المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات ـ ألمانيا وهولندا
ملف الدفاع والأمن في ألمانيا، مفاهيم جديدة بعد حرب أوكرانيا
نسخة الملف PDF ـ ملف الدفاع والأمن في ألمانيا، مفاهيم جديدة بعد حرب أوكرانيا
المقدمة
شكّلت الحرب الروسية الأوكرانية منذ عام 2022 نقطة تحول جوهرية في التفكير الأمني والدفاعي داخل ألمانيا. أدركت ألمانيا أن التهديدات الخارجية لم تعد نظرية، بل أصبحت ملموسة ومباشرة من الشرق، ما استدعى تبنّي مفاهيم جديدة للأمن القومي، وزيادة الإنفاق الدفاعي، وتطوير القدرات العسكرية والبنية التشريعية ذات الصلة.
يتناول هذا الملف ثلاثة محاور رئيسية: الأول يسلّط الضوء على التحول المفاهيمي في الدفاع والأمن الألماني بعد حرب أوكرانيا، والإجراءات التشريعية والتنظيمية التي اتُخذت عام 2025. أما الثاني فيناقش التحديات التي تواجه برلين في تنفيذ استراتيجيتها الدفاعية، بما في ذلك العقبات المالية والسياسية والبيروقراطية. في حين يتناول المحور الثالث التحول الدفاعي على مستوى الاتحاد الأوروبي، من خلال استعراض دور المفوضية الأوروبية وصناديق الدفاع وخطط عام 2025 الهادفة إلى تعزيز الصناعات العسكرية الأوروبية المشتركة.
1 ـ الدفاع والأمن في ألمانيا ـ “نقطة التحول”بعد حرب أوكرانيا
تشهد العقيدة الأمنية الألمانية تحولًا جذريًا يعكس إدراك برلين لتغير طبيعة التهديدات المحيطة بها، خصوصًا بعد اندلاع حرب أوكرانيا عام 2022. فبعد عقودٍ من الحذر العسكري الذي أعقب الحرب العالمية الثانية، تتبنى ألمانيا نهجًا أكثر واقعية وفاعلية يقوم على “الجاهزية للحرب” وتعزيز الردع والدفاع الذاتي. يأتي هذا التحول ضمن سياسة “نقطة التحول Zeitenwende” التي أعلنها المستشار الألماني السابق “أولاف شولتس”، والتي تمثل انتقال ألمانيا من الاعتماد على الحماية الأمريكية إلى بناء قوة عسكرية مستقلة قادرة على حماية أمنها وأمن أوروبا في مواجهة التهديدات الروسية المتصاعدة.
ما هي أسباب التحوّل في الفكر الأمني الألماني؟
تعكس التطورات في المشهد الدفاعي في ألمانيا تحوّلًا ملحوظًا في الفكر الأمني الألماني، الذي لطالما اتسم بالحذر بعد الحرب العالمية الثانية. فبينما كانت برلين تتجنب الحديث عن الاستعداد للحرب لعقود طويلة، بدأت تتحدث بصراحة عن ضرورة “الجاهزية للحرب” وإعادة بناء منظومة الردع والدفاع. يأتي هذا التغيير في ظل سياسة نقطة التحول “Zeitenwende” التي أعلنها المستشار الألماني السابق “أولاف شولتس” عقب حرب أوكرانيا في فبراير 2022، والتي تهدف إلى تعزيز قدرات الجيش الألماني وتخصيص مئات المليارات لتطوير التسليح والتقنيات الدفاعية.
يشعر جهاز الاستخبارات الخارجية الألمانية “BND” بقلق خاص بشأن أمن لواء الجيش الألماني في ليتوانيا، بعد تدهور الوضع الأمني في دول البلطيق، وبالتالي على الجانب الشرقي لحلف شمال الأطلسي، بشكل أكبر خلال عام 2025. ويظل اللواء الألماني هدفًا للتجسس والتخريب، وترى وزارة الدفاع الألمانية أن التقديرات الاستراتيجية والعسكرية تشير إلى أن الكرملين يسعى لاستعادة قدراته القتالية بسرعة بعد حرب أوكرانيا، ويعمل على تعبئة اقتصاده وجيشه على أساس صراع طويل الأمد مع الغرب، لا سيما ألمانيا. وتشير التقييمات الاستخباراتية إلى أن هذا الموعد قد يشهد تصعيدًا روسيًا محتملًا يشمل هجمات هجينة أو استفزازات مباشرة ضد دول الحلف، لا سيما ألمانيا.
يرى خبراء الجيش الألماني، في ضوء التهديد الذي تشكله روسيا، أسبابًا وجيهة لزيادة الإنفاق الدفاعي، وإعادة توجيه استراتيجياتها وخططها الدفاعية بشكل متسارع، وتعزيز جاهزيتها وتحديث قدراتها لمواجهة هذا التهديد المتوقع، وكذلك استثمار المزيد من الأموال في القوات المسلحة التي أُهملت لعقود من الزمن. تقول خبيرة الأمن “آيلين ماتل” من المجلس الألماني للعلاقات الخارجية (DGAP): “الأمر لا يتعلق بإرضاء الأمريكيين، ولا بإثراء صناعة الأسلحة؛ فمن مصلحة ألمانيا الوطنية أن تكون قادرة على الدفاع عن نفسها”. الناتو وروسيا ـ بحر البلطيق كمنطقة استراتيجية ونقاط الاحتكاك
تحديث وتعزيز قدرات الجيش الألماني
يهدف الجيش الألماني، بحلول عام 2035، إلى زيادة قوامه إلى (260 ) ألف جندي نشط ممن أمضوا (6) أشهر على الأقل في الخدمة، بالإضافة إلى (200) ألف جندي احتياطي. يبلغ تعداد القوات حتى عام 2025 حوالي (182) ألف جندي نشط، مع حوالي (100) ألف جندي احتياطي على أهبة الاستعداد. يقول “توماس إرندل”، المتحدث باسم السياسة الدفاعية في الكتلة البرلمانية للحزبين CDU/CSU: “يجب إجراء نقاش شامل حول توسيع الجيش الألماني واحتياطياته، لا يمكننا تأجيله ببساطة”. أضاف “إرندل”: “من مصلحة أمن بلادنا، وبالطبع مصلحة الائتلاف، أن نتوصل بسرعة إلى موقف مشترك”.
يحظى تعزيز الجيش الألماني ماليًا وبشريًا بتأييد متزايد. لم يسبق أن أيد عدد أكبر من المواطنين زيادة الإنفاق الدفاعي (64%)، بزيادة (7) نقاط مئوية مقارنة بعام 2024، وزيادة عدد أفراده (65%)، بزيادة (7) نقاط مئوية. تؤيد غالبية المشاركين في الاستطلاع تعزيز الجيش الألماني، بينما تؤيد أقلية ضئيلة خفض الإنفاق الدفاعي (8%) وخفض عدد أفراد الجيش الألماني (7%). بينما يؤيد ربع المشاركين (24%)، بانخفاض (6) نقاط مئوية، الحفاظ على المستوى نفسه. لا تزال أغلبية كبيرة من المجتمع، تتجاوز (80%)، تتمتع بموقف إيجابي تجاه الجيش الألماني، وتثق به، وتقيِّم العلاقة بينه وبين المجتمع بشكل إيجابي.
تعزيز القدرات الوطنية للتعامل مع تهديدات الطائرات بدون طيار
تعمل الحكومة الألمانية على مراجعة شاملة لقانون أمن الطيران المدني، والتي تُعد الخطوة الثانية في مسار تعزيز القدرات الوطنية للتعامل مع تهديدات الطائرات بدون طيار. تتمثل أبرز بنود هذا الإصلاح في تنظيم مشاركة الجيش الألماني في العمليات المتعلقة بالطائرات بدون طيار، لا سيما في الحالات التي تفوق فيها قدرات الشرطة. حدّد “ألكسندر دوبريندت” خلال أكتوبر 2025 حزمة من الإجراءات التي لخّصها بثلاثية “التمكين، والتسليح، والدمج”، وفيما يخص “الدمج” شدد على التعاون الوثيق بين سلطات الأمن والدفاع من أجل تقصير أوقات الاستجابة وتوضيح المسؤوليات.
يختبر باحثون من المركز الألماني لأبحاث الفضاء (DLR) خيارات أكثر دقة للتعامل مع الطائرات بدون طيار المعادية المحتملة، من خلال مجموعة من معدات الكشف عن الطائرات بدون طيار كـ”البصريات والكاميرات المتطورة، ومصفوفات الرادار وغيرها من المعدات”. يقول “يوهان داور”، الذي يقود أبحاث الطائرات بدون طيار في معهد أنظمة الطيران التابع للمركز الألماني للطيران والفضاء في أكتوبر 2025: “إن التدابير المضادة المستخدمة للدفاع ضد الطائرات بدون طيار تختلف اختلافًا كبيرًا، ويجب أن تكون مصممة بدقة شديدة لتناسب الموقف”. التجسس ـ هل تمثّل الطائرات المسيرة خطرًا أمنيًا على البنية التحتية الألمانية؟
خطة شاملة للتسليح والمشتريات من الأسلحة
ارتفعت واردات ألمانيا من الأسلحة بنسبة (%334) وجاء حوالي (%70) منها من الولايات المتحدة، وفقًا لمعهد “سيبري” لأبحاث السلام في ستوكهولم. تعمل الحكومة الألمانية على خطة شاملة للتسليح والمشتريات بقيمة تصل إلى (83) مليار يورو. ستُخصّص غالبية الطلبات لمصنّعين أوروبيين، بينما ستُشترى حوالي (%8) فقط من الولايات المتحدة الأمريكية. وفي المجمل، تخطط الحكومة الألمانية لإتمام (154) عملية شراء دفاعية رئيسية بين سبتمبر 2025 وديسمبر 2026. يقول الدكتور “جوزيف برامل”، الخبير الأمريكي ومؤلف كتاب “الوهم عبر الأطلسي”: “لقد انتهى الأمن، وانتهى السلام الأمريكي. لعقود من الزمن، وضعت ألمانيا دفاعها في أيدي الولايات المتحدة، لذلك يتعين على البلاد أن تتحمل مسؤولية أمنها في أقصر وقت ممكن”.
قرر رؤساء الوزراء في ألمانيا الشرقية “إنشاء قدرات الإنتاج والإصلاح بشكل متزايد في ألمانيا الشرقية”. أوضح وزير الدفاع الألماني “بوريس بيستوريوس”: “نحن متفقون تمامًا على ضرورة بذل قصارى جهدنا لتوسيع مواقع الصناعات الدفاعية في ألمانيا الشرقية”. أوضح “بيستوريوس”: “لسنا في حالة حرب، لكننا لم نعد في سلام تام، نتعرض لهجمات متعددة، من خلال حملات تضليل إعلامي، وبالطبع من خلال اقتحامات طائرات بدون طيار”.
يُجهَّز الجيش الألماني بأكثر من (400) مركبة مدرعة جديدة بعجلات، بقيمة تقارب (7) مليارات يورو، وذلك وفقًا لوثائق من وزارة المالية إلى لجنة الميزانية. أبرز البنود التي وردت اتفاقية إطارية مع شركة الدفاع الأمريكية “جنرال ديناميكس” لتطوير وشراء ما يصل إلى (356) مركبة استطلاع جديدة. كما سيتم تقديم طلبات شراء مؤكدة لـ(274) مركبة مبدئيًا، بقيمة تُقدَّر بحوالي (3.5) مليار يورو، واستدعاء (82) دبابة إضافية لاحقًا، مما سيزيد الحجم الإجمالي إلى حوالي (4.6) مليار يورو، ومن المقرر تسليم أولى المركبات في عام 2028.
الاعتماد على الذكاء الاصطناعي في مجال الدفاع
يبدو أن الحكومة الألمانية، في ظل تصاعد التهديدات والمخاطر المتعلقة بالطائرات بدون طيار الروسية خلال عام 2025 وتداعياتها على الأمن القومي الألماني، تتجه نحو مرحلة حاسمة من إعادة الهيكلة لقدراتها الدفاعية، تعتمد فيها على آليات الذكاء الاصطناعي كأساس لمعادلة الردع والدفاع في المستقبل. فمن المتوقع أن يشهد العام 2026 تسريعًا في دمج أنظمة الذكاء الاصطناعي داخل البنية العسكرية الألمانية، مع تنامي التعاون الصناعي الأوروبي لتأمين إنتاج مرن وفعال للطائرات بدون طيار. أمن دولي ـ مفاوضات روسيا وأوكرانيا، الفرص والعقبات
التعاون مع الناتو والشركاء الأوروبيين
تُكثّف ألمانيا مشاركتها في حماية الحدود الشرقية لحلف شمال الأطلسي، حيث أعلن المتحدث باسم الحكومة “ستيفان كورنيليوس”: “أن مراقبة المجال الجوي فوق بولندا من قِبل الطائرات المقاتلة الألمانية ستُوسّع وتُكثّف”. كذلك يتم مضاعفة عدد الطائرات المقاتلة من طائرتين إلى (4) طائرات. تُنفّذ القوات المسلحة الألمانية عملياتها بالفعل فوق بولندا بطائرتين مقاتلتين من طراز “يوروفايتر”، متمركزتين في “روستوك-لاج”. أكدت وزارة الدفاع أن عدد الطائرات سيتضاعف إلى (4) طائرات. علاوة على ذلك، سيتم تمديد فترة النشر، التي كان من المقرر سابقًا أن تستمر حتى 30 سبتمبر فقط، حتى 31 ديسمبر 2025.
أعلن الجيش الألماني في سبتمبر 2025 عن انطلاق واحدة من أضخم المناورات العسكرية تحت اسم “كوادرِيغا Quadriga”، بمشاركة (14) دولة من أعضاء حلف شمال الأطلسي، في خطوة تهدف إلى تعزيز القدرات الدفاعية المشتركة للدول الأعضاء داخل الحلف، والتدريب على مواجهة التهديدات المحتملة في منطقة بحر البلطيق، التي أصبحت بؤرة اهتمام أمني متزايد منذ اندلاع حرب أوكرانيا في عام 2022.
وصفت وزارة الدفاع الاتحادية إنشاء اللواء المدرع في ليتوانيا بأنه “أحد أكثر المشاريع تعقيدًا وطموحًا في تاريخ الجيش الألماني”. ولم يسبق من قبل أن تم إرسال هذا العدد الكبير من الجنود إلى الخارج بشكل دائم. يضم اللواء القتالي نحو (5000) فرد من الجيش الألماني بحلول عام 2027، بما في ذلك (200) موظف مدني. تقول الحكومة الألمانية، من خلال اللواء الموجود في ليتوانيا، إنها تريد تقديم التزام واضح تجاه حلف شمال الأطلسي.
تعتزم ألمانيا شراء (300) صاروخ “باتريوت” إضافي للدفاع الجوي من الولايات المتحدة مقابل (1.5) مليار يورو، وتُساهم النرويج بنحو (200) مليون يورو في الصفقة، التي ستُستكمل على مدى (4) سنوات. اتفقت باريس وبرلين، في 29 أغسطس 2025، على إطلاق “حوار استراتيجي” مشترك بقيادة الرئاسة الفرنسية والمستشارية الألمانية، لمناقشة أفق التعاون النووي في الإطار الأوروبي، وتحديد دور الردع النووي الفرنسي ضمن منظومة الأمن الجماعي الأوروبي. أعلنت الدولتان عن مبادرة جديدة لتطوير نظام أوروبي للإنذار المبكر ضد الهجمات الصاروخية، وهو مشروع يحمل اسم “JEWEL”.
2 ـ الدفاع والأمن في ألمانيا ـ التحديات أمام تنفيذ الاستراتيجيات
غيّرت حرب أوكرانيا البيئة الأمنية في ألمانيا وأوروبا بشكل جذري، مما دفع الحكومة الألمانية إلى إصدار أول “استراتيجية للأمن القومي” لما بعد الحرب في 14 يونيو 2023، لتوفير إطارٍ منهجي لسياسة أمن قومي استباقية. تواجه ألمانيا تحدياتٍ متداخلة تشمل الضغوط المالية والاقتصادية، والانقسامات السياسية الداخلية، والبيروقراطية المؤسسية، مما يقلل قدرة برلين على تنفيذ برامج التحديث والمشتريات الدفاعية وبناء سلسلة توريد صناعية موثوقة.
التحديات المالية والاقتصادية
أثر التضخم وارتفاع تكاليف الطاقة على الإنفاق الدفاعي: ارتفع معدل التضخم في ألمانيا إلى حوالي (5.9%) عام 2023 بعد أن بلغ ذروته عند (8.7%) عام 2022. ووفق مكتب الإحصاء الألماني في أبريل 2025، كان معدل التضخم السنوي (2.1%). هذا الارتفاع أدى إلى تآكل القيمة الفعلية للميزانية الدفاعية رغم الزيادات الاسمية التي أقرتها الحكومة. أدت أزمة الطاقة، التي تفاقمت بعد تقليص إمدادات الغاز الروسي، إلى زيادة تكاليف الوقود والكهرباء بنسبة تتجاوز (30%) مقارنة بعام 2021. هذا الارتفاع انعكس مباشرة على تكاليف تشغيل القواعد العسكرية، وتموين الأسطول الجوي والبحري، وتسخين المنشآت العسكرية. وقد أشار تقرير صادر عن وزارة الدفاع الألمانية في منتصف عام 2024 إلى أن النفقات التشغيلية ارتفعت بأكثر من (2.3) مليار يورو خلال عام واحد فقط بسبب أزمة الطاقة، مما أجبر الوزارة على إعادة جدولة بعض مشاريع التسليح وإبطاء وتيرة تحديث المعدات. فيما يتوقع قسم الأبحاث التابع لبنك “كوميرز” الألماني أن تستمر الضغوط التضخمية خلال عام 2025 بمعدل بين (3–4%)، مما يعني استمرار تراجع القوة الشرائية للإنفاق الدفاعي.
خصصت برلين (100) مليار يورو كصندوق خاص لتعزيز القوات المسلحة، لكن التضخم وارتفاع أسعار المواد الخام والمعدات الدفاعية جعلا القيمة الشرائية لهذا المبلغ أقل مما كان مخططاً له، وهو ما أشار إليه المعهد الاقتصادي الألماني في تقريره الصادر في يناير 2024، مؤكداً أن نحو (20–25%) من الصندوق فقد قيمته الفعلية بسبب التضخم العالمي. تواجه الحكومة الألمانية صعوبة في الموازنة بين متطلبات الأمن والدفاع من جهة، والضغوط الاجتماعية والاقتصادية الداخلية من جهة أخرى، مثل دعم الأسر في مواجهة غلاء المعيشة وتحفيز الاقتصاد المتباطئ. وقد صرح الخبير الاقتصادي “مارسيل فراتشر”، رئيس معهد الأبحاث الاقتصادية “DIW Berlin”، في مايو 2024 بأن “الارتفاع المستمر في الأسعار وتكاليف الطاقة يجعل من الصعب الحفاظ على مستويات الإنفاق الدفاعي المخطط لها دون تقليص نفقات أخرى أو زيادة الدين العام”.
ستضطر الحكومة، في ظل القيد الدستوري المعروف بـ”قاعدة الكبح المالي” التي تحدّ من العجز العام، إلى المفاضلة بين الالتزام بالسياسات المالية الصارمة وبين تمويل التزاماتها الدفاعية تجاه حلف الناتو. ويرى بعض الخبراء أن استمرار هذه المعادلة سيؤدي إلى “عسكرة بطيئة ومكلفة”، كما وصفها الخبير الأمني “كريستيان مولينغ”، معتبراً أن “الطموح السياسي يتجاوز الإمكانات الاقتصادية الراهنة”. الدفاع ـ كيف يمكن لألمانيا قيادة مشروع دفاع أوروبي مستقل؟
الجدل حول تمويل الصندوق الدفاعي الاستثنائي: أعلنت الحكومة الألمانية، في أعقاب حرب أوكرانيا، عن تخصيص صندوق دفاعي استثنائي بقيمة (100) مليار يورو، وجاء الصندوق كأداة مالية استثنائية تهدف إلى تحديث الجيش الألماني وتعزيز قدراته التقنية واللوجستية بما يتماشى مع التزامات برلين داخل حلف الناتو. إلا أن طريقة تمويل هذا الصندوق وآثاره المستقبلية أثارت جدلاً متنامياً، خاصة في ظل الوضع الاقتصادي المتقلب وارتفاع معدلات التضخم وتكاليف الطاقة. تم تمويل الصندوق من خلال الاقتراض خارج الميزانية العامة، في خطوة استثنائية تطلبت تعديل الدستور الألماني مؤقتاً لتجاوز قاعدة “كبح الديون”. هذا التوجه فتح نقاشاً واسعاً حول مدى استدامة التمويل الدفاعي، حيث أشار تقرير لمجلة “دير شبيغل” في عام 2024 إلى أن “الاعتماد المفرط على الديون سيؤدي إلى فجوة تمويلية تُقدَّر بنحو (56) مليار يورو بحلول عام (2028)، ما لم تُرفع الميزانية الدفاعية السنوية الأساسية بشكل ملحوظ”.
أشارت تقارير بحثية، مثل تقرير معهد “كلينجندايل” الهولندي لعام 2024، إلى أن التضخم العالمي وتزايد تكاليف الفائدة على القروض تسببا في تقليص القيمة الحقيقية للصندوق إلى أقل من (87) مليار يورو فعلياً، مما يحدّ من قدرته على تحقيق الأهداف المعلنة. كذلك، أثار الصندوق نقاشاً أوسع حول علاقة الدفاع بالاقتصاد الوطني، إذ يرى بعض الخبراء أن توجيه جزء كبير من الموارد نحو التسلح قد يحدّ من الاستثمارات في مجالات حيوية مثل التعليم والطاقة المتجددة والبنية التحتية. حذر الخبير الاقتصادي “مارسيل فراتشر”، من معهد الأبحاث الاقتصادية الألماني، من أن التمويل عبر الاقتراض في ظل ارتفاع التضخم وأسعار الطاقة قد يؤدي إلى زيادة الدين العام دون تحقيق نتائج ملموسة على المدى المتوسط، ما لم تُعَد هيكلة نظم المشتريات العسكرية والإدارة المالية داخل وزارة الدفاع. التجسس ـ هل تمثّل الطائرات المسيرة خطرًا أمنيًا على البنية التحتية الألمانية؟
الضغوط السياسية والداخلية
دخلت البلاد منذ تبني السياسة الدفاعية الألمانية الجديدة مرحلة جديدة من الانقسام الداخلي حول موقعها العسكري ودورها الأمني داخل أوروبا. تتمثل جذور الانقسام في تباين النظرة إلى الدور العسكري لألمانيا، والذي انعكس بشكل مباشر في المناقشات البرلمانية حول ميزانية الدفاع لعامي 2024و2025. ففي حين أصر وزير المالية السابق كريستيان ليندنر على ضرورة تخصيص أموال إضافية لتجديد القدرات العسكرية رغم العجز في الموازنة، عبّر عدد من نواب الحزب الاشتراكي الديمقراطي “SPD” عن مخاوفهم من أن تؤدي سياسة التوسع في التسلح إلى تقليص الإنفاق الاجتماعي، خاصة في ظل استمرار ارتفاع تكاليف المعيشة والطاقة.
تأثير هذه الخلافات بدأ يظهر في استطلاعات الرأي، حيث أشار استطلاع نشره معهد فورسا في يناير 2025 إلى أن (62%) من الألمان يرون أن الأحزاب الثلاثة تفتقر إلى رؤية متناسقة بشأن التسلح، بينما عبّر (48%) عن خشيتهم من أن يؤدي ارتفاع الإنفاق العسكري إلى تقليص الاستثمارات في الرعاية الاجتماعية والتعليم.
شكّلت ألمانيا بعد انتخابات فبراير 2025 حكومة ائتلافية يقودها المستشار الألماني فريدريش ميرز بتحالف الاتحاد الديمقراطي المسيحي والاتحاد الاجتماعي المسيحي “CDU/CSU” بالشراكة مع الحزب الديمقراطي الاشتراكي الألماني “SPD”، وقد وضعت من بين أولوياتها رفع الإنفاق الدفاعي وتحويل ألمانيا إلى لاعب أمني أوروبي فاعل. ومع ذلك، فإن هذه الأولوية تسببت في انقسامات داخل الائتلاف الحاكم من عدة أوجه، تتراوح بين توجهات الأحزاب، التنافس على الحصص الوزارية، وطرق تمويل التسلح.
تبنّى حزب ميرز في الاتحاد المسيحي “CDU/CSU” موقفاً حازماً، معتبراً أن التهديدات الأمنية المتزايدة في أوروبا، والتزام ألمانيا تجاه الناتو، تجبران برلين على رفع إنفاقها الدفاعي إلى مستويات أعلى. حيث أعلن وزير المالية أن الحكومة تستهدف رفع الإنفاق الدفاعي إلى (3.5%) من الناتج المحلي الإجمالي بحلول (29). كذلك، في مارس 2025 وافق البوندستاغ على تعديل دستوري يستثني الإنفاق الدفاعي فوق (1%) من الناتج المحلي من قاعدة كبح الدين الألمانية، ما أتاح تمويلاً أكثر مرونة. لكن هذا التوجه لم يكن خالياً من الاعتراضات ضمن الائتلاف ذاته، إذ اعتبر بعض نواب الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني “SPD” أن التركيز على التسلح قد يشغل الحكومة عن أولويات اجتماعية واقتصادية، مثل مكافحة التضخم والطاقة. الدفاع والأمن في ألمانيا ـ المفاهيم الجديدة بعد حرب أوكرانيا
العوامل البيروقراطية والمؤسساتية
يواجه النظام الإداري والعسكري الألماني صعوبات في سرعة اتخاذ القرار، وتنفيذ المشاريع الدفاعية الكبرى، والتنسيق بين المستويات الفدرالية المختلفة، وهو ما جعل الفجوة بين الإعلان السياسي والتنفيذ العملي واضحة بشكل متزايد منذ عام 2022 وحتى العام 2025. يعد التعقيد الإداري داخل وزارة الدفاع الألمانية من أبرز الإشكاليات البيروقراطية التي تعيق تنفيذ الاستراتيجية الجديدة. وفق التقارير الرسمية الحكومية الفيدرالية عام 2024، لم يتم صرف سوى (32%) من ميزانية الصندوق الدفاعي الاستثنائي الذي أُقر في عهد المستشار “شولتز”، رغم مرور أكثر من عامين على إنشائه. وتشير التقارير إلى أن السبب لا يكمن في نقص التمويل بل في بطء الإجراءات والموافقات المتسلسلة، حيث تمر كل صفقة تسليح عبر أكثر من سبع هيئات رقابية قبل توقيعها النهائي، ما يؤدي إلى تأخير تسليم المعدات والأنظمة الحيوية مثل المقاتلات والطائرات المسيّرة.
تُعد البنية المؤسسية الألمانية ذات الطابع الفيدرالي تحديًا في حد ذاته، إذ تتوزع صلاحيات الأمن والدفاع بين الحكومة الاتحادية والولايات وأجهزة التنسيق الأوروبية. هذا التداخل في الاختصاصات يولّد ما وصفه بعض الخبراء بـ”بطء القرار الدفاعي”، خاصة في حالات الطوارئ أو القرارات الاستراتيجية العاجلة. على مستوى المشتريات العسكرية، يعاني الجيش الألماني من سلسلة طويلة من العقبات الإدارية المرتبطة بالشفافية والعقود. فقد كشف تقرير في مارس 2025 أن نحو (40) مشروعًا تسليحيًا رئيسيًا ما زال قيد التقييم الإداري رغم توفر التمويل. ويعود ذلك إلى غياب التنسيق بين وزارة الدفاع ووكالة المشتريات الفيدرالية، التي تُعد من أكثر المؤسسات بطئًا وتعقيدًا في اتخاذ القرار داخل الإدارة الألمانية.
تواجه المؤسسة العسكرية الألمانية تحديات مؤسساتية أخرى تتعلق بالهيكل الداخلي والتنظيم. فسنوات طويلة من تقليص أعداد الضباط والإداريين جعلت القوات المسلحة غير قادرة على استيعاب برامج التحديث الجديدة بالكفاءة المطلوبة. إذ يعاني الجيش الألماني من نقص بنيوي في الكفاءات التقنية والإدارية القادرة على إدارة أنظمة تسليح متطورة مثل مقاتلات “F-35” أو منظومات الدفاع الجوي الأوروبية. وقد انعكس ذلك في تأخر برامج التدريب والتأهيل بنسبة تقارب (28%) عن الجدول الزمني المقرر لعام 2025. أشار تقرير المفوض البرلماني للقوات المسلحة لعام 2025 إلى أن الإصلاح المؤسسي في البنية الأمنية الألمانية يسير بوتيرة أبطأ بكثير من حجم التحديات الإقليمية والدولية التي تواجهها البلاد.
الضغوط الخارجية والتحالفات
برزت توترات واضحة مع إعلان حكومة “فريدريش ميرز” عن استراتيجية الأمن والدفاع الجديدة، مع شركاء ألمانيا التقليديين في حلف الناتو والاتحاد الأوروبي، لا سيما الولايات المتحدة وفرنسا، حول أولويات الإنفاق الدفاعي وأشكال التسلح. تتمثل أبرز نقاط الخلاف مع الولايات المتحدة في السرعة والأولويات في تحديث القوات المسلحة الألمانية. فواشنطن تشدد على ضرورة أن تصل ألمانيا إلى نسبة الإنفاق الدفاعي المقررة بشكل عاجل، مع التركيز على القدرات القتالية الحقيقية مثل مقاتلات الجيل الخامس والطائرات المسيرة، بينما تميل الحكومة الألمانية بقيادة “ميرز” إلى اتباع خطة أكثر تدرجًا، تراعي الضغوط الاقتصادية الداخلية وضرورة التوازن بين التسلح والالتزامات الاجتماعية.
ارتبطت التوترات مع فرنسا بجدل حول التكامل الأوروبي في الصناعات الدفاعية وأولوية المشروعات المشتركة مثل مقاتلة المستقبل الأوروبية “FCAS” وأنظمة الدفاع الصاروخي الأوروبية. فبينما تحرص باريس على تعزيز التكتل الصناعي الدفاعي الأوروبي وتقليل الاعتماد على الولايات المتحدة، تبدي برلين تحفظات حول التورط في مشاريع باهظة الثمن قبل أن تكتمل برامج إعادة تجهيز الجيش الوطني. التحدي الآخر يكمن في سرعة تنفيذ البرامج الدفاعية الكبرى، فقد أدى التباين بين الضغوط الأمريكية للسرعة، والمطالب الفرنسية للتنسيق الأوروبي، إلى تأجيل بعض مشاريع التسلح، مثل تحديث الأساطيل الجوية البحرية ونظم الدفاع الجوي. وفقًا لتقرير في أبريل 2025، فإن بعض البرامج المشتركة مع فرنسا ما زالت تواجه مشكلات في التمويل والإدارة المشتركة، بينما المشاريع ذات التوجه الأمريكي تواجه صعوبات إجرائية وبيروقراطية داخل وزارة الدفاع الألمانية.
الاستقرار السياسي وتأثيره على استدامة الاستراتيجية
تشكل المعوقات السياسية للحكومة الائتلافية الألمانية بقيادة “فريدريش ميرز” عاملًا مؤثرًا على قدرة البلاد على تنفيذ استراتيجيتها الدفاعية، ما يجعل كل قرار كبير بشأن الإنفاق العسكري أو تحديث الجيش عرضة للمناورات السياسية والضغوط الانتخابية. وقد أبرزت استطلاعات الرأي خلال العام 2025 أن نحو (58%) من الناخبين يعتبرون الإنفاق الدفاعي أحد القضايا المثيرة للجدل، بينما يربط (47%) من الألمان أي زيادة في الميزانية الدفاعية بالرفع المحتمل للضرائب أو تقليص الدعم الاجتماعي. هذه الأرقام تعكس حالة توتر داخل الحكومة، حيث يسعى الحزب الاشتراكي الديمقراطي إلى حماية التوازن الاجتماعي والاقتصادي، بينما يدفع الاتحاد المسيحي نحو تسريع برامج التسلح لمواجهة التهديدات الروسية وتلبية توقعات الحلفاء في الناتو.
يدفع استمرار المعوقات الحكومة الائتلافية وضغوط الانتخابات إلى تعديل أولويات الإنفاق الدفاعي، بحيث يركز البرلمان والمستشارية على البرامج قصيرة المدى القابلة للتنفيذ بسرعة، مع تأجيل المشاريع الكبرى المعقدة مثل تحديث الأسطول الجوي والبحري أو الأنظمة الدفاعية الصاروخية المتقدمة. من جهة أخرى، قد تؤدي الضغوط الدولية، سواء من حلف الناتو أو الشركاء الأوروبيين مثل فرنسا، إلى دفع ألمانيا نحو زيادة وتيرة التسلح والالتزام بخطط أكثر طموحًا، خاصة إذا استمر التصعيد الروسي في شرق أوروبا أو ظهرت تحديات أمنية جديدة في البحر الأسود والبلقان.
تظل العوامل الاقتصادية والبيروقراطية مؤثرة على التحول المستقبلي. فالتضخم وارتفاع تكاليف الطاقة قد يحدان من القدرة على زيادة التمويل الدفاعي بشكل مستدام، في حين أن الإصلاحات الإدارية المقترحة ضمن خطة ميرز لتحسين كفاءة القوات المسلحة الألمانية قد تسهم في تسريع تنفيذ المشاريع، لكنها تحتاج إلى وقت لتصبح فعالة. لذلك، يمكن توقع تحول تدريجي في السياسة الدفاعية الألمانية نحو استراتيجية أكثر مرونة وواقعية، تجمع بين الاستجابة للتهديدات الخارجية، والالتزام تجاه الناتو، والقدرة على التكيف مع القيود الاقتصادية والمؤسساتية. الدفاع ـ ما هو مستقبل التجنيد الإلزامي في ألمانيا؟
3 ـ الدفاع والأمن داخل الاتحاد الأوروبي ـ المفوضية، التمويل و الصناعات الدفاعية
بذل الاتحاد الأوروبي جهوداً كبيرة من أجل التوصل إلى صيغة اتفاق لرفع الإنفاق الدفاعي للدول الأعضاء وتحقيق السيادة الدفاعية، عبر تعزيز الصناعات العسكرية المشتركة وسدّ الثغرات الدفاعية. ويُعدّ هذا المسار، الذي تبنّاه الاتحاد الأوروبي منذ حرب أوكرانيا في فبراير 2022، محفوفاً بالتحديات السياسية والأمنية واللوجستية، في ضوء تباين رؤى الدول الأعضاء في الاتحاد بشأن الاستقلالية الاستراتيجية عن واشنطن وآليات الاستثمار في الصناعات العسكرية. يبرز في هذا السياق دور المفوضية الأوروبية خلال عامي (2024 ـ 2025) في تعزيز ردع القارة ودفاعها، وحشد قوات عسكرية إضافية، وتجهيز البنية التحتية لتسهيل عملية التنقل العسكري بين الدول، وتوظيف الذكاء الاصطناعي بصورة واسعة لتطوير الابتكار الدفاعي.
الإطار المؤسسي للدفاع الأوروبي
مفوضية الدفاع الأوروبية ودورها التنسيقي: تُعدّ المفوضية الأوروبية مؤسسةً رسميةً تابعةً للاتحاد الأوروبي، والذراعَ التنفيذيَّ له فيما يتعلق باقتراح القوانين والسياسات الأوروبية في مجالات الدفاع الصناعي والسوق الداخلية والبيئة والطاقة. وتشرف على تنفيذ قرارات البرلمان الأوروبي والمجلس الأوروبي في برامج الدفاع والأبحاث، كما تتولى الإشراف على إنفاق ميزانية الاتحاد السنوية التي تُقدَّر بأكثر من (180) مليار يورو. وتراقب المفوضية استخدام التمويل الأوروبي من قِبل الدول الأعضاء ومدى التزامهم بالقوانين والمعاهدات الأوروبية، وتمتلك سلطة إحالة أي دولة غير ملتزمة بهذه القوانين إلى محكمة العدل الأوروبية. وعلى المستوى الخارجي، تمثّل المفوضية الأوروبية الاتحاد في المفاوضات التجارية والاتفاقيات الدولية.
أما بالنسبة إلى باقي مؤسسات الاتحاد المسؤولة عن ملف الدفاع، فتأتي وكالة الدفاع الأوروبية “EDA” كمؤسسة تضم (27) دولة عضواً في الاتحاد، وتُعدّ مركزاً لتطوير القدرات الدفاعية المشتركة من خلال التعاون وتحفيز البحوث التكنولوجية الدفاعية، إضافةً إلى الربط بين وزارات الدفاع والقطاع الصناعي والخبراء في الدول الأعضاء، بما يسهم في تحقيق استقلالية استراتيجية أكبر للقارة الأوروبية.
العلاقة بين الاتحاد الأوروبي والناتو في الأمن الجماعي: يقوم التعاون بين الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو على أسس الشراكة الاستراتيجية، لمواجهة التحديات المشتركة وضمان أمن منطقة اليورو الأطلسية. وقد تم إضفاء الطابع المؤسسي على هذه العلاقة لتعزيز المسؤولية الأوروبية في المسائل الدفاعية، خاصةً أن دول الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي معاً تمثل أكثر من مليار شخص، وتضم أكبر عدد من اقتصادات العالم. كما تُعدّ (23) دولة من أصل (27) عضواً في الاتحاد الأوروبي أعضاء في الناتو. قد ارتكز التعاون بينهما خلال الفترة (2016-2023) على مواجهة التهديدات الهجينة والإرهابية، وتعزيز التماسك بين عمليات تطوير القدرات لدى الاتحاد والناتو، وتحسين القدرة على التنقل العسكري، إلى جانب بناء قدرات الشركاء في مناطق غرب البلقان والجناحين الشرقي والجنوبي للناتو. كما يتبادلان المعلومات بشأن الالتزامات التشغيلية في المجال البحري، ومسائل الصناعة والبحث والتنسيق ذات الصلة، إضافةً إلى التنسيق في بناء القدرات السيبرانية للشركات.
التمويل الدفاعي، صندوق الدفاع الأوروبي “EDF”
دخلت لائحة صندوق الدفاع الأوروبي حيز التنفيذ في مايو 2021، ومنذ ذلك التاريخ خصصت المفوضية الأوروبية (5.4) مليار يورو للابتكار الدفاعي. ويلعب الصندوق دوراً محورياً في تعزيز التعاون الصناعي والاستثمار والتوافق التشغيلي بين الدول الأعضاء. ويتوافق عمل الصندوق مع أولويات الاتحاد لعام 2025 المتعلقة بالبوصلة الاستراتيجية وتوسيع نطاق التنافس لتعزيز قدرات الدول. وفي عام 2024، استثمرت المفوضية الأوروبية (910) ملايين يورو لبناء صناعة دفاعية قوية في أوروبا، ودعم التعاون بين صناعات الدفاع الأوكرانية والأوروبية، في محاولة لدمج أوكرانيا في القاعدة الصناعية الدفاعية الأوروبية، بما يتماشى مع خطة 2030.
اعتمدت المفوضية الأوروبية برنامج العمل السنوي لصندوق الدفاع الأوروبي “EDF” لعام 2025، الذي خصص (1.065) مليار يورو للبحث والتطوير التعاوني في مجال الدفاع. ويدعم البرنامج تطوير تقنيات وقدرات دفاعية حيوية في المجالات العسكرية: البحرية، والسيبرانية، والجوية، والبرية، والفضائية، كما يتضمن تدابير لدعم الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم.
تبلغ ميزانية الصندوق نحو (8) مليارات يورو للفترة (2021-2027)، منها (2.7) مليار يورو مخصصة لأبحاث الدفاع التعاونية، و(5.3) مليار يورو لمشاريع تطوير القدرات. ويقدم الصندوق دعماً مالياً عبر منح تصل إلى (100%) من التكاليف المؤهلة، إلى جانب نظام مكافآت يراعي الشركات الصغيرة والمتوسطة. ويقوم برنامج الصندوق لعام 2025 على دعم الابتكار من خلال برنامج الاتحاد الأوروبي للابتكار في مجال الدفاع “EUDIS”. الدفاع الأوروبي ـ خارطة الطريق للاستعداد لعام 2030، المهام والأهداف
خطط الاتحاد الأوروبي للصناعات الدفاعية
مشاريع التصنيع العسكري المشترك: وقّعت المفوضية الأوروبية في 19 يناير 2024 اتفاقية منحة لبدء مشروع القتال التكتيكي البري، ويضم (34) جهة من معاهد بحثية وكيانات رئيسية مثل “تاليس” و”ليوناردو” و”إندرا”، من (13) دولة أوروبية، بدعم مالي قدره (49) مليون يورو من صندوق الدفاع الأوروبي. يُعد هذا المشروع ذا أهمية استراتيجية لمجتمع الدفاع الأوروبي، ولتحسين القدرات التعاونية للقوات المسلحة على مختلف المستويات. وفي 4 مايو 2024، وقّعت فرنسا وألمانيا اتفاقية لتطوير نظام القتال الأرضي الرئيسي “MGCS”، الذي يوصف بأنه “دبابة المستقبل”، كونه يمثل نقلة نوعية في القدرات مقارنة بالدبابات الحديثة، وسيتضمن نظاماً من المركبات الأرضية المسيرة لتوفير الاستطلاع وحماية القوات، معتمداً على الذكاء الاصطناعي وأسلحة الليزر والشبكات المتطورة.
أطلقت أوروبا في 21 سبتمبر 2025 مشروع “MARTE” لتطوير أول دبابة قتال رئيسية من الجيل الخامس في القارة، بتمويل قدره (20) مليون يورو من صندوق الدفاع الأوروبي، وبمشاركة (51) جهة صناعية وعلمية من (12) دولة. يتميز هذا المشروع بنظام دفع كهربائي هجين يعزز القدرة على التخفي ويقلل البصمات الحرارية، وصُمم للعمل في بيئات حربية عالية الكثافة، ما يُعد خطوة مهمة نحو تحقيق السيادة التكنولوجية الأوروبية في مجال الدفاع.
وصل نظام الطائرات بدون طيار الأوروبية متوسطة الارتفاع وطويلة المدى “MALE RPAS” في 17 أكتوبر 2025 إلى مرحلة إنتاج النموذج الأول، بعد الانتهاء من مراجعة التصميم الدقيقة، ويرتكز على القوة الجوية الأوروبية من الجيل القادم. وقد تم إطلاق برنامج هذه الطائرات في عام 2016 بمشاركة ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا، ويمثل أول نظام طائرات مسيّرة أوروبي بالكامل، مصمم بتقنيات متقدمة لنقل البيانات بين الوحدات التشغيلية بأمان، ومزوّد بأجهزة استشعار متطورة توفر حمولة تصل إلى (2.3) طن باستثناء الوقود.
مبادرات دعم الشركات الصغيرة والمتوسطة في قطاع الدفاع: تمثل الشركات الصغيرة والمتوسطة في مجال الدفاع محركاً رئيسياً للابتكار في الصناعات العسكرية، إذ تلعب أكثر من (2500) شركة دوراً محورياً في سلاسل توريد الدفاع المعقدة في أوروبا. وتدعم المفوضية الأوروبية هذه الشركات عبر الحدود من خلال تفعيل أدوات سياسية متنوعة في مجالات التجارة والسوق الداخلية، إضافةً إلى الدعم المقدم عبر صندوق الدفاع الأوروبي وبنك الاستثمار الأوروبي.
يوفر الصندوق والبنك الأوروبيان ما يصل إلى (100%) من تكاليف أنشطة الشركات، عبر اتحادات الشركات الصغيرة والمتوسطة لإجراء البحوث والتطوير. كما ضاعفت المفوضية برنامج التمويل الوسيط إلى (3) مليارات يورو، لتوفير الائتمان والضمانات من خلال الوسطاء الماليين للشركات العاملة في مجال الدفاع. وتحصل هذه الشركات على مبادرات مدعومة من المفوضية، مثل مبادرة التوفيق بين الشركات الصغيرة والمتوسطة والناشئة، لدفع الابتكار، وتسهيل الوصول إلى رأس المال، ودخول الأسواق الأوروبية والدولية.
وتراعي المفوضية الجانب التشريعي من خلال دعم “مجموعة الاستعداد الدفاعي” كمبادرة تشريعية لتحسين ظروف السوق لعمل الشركات، في ما يتعلق بالمشتريات والتصاريح والتمويل. كما تضع استراتيجية صناعة الدفاع الأوروبية، بهدف رفع القدرة التنافسية للقارة في مجال الصناعات الدفاعية. توصل باحثون من معهد “بروغل” ومعهد كيل للاقتصاد العالمي إلى أن أوروبا لا تزال تعتمد بشكل كبير على واشنطن في مجال الصواريخ الأسرع من الصوت، والطائرات النفاثة من الجيل التالي، والأنظمة المتكاملة مع الذكاء الاصطناعي، والاستخبارات. ويقول الباحث الكبير “جونترام وولف” في مركز “بروغل”، في يونيو 2025: “لقد كانت هناك بعض الزيادة في مختلف الأنظمة، حيث شهدت المدفعية على وجه الخصوص نمواً كبيراً، ولكن هذه الزيادات لا تزال صغيرة نسبياً مقارنة بالطلب الإجمالي”.
الأمن الأوروبي المشترك والقدرات الاستراتيجية
تطوير “قوة الرد السريع الأوروبية”: طوّر الاتحاد الأوروبي على مدار ثلاث سنوات قدرة الانتشار السريع التي يبلغ قوامها (5) آلاف شخص، للاستجابة للأزمات خارج الاتحاد الأوروبي، من خلال دمج مجموعات القتال المعدلة التابعة للاتحاد مع المكونات البحرية والجوية والبرية للدول الأعضاء، وإنشاء هياكل قيادية للتخطيط والإدارة العسكرية، وإجراء مناورات حية لتحسين التوافق التشغيلي. وقد تضمن هذا التطوير إصدار “البوصلة الاستراتيجية” في مارس 2022، التي تهدف إلى جعل الاتحاد أكثر قوة ومرونة واستقلالية، إلى جانب تنفيذ مناورات حية في سبتمبر 2023 في إسبانيا لتعزيز القدرة والجاهزية. وركّز الاتحاد على تأمين الإمكانيات وتقاسم التكاليف الخاصة بالتدريبات، وبدأ التشغيل الفعلي في عام 2025 بسلسلة من التدريبات المكثفة.
التوجه نحو استقلال استراتيجي جزئي عن الناتو: اتخذ التكتل الأوروبي خطوات نوعية من شأنها تحقيق قدر من الاستقلالية الدفاعية. ففي مارس 2024، أطلقت المفوضية الأوروبية أول استراتيجية للصناعة الدفاعية الأوروبية، التي حددت أنه بحلول عام 2030 يجب أن تشتري الدول الأعضاء ما لا يقل عن (40%) من معداتها الدفاعية عبر تعاون مشترك. كما أقرت الاستراتيجية خريطة طريق لتسريع الطلبات الدفاعية وتوحيد المواصفات والمشتريات، بهدف تعظيم مخرجات الصناعة الأوروبية.
اتجه كل من المجلس الأوروبي والمفوضية الأوروبية خلال عامي 2024 و2025، إلى حثّ الدول الأعضاء على رفع الإنفاق الدفاعي، وطرح آلية عمل أوروبية لتسهيل الاستثمار المشترك في مجالات الصواريخ والطائرات المسيّرة. كما تضمنت “الورقة البيضاء الأوروبية” حزمة مالية طموحة لدفع التحول الصناعي، ودعم الدرع الجوي والفضائي الأوروبي، وتعزيز مراقبة الجناح الشرقي لحلف الناتو.
خلصت قمة مجلس الاتحاد الأوروبي في يونيو 2025 إلى ضرورة أن تصبح أوروبا أكثر سيادة ومسؤولية عن دفاعها الخاص، ومجهزة لمواجهة التحديات العاجلة والمستقبلية. وأكد وزراء خارجية فرنسا وألمانيا وبولندا في سبتمبر 2025 على أهمية تحمّل أوروبا مسؤولية أمنها، وأن تصبح أكثر سيادة في الدفاع، وأكثر قدرة على التصرف بشكل مستقل. الدفاع ـ ما هو مستقبل “التجنيد الإلزامي” في ألمانيا؟
التكامل الدفاعي الأوروبي وتحدياته
تضارب المصالح بين الدول الأعضاء: دفع تشكيك الإدارة الأمريكية في قدرة الاتحاد الأوروبي على الانخراط في الدفاع بعض دول الاتحاد إلى تبنّي مواقف حذرة تجاه المبادرات الدفاعية، خاصةً أن أغلب صناعات الدفاع الأوروبية تتمركز في دول غرب أوروبا، ما يجعل الاقتصاد السياسي للدفاع في القارة معقداً. وتُعدّ فرنسا أكبر الداعمين لاستقلالية الدفاع الأوروبي، رافعةً شعار “أوروبا قوية”، إلى جانب طرح فكرة بناء جيش أوروبي موازٍ، والتوجّه نحو تعزيز الردع النووي.
تميل دول شرق أوروبا، وفي مقدمتها بولندا ودول البلطيق، إلى زيادة الإنفاق الدفاعي، نظراً لكونها الأكثر قلقاً من التهديد الروسي. لذلك مارست هذه الدول ضغوطاً على الاتحاد الأوروبي لتسريع إجراءات تعزيز القدرات الدفاعية وإعادة تسليح أوروبا. في المقابل، تخوّفت دول مثل ألمانيا من التوسع العسكري، إذ دعمت خلال عامي (2023 ـ 2024 ) العمل المشترك مع حلف الناتو، غير أن حكومة المستشار الألماني فريدريش ميرتس أيّدت نشر قوات وإنشاء قواعد عسكرية خارج ألمانيا، وزيادة الإنتاج الدفاعي المشترك بوصفه ركيزة أوروبية داخل الناتو.
موقع ألمانيا في قيادة الجهد الدفاعي الأوروبي: تمثل ألمانيا المركز الرئيسي لأوروبا في اللوجستيات العسكرية، إذ تضم قواعد عسكرية تابعة لحلف الناتو، مثل مقر قيادة القوات الجوية في “رامشتاين”، والقاعدة الرئيسية لعمليات الإنذار والتحكم في “غيلينكيرشن”. وتمتد أراضيها بين الموانئ البحرية الأوروبية الكبرى مثل “روتردام، وهامبورغ، وأنتويرب”، التي تُعد مسؤولة عن نقل الإمدادات العسكرية إلى دول شرق أوروبا. كما توفّر الممرات المائية الألمانية، مثل “الراين” و”الدانوب”، خط نقل استراتيجياً من الشمال إلى الجنوب باتجاه رومانيا، ويمتد عبرها أطول شبكة سكك حديدية في أوروبا.
أطلقت ألمانيا في العام 2022 مبادرة “درع السماء” للشراء المشترك لأنظمة صواريخ ودفاع جوي أوروبية وأمريكية، وتعهدت في العام 2024 بنشر لواء كامل في ليتوانيا بحلول العام 2027. وأكدت برلين في العام 2025 على أهمية بناء سوق أوروبية موحدة للدفاع، من خلال المشاركة في إنشاء برنامج ميزانية دفاعية أوروبية. أعلنت ألمانيا في 15 أكتوبر 2025، استعدادها لتولي زمام المبادرة في مشاريع رئيسية تهدف إلى تحسين القدرات الدفاعية الأوروبية بحلول عام 2030. كما شدد المستشار الألماني فريدريش ميرتس، في 17 أكتوبر 2025، على ضرورة أن يكون الاتحاد الأوروبي أكثر حزماً في التعاون الدفاعي والاقتصادي المشترك. الدفاع ـ ما مدى فاعلية مبادرة “Skyshield” في حماية الأجواء الأوروبية؟.
تقييم وقراءة مستقبلية
– تُشير التطورات إلى أن ألمانيا تمرّ بمرحلة “تحوّل” جذرية في عقيدتها الأمنية والدفاعية، مدفوعة بشكل أساسي بالتهديد الروسي المتصاعد في أعقاب حرب أوكرانيا، والغموض المستقبلي المحيط بدور الولايات المتحدة في حلف شمال الأطلسي. يمكن القول إن عصر “الحذر” الذي ساد ما بعد الحرب العالمية الثانية قد انتهى، ليحل محله تبنّي خطاب “الجاهزية للحرب” و”إعادة بناء منظومة الردع والدفاع”.
– ترى برلين أن روسيا تعمل بسرعة على استعادة قدراتها القتالية وتعبئة اقتصادها من أجل صراع طويل الأمد مع الغرب، لا سيما ألمانيا. هذا التقييم الاستخباراتي “الحاد” يدفع إلى اتخاذ إجراءات فورية، مثل التمركز الدائم للواء ألماني في ليتوانيا، وزيادة كثافة طلعات المراقبة الجوية فوق بولندا.
– يُشدد الساسة الألمان على أن الأمن لم يعد مضمونًا من قِبل الولايات المتحدة. هذا الإدراك يُلزم ألمانيا بتحمل مسؤولية أمنها في أقصر وقت، وهو ما يتجسد في خطة التسليح الشاملة التي تركز على المصنّعين الأوروبيين، واتفاق “الحوار الاستراتيجي” مع فرنسا بشأن الردع النووي الفرنسي ودوره في الأمن الأوروبي. هذا المسار يؤسس لاستقلالية استراتيجية أوروبية، تكون فيها ألمانيا، إلى جانب فرنسا، هي الركيزة.
– تتجه ألمانيا بقوة نحو هدف طموح لزيادة قوام الجيش النشط والاحتياطي بشكل كبير بحلول عام 2035، مدعومًا بـ(83) مليار يورو لخطة التسليح والمشتريات. اللافت هو الدعم الشعبي المتزايد لزيادة الإنفاق الدفاعي والتجنيد العسكري، واستعداد نسبة كبيرة من السكان للدفاع عن البلاد، مما يعكس تحولًا مجتمعيًا في النظرة إلى الجيش والأمن.
– تُمثل الاستفزازات بالطائرات المسيّرة الروسية تهديدًا ملموسًا، ما دفع الحكومة لتعديل القوانين لتمكين الجيش من التعامل معها. الأهم هو الاعتماد المتزايد على الذكاء الاصطناعي في الردع المستقبلي ودمج هذه الأنظمة في البنية العسكرية، بالإضافة إلى خطط لتطوير نظام إنذار صاروخي أوروبي مشترك “JEWEL”.
– تُكثّف ألمانيا دورها في الناتو من خلال نشر القوات والمناورات المشتركة مثل “كوادرِيغا”، رغم التحول نحو استقلالية دفاعية أكبر، وكذلك شراء صواريخ “باتريوت” وتوقيع اتفاقيات صيانة دفاعية مع النرويج. هذا يدل على أن تعزيز أوروبا هو تعزيز للناتو، وليس بديلاً عنه في الوقت الراهن.
– من المرجح أن يشهد عام 2026 وما يليه تسارعًا كبيرًا في التحديث العسكري الألماني، خاصة في دمج أنظمة الذكاء الاصطناعي والطائرات المسيّرة. ستكون التحديات الرئيسية هي تأمين التمويل اللازم بشكل مستدام لتلبية الأهداف الطموحة لعام 2035. ومن المتوقع أن تعمل ألمانيا على تعميق “الحوار الاستراتيجي” مع فرنسا لبلورة الدور المستقبلي للردع النووي الفرنسي ضمن مظلة الأمن الأوروبي، مما قد يؤدي إلى بلورة ملامح القوة الأوروبية الجديدة القادرة على الوقوف بوجه التهديدات دون الاعتماد الكلي على واشنطن.
**
– أظهرت ألمانيا بعد حرب أوكرانيا قدرة على إعادة النظر في سياستها الدفاعية، من خلال إصدار استراتيجية الأمن القومي لعام 2023، وإنشاء صندوق دفاعي استثنائي بقيمة (100) مليار يورو، ما يعكس إدراكها لضرورة تعزيز قدراتها العسكرية والتقليل من الاعتماد على الحماية الأمريكية التقليدية.
– يبدو أن قدرة ألمانيا على تحقيق أهدافها الدفاعية الطموحة ستظل رهينة الاستقرار الاقتصادي وأسعار الطاقة العالمية، فالتضخم المتواصل وتكاليف الطاقة المرتفعة لا تمثل مجرد أرقام اقتصادية، بل أصبحت محددًا رئيسيًا لمدى جاهزية الجيش الألماني وقدرته على التحول الاستراتيجي المنشود في ظل بيئة أمنية أوروبية متوترة.
– تعطل البيروقراطية في المؤسسات الألمانية والتعقيد الإداري، والهيكل الفيدرالي المتداخل، سرعة تنفيذ برامج التسلح والتحديث العسكري، على الرغم من مبادرات مثل خطة ميرز لتحديث الجيش الألماني.
– تزيد معوقات الحكومة الائتلافية وعدم استقرارها السياسي من تعقيد مهمة تنفيذ استراتيجية الأمن والدفاع الألمانية، ويبرز هذا التحدي بشكل واضح في موازنة الأولويات الداخلية والخارجية، حيث يجب على برلين أن توازن بين الحفاظ على الدعم السياسي الداخلي والاستجابة السريعة للتهديدات الأمنية الخارجية، مع الأخذ في الاعتبار تبعات الانتخابات المقبلة على استمرارية البرامج الدفاعية والتزامات ألمانيا الدولية.
– ألمانيا الموازنة بين الالتزامات الأوروبية، والتعاون الصناعي، والحفاظ على استقلالية سياساتها الدفاعية. فمن المتوقع أن تركز ألمانيا على مشاريع دفاعية قابلة للتنفيذ بسرعة، مع تأجيل تحديثات أساطيل كبيرة أو أنظمة دفاع صاروخية معقدة، لضمان تحقيق نتائج ملموسة ضمن القيود الاقتصادية والبيروقراطية.
– من المحتمل أن تضطر ألمانيا في حال استمرار التصعيد الروسي أو ضغوط الناتو إلى رفع وتيرة التسلح والالتزام بخطط أكثر طموحًا، بما في ذلك تحديث القوات البرية والجوية وتعزيز التعاون الصناعي الأوروبي. وقد تسهم الإصلاحات الإدارية مثل خطة تحديث الجيش الألماني في تسريع تنفيذ المشاريع، لكنها تحتاج وقتًا لتظهر أثرها الفعلي، فيما ستظل الضغوط الاقتصادية، والتضخم، وارتفاع تكاليف الطاقة محددات رئيسية للتمويل الدفاعي المستدام. ستظل السياسة الدفاعية الألمانية بعد 2025 قابلة للتغيير بحسب موازين القوى الداخلية والخارجية، والقدرة على إدارة التوترات بين الطموح الاستراتيجي والقيود الاقتصادية والسياسية.
**
– برزت أهمية المفوضية الأوروبية خلال عامي (2024 ـ 2025)، لتطوير استراتيجية دفاعية للاتحاد الأوروبي مغايرة عن استراتيجيته المعتادة في قضايا الدفاع والصناعات العسكرية، حيث كان يعتمد في السابق على حلف الناتو بشكل رئيسي، وعلى الولايات المتحدة في هذه السياسات. إلا أن متغيرات حرب أوكرانيا، وسياسة الإدارة الأمريكية برئاسة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وزيادة التهديدات الروسية، فرضت على الاتحاد الأوروبي انتهاج سياسة أكثر استقلالية في الدفاع، ورفع الإنفاق العسكري. لذا، تصدّر اسم المفوضية الأوروبية ودورها المحوري، لقدرتها على إقناع الدول الأعضاء في الاتحاد بزيادة الإنفاق الدفاعي، وإقرار استراتيجية دفاعية أوروبية جديدة.
– تواجه المفوضية الأوروبية تحديات كبيرة في مسألة إعادة تسليح أوروبا، والاقتراض المشترك لتمويل شراء الأسلحة والصناعات العسكرية رغم إقرار أول استراتيجية بشأن صناعة الدفاع. يرجع ذلك لتباين مواقف دول الاتحاد من الاقتراض وتعديل الميزانيات الوطنية، وعدم ثقة البعض في قدرة التكتل الأوروبي على إحلال دور الولايات المتحدة في مجال الدفاع والصناعات العسكرية.
– يمثل صندوق الدفاع الأوروبي عاملاً رئيسياً في خطط تمويل المشاريع الصغيرة والمتوسطة العاملة في الدفاع والصناعات العسكرية، ما يتطلب منحه صلاحيات أوسع ليتمكن من العمل مع الشركات الخاصة، وزيادة التنسيق بين الدول الأعضاء، في ظل بعض التعقيدات الإجرائية المتعلقة بكل دولة من جانب، والإجراءات الإدارية والتنسيقية داخل كل شركة من ناحية أخرى.
– أصبح تفعيل الذكاء الاصطناعي في الصناعات الدفاعية أمراً بالغ الأهمية، خاصة وأن التكنولوجيا باتت حاضرة بقوة في الصراعات التي شهدها العالم مؤخراً. وتعد حرب أوكرانيا دليلاً على هذا الاتجاه، من خلال التوسع في استخدام الطائرات المسيّرة والروبوتات في المعارك بين موسكو وكييف، الأمر الذي دفع دولاً مثل فرنسا وألمانيا خلال عامي (2024 ـ 2025) إلى زيادة وتيرة التعاون بشأن توظيف التكنولوجيا في مجال الدفاع.
– يسعى الاتحاد الأوروبي والمفوضية الأوروبية إلى تحقيق التوازن بين سياسة الاستقلال عن الناتو في مجال الدفاع، والحفاظ على وجود أوروبا داخل الحلف ودورها في دعم خططه المتعلقة بتعزيز نفوذه في الجناحين الشمالي والشرقي، ونشر قوات عسكرية وإجراء مناورات دورية في هذه المناطق. ما يعني أن أوروبا تسير على حبل مشدود مع حلف الأطلسي، في ظل الاختراق الروسي للمجال الجوي لبعض دول الحلف، وزيادة المناورات الروسية البيلاروسية في منطقة بحر البلطيق، بالتزامن مع تشديد إدارة الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” لهجتها تجاه أوروبا بشأن مسؤولية الدفاع عنها في حال تعرضها لهجوم محتمل.
– يقع على عاتق ألمانيا عبء كبير لاستعادة دورها داخل الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو في خطط الدفاع والصناعات العسكرية، في لحظة تواجه فيها ألمانيا معوقات كثيرة في الداخل، تتعلق بانتقادات اليمين المتطرف لهذا التوجه، والتحديات الاقتصادية لتمويل هذه الخطط، إضافة إلى معوقات في الخارج تتمثل في العلاقة مع فرنسا، ورغبة الأخيرة في تصدر المشهد عسكرياً وسياسياً واقتصادياً في القارة الأوروبية، فضلاً عن الضغط من جانب دول البلطيق لتسريع خطوات استراتيجية الدفاع الأوروبية الموحدة.
– يظل نجاح أوروبا في تنفيذ خطة الدفاع الجديدة والاستقلال في الصناعات العسكرية مرهوناً بعدة عوامل، ترتبط بالتزام الدول الأعضاء بالخطة، وهنا تظهر مسؤولية المفوضية الأوروبية في مراقبة التنفيذ، إلى جانب قدرة اقتصادات الدول على تحمل هذه الأعباء، وتطبيق الاتحاد الأوروبي معايير المرونة والأساليب الحديثة في إنتاج المعدات العسكرية، للوصول إلى هدف الاستقلال الدفاعي وتوحيد المشتريات العسكرية خلال (2026 ـ 2027).
رابط مختصر .. https://www.europarabct.com/?p= 110955
*حقوق النشر محفوظة إلى المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الارهاب والاستخبارات ـ ألمانيا وهولندا ECCI
هوامش
Pistorius schickt Kampfjets für Nato-Schutzflüge nach Polen
https://tinyurl.com/56wzyf4e
Geheimdienst-Kontrolle in Kriegszeiten: mehr oder weniger?
https://tinyurl.com/42rue9sh
Übung für den Ernstfall: Bundeswehr nimmt an NATO-Großmanöver teil
https://tinyurl.com/brhpnbh3
**
Germany’s National Security Strategy: Is It Helping or Hurting the Zeitenwende?
https://2u.pw/LY0uk9
What happened to the German military’s €100 billion fund
https://2u.pw/wKiC0R
How will Germany pay for rapid rise in defence spending?
https://2u.pw/l7N3hU
German plans for fast-track defence splurge face strong resistance
https://2u.pw/6tdvo3
**
EU–NATO cooperation
https://shorturl.at/d4GMD
Eurodrone moves to prototype production after successful CDR
https://shorturl.at/bPcNt
Commission mobilises €910 million to boost European defence and close capability gaps*
https://shorturl.at/6SwPl
Defence-related small and medium-sized enterprises (SMEs) are key enablers of innovation and growth
https://shorturl.at/UKS9Q
