبع من خلال اقتحامات طائرات بدون طيار”.
يُجهَّز الجيش الألماني بأكثر من (400) مركبة مدرعة جديدة بعجلات، بقيمة تقارب (7) مليارات يورو، وذلك وفقًا لوثائق من وزارة المالية إلى لجنة الميزانية. أبرز البنود التي وردت اتفاقية إطارية مع شركة الدفاع الأمريكية “جنرال ديناميكس” لتطوير وشراء ما يصل إلى (356) مركبة استطلاع جديدة. كما سيتم تقديم طلبات شراء مؤكدة لـ(274) مركبة مبدئيًا، بقيمة تُقدَّر بحوالي (3.5) مليار يورو، واستدعاء (82) دبابة إضافية لاحقًا، مما سيزيد الحجم الإجمالي إلى حوالي (4.6) مليار يورو، ومن المقرر تسليم أولى المركبات في عام 2028.
الاعتماد على الذكاء الاصطناعي في مجال الدفاع
يبدو أن الحكومة الألمانية، في ظل تصاعد التهديدات والمخاطر المتعلقة بالطائرات بدون طيار الروسية خلال عام 2025 وتداعياتها على الأمن القومي الألماني، تتجه نحو مرحلة حاسمة من إعادة الهيكلة لقدراتها الدفاعية، تعتمد فيها على آليات الذكاء الاصطناعي كأساس لمعادلة الردع والدفاع في المستقبل. فمن المتوقع أن يشهد العام 2026 تسريعًا في دمج أنظمة الذكاء الاصطناعي داخل البنية العسكرية الألمانية، مع تنامي التعاون الصناعي الأوروبي لتأمين إنتاج مرن وفعال للطائرات بدون طيار. أمن دولي ـ مفاوضات روسيا وأوكرانيا، الفرص والعقبات
التعاون مع الناتو والشركاء الأوروبيين
تُكثّف ألمانيا مشاركتها في حماية الحدود الشرقية لحلف شمال الأطلسي، حيث أعلن المتحدث باسم الحكومة “ستيفان كورنيليوس”: “أن مراقبة المجال الجوي فوق بولندا من قِبل الطائرات المقاتلة الألمانية ستُوسّع وتُكثّف”. كذلك يتم مضاعفة عدد الطائرات المقاتلة من طائرتين إلى (4) طائرات. تُنفّذ القوات المسلحة الألمانية عملياتها بالفعل فوق بولندا بطائرتين مقاتلتين من طراز “يوروفايتر”، متمركزتين في “روستوك-لاج”. أكدت وزارة الدفاع أن عدد الطائرات سيتضاعف إلى (4) طائرات. علاوة على ذلك، سيتم تمديد فترة النشر، التي كان من المقرر سابقًا أن تستمر حتى 30 سبتمبر فقط، حتى 31 ديسمبر 2025.
أعلن الجيش الألماني في سبتمبر 2025 عن انطلاق واحدة من أضخم المناورات العسكرية تحت اسم “كوادرِيغا Quadriga”، بمشاركة (14) دولة من أعضاء حلف شمال الأطلسي، في خطوة تهدف إلى تعزيز القدرات الدفاعية المشتركة للدول الأعضاء داخل الحلف، والتدريب على مواجهة التهديدات المحتملة في منطقة بحر البلطيق، التي أصبحت بؤرة اهتمام أمني متزايد منذ اندلاع حرب أوكرانيا في عام 2022.
وصفت وزارة الدفاع الاتحادية إنشاء اللواء المدرع في ليتوانيا بأنه “أحد أكثر المشاريع تعقيدًا وطموحًا في تاريخ الجيش الألماني”. ولم يسبق من قبل أن تم إرسال هذا العدد الكبير من الجنود إلى الخارج بشكل دائم. يضم اللواء القتالي نحو (5000) فرد من الجيش الألماني بحلول عام 2027، بما في ذلك (200) موظف مدني. تقول الحكومة الألمانية، من خلال اللواء الموجود في ليتوانيا، إنها تريد تقديم التزام واضح تجاه حلف شمال الأطلسي.
تعتزم ألمانيا شراء (300) صاروخ “باتريوت” إضافي للدفاع الجوي من الولايات المتحدة مقابل (1.5) مليار يورو، وتُساهم النرويج بنحو (200) مليون يورو في الصفقة، التي ستُستكمل على مدى (4) سنوات. اتفقت باريس وبرلين، في 29 أغسطس 2025، على إطلاق “حوار استراتيجي” مشترك بقيادة الرئاسة الفرنسية والمستشارية الألمانية، لمناقشة أفق التعاون النووي في الإطار الأوروبي، وتحديد دور الردع النووي الفرنسي ضمن منظومة الأمن الجماعي الأوروبي. أعلنت الدولتان عن مبادرة جديدة لتطوير نظام أوروبي للإنذار المبكر ضد الهجمات الصاروخية، وهو مشروع يحمل اسم “JEWEL”.
تقييم وقراءة مستقبلية
– تُشير التطورات إلى أن ألمانيا تمرّ بمرحلة “تحوّل” جذرية في عقيدتها الأمنية والدفاعية، مدفوعة بشكل أساسي بالتهديد الروسي المتصاعد في أعقاب حرب أوكرانيا، والغموض المستقبلي المحيط بدور الولايات المتحدة في حلف شمال الأطلسي. يمكن القول إن عصر “الحذر” الذي ساد ما بعد الحرب العالمية الثانية قد انتهى، ليحل محله تبنّي خطاب “الجاهزية للحرب” و”إعادة بناء منظومة الردع والدفاع”.
– ترى برلين أن روسيا تعمل بسرعة على استعادة قدراتها القتالية وتعبئة اقتصادها من أجل صراع طويل الأمد مع الغرب، لا سيما ألمانيا. هذا التقييم الاستخباراتي “الحاد” يدفع إلى اتخاذ إجراءات فورية، مثل التمركز الدائم للواء ألماني في ليتوانيا، وزيادة كثافة طلعات المراقبة الجوية فوق بولندا.
– يُشدد الساسة الألمان على أن الأمن لم يعد مضمونًا من قِبل الولايات المتحدة. هذا الإدراك يُلزم ألمانيا بتحمل مسؤولية أمنها في أقصر وقت، وهو ما يتجسد في خطة التسليح الشاملة التي تركز على المصنّعين الأوروبيين، واتفاق “الحوار الاستراتيجي” مع فرنسا بشأن الردع النووي الفرنسي ودوره في الأمن الأوروبي. هذا المسار يؤسس لاستقلالية استراتيجية أوروبية، تكون فيها ألمانيا، إلى جانب فرنسا، هي الركيزة.
– تتجه ألمانيا بقوة نحو هدف طموح لزيادة قوام الجيش النشط والاحتياطي بشكل كبير بحلول عام 2035، مدعومًا بـ(83) مليار يورو لخطة التسليح والمشتريات. اللافت هو الدعم الشعبي المتزايد لزيادة الإنفاق الدفاعي والتجنيد العسكري، واستعداد نسبة كبيرة من السكان للدفاع عن البلاد، مما يعكس تحولًا مجتمعيًا في النظرة إلى الجيش والأمن.
– تُمثل الاستفزازات بالطائرات المسيّرة الروسية تهديدًا ملموسًا، ما دفع الحكومة لتعديل القوانين لتمكين الجيش من التعامل معها. الأهم هو الاعتماد المتزايد على الذكاء الاصطناعي في الردع المستقبلي ودمج هذه الأنظمة في البنية العسكرية، بالإضافة إلى خطط لتطوير نظام إنذار صاروخي أوروبي مشترك “JEWEL”.
– تُكثّف ألمانيا دورها في الناتو من خلال نشر القوات والمناورات المشتركة مثل “كوادرِيغا”، رغم التحول نحو استقلالية دفاعية أكبر، وكذلك شراء صواريخ “باتريوت” وتوقيع اتفاقيات صيانة دفاعية مع النرويج. هذا يدل على أن تعزيز أوروبا هو تعزيز للناتو، وليس بديلاً عنه في الوقت الراهن.
– من المرجح أن يشهد عام 2026 وما يليه تسارعًا كبيرًا في التحديث العسكري الألماني، خاصة في دمج أنظمة الذكاء الاصطناعي والطائرات المسيّرة. ستكون التحديات الرئيسية هي تأمين التمويل اللازم بشكل مستدام لتلبية الأهداف الطموحة لعام 2035. ومن المتوقع أن تعمل ألمانيا على تعميق “الحوار الاستراتيجي” مع فرنسا لبلورة الدور المستقبلي للردع النووي الفرنسي ضمن مظلة الأمن الأوروبي، مما قد يؤدي إلى بلورة ملامح القوة الأوروبية الجديدة القادرة على الوقوف بوجه التهديدات دون الاعتماد الكلي على واشنطن.
رابط مختصر.. https://www.europarabct.com/?p=110780
*حقوق النشر محفوظة إلى المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات
الهوامش
Pistorius schickt Kampfjets für Nato-Schutzflüge nach Polen
https://tinyurl.com/56wzyf4e
Geheimdienst-Kontrolle in Kriegszeiten: mehr oder weniger?
https://tinyurl.com/42rue9sh
Übung für den Ernstfall: Bundeswehr nimmt an NATO-Großmanöver teil
https://tinyurl.com/brhpnbh3
