خاص ـ المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات ـ ألمانيا وهولندا ECCI
الدفاع ـ هل تمهّد المناقشات البريطانية الألمانية لدرع “نووي أوروبي”؟
يدعو قادة عسكريون بريطانيون إلى مشاركة الأسلحة النووية مع ألمانيا، في ظل ما وصفوه بالتهديد “الحرج” الذي تمثله روسيا، مطالبين الحكومة البريطانية بفتح محادثات مع برلين حول اتفاق دفاعي جديد. ويأتي هذا الطرح بينما تجري ألمانيا بالفعل “مناقشات استراتيجية” مع فرنسا حول إمكانية أن توفر باريس حماية نووية عبر ترسانتها الخاصة، إلا أن المستشار الألماني فريدريش ميرتس ألمح إلى استعداده لبحث ترتيب مشابه مع رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر. وأكدت مصادر بريطانية أن أي محادثات رسمية بهذا الشأن لم تُجرَ بعد، لكن مسؤولين دفاعيين بارزين أعربوا عن دعمهم للفكرة، من بينهم اللورد روبرتسون، الأمين العام الأسبق لحلف الناتو ووزير الدفاع البريطاني السابق، الذي أكد: “أرحب بهذه الخطوة، فهي صحيحة وكان ينبغي تنفيذها منذ وقت طويل”. وأضاف روبرتسون: “أن تصاعد التهديدات النووية الروسية قد يدفع أوروبا لاتخاذ قرارات حاسمة، محذرًا من أن “استمرار موسكو في استخدام الخطاب النووي سيجبر أوروبا على إعادة التفكير في أمنها الجماعي”.
“مخاوف متزايدة” من احتمال تخلي واشنطن دفاعيًا عن أوروبا
عبّر قادة عسكريون عن “مخاوف متزايدة” من احتمال تخلي الولايات المتحدة عن الدفاع عن أوروبا، رغم أنها كانت جزءًا أساسيًا من أمنها منذ الحرب العالمية الثانية. وفي الوقت نفسه، فرض الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في أكتوبر 2025 عقوبات جديدة على شركتي النفط الروسيتين “روسنفت” و”لوك أويل”، في خطوة وصفها الرئيس الروسي الأسبق ديمتري مدفيديف بأنها “عمل حربي”. تُشغّل بريطانيا ترسانتها النووية المكونة من صواريخ “ترايدنت” عبر أسطول غواصات “فانغارد” الأربع التابعة للبحرية الملكية، وتبقى إحداها في حالة دورية دائمة. وقد أُعلن عن هذه الأسلحة ضمن إطار دفاع حلف الناتو منذ ستينيات القرن الماضي، ما يعني أنه يمكن استخدامها في الدفاع عن الحلف.
أعلن كير ستارمر أن بريطانيا ستعزز قدراتها الدفاعية بشراء 12 طائرة شبح من طراز F-35A قادرة على حمل أسلحة نووية، سيتم تمركزها داخل الأراضي البريطانية. لكن المارشال اللورد هوغتون، رئيس أركان الدفاع البريطاني بين عامي 2013 و2016 أوضح: “إن القلق من احتمال تقليص أمريكا دعمها العسكري لأوروبا وتحول اهتمامها إلى الصين يجب أن يفتح باب النقاش حول خيار نووي أوروبي مشترك بخلاف الخيار الفرنسي”، مضيفًا: “السؤال هو: هل هذا أمر جيد أم ضرب من الجنون؟ لست متأكدًا بعد”.
أما الجنرال ريتشارد بارونز فقد أبدى تحفظًا، معتبرًا أن “مشاركة الأسلحة النووية” بين الدول الأوروبية فكرة غير واقعية، إذ ستتعقد بسبب مسألة من يملك سلطة إطلاقها، موضحًا: “أن الانتقال من إطلاق أول صاروخ إلى إبادة البشرية لا يستغرق أكثر من 90 دقيقة، ومع الصواريخ الأسرع من الصوت سيصبح الوقت أقصر. من المستحيل التوصل إلى إجماع بين 30 دولة بينما روسيا تحت قيادة رجل واحد”.
مناقشات حول القدرات النووية الأوروبية
تُجرى مناقشات حول القدرات النووية، لكن مصادر دفاعية بريطانية أكدت أن ذلك “أمر بعيد جدًا عن فكرة مشاركة الأسلحة النووية”. وتُعد فرنسا والمملكة المتحدة الدولتين الوحيدتين في أوروبا اللتين تمتلكان أسلحة نووية؛ إذ تملك فرنسا نحو 300 رأس نووي، بينما تمتلك بريطانيا نحو 250 رأسًا. حدد “إعلان نورثوود 2025” أسس تعزيز التعاون النووي بين بريطانيا وفرنسا، ورغم أن ترسانتي البلدين مستقلتان، إلا أنهما منسقتان في إطار دفاع الناتو، ويبقى قرار استخدام السلاح النووي البريطاني بيد رئيس الوزراء وحده. يقول متحدث باسم وزارة الدفاع البريطانية: “منذ عام 1962، أعلنت المملكة المتحدة أن ردعها النووي مكرّس للدفاع عن حلفائنا في الناتو، وسنواصل القيام بذلك لضمان أمن أوروبا والحلف”.
وتزامن ذلك مع تقارير تفيد بأن روسيا تعزز وجودها النووي والبحري في منطقة القطب الشمالي استعدادًا لمواجهة محتملة مع الناتو. فقد صرّح وزير الدفاع النرويجي توري ساندفيك: “أن بلاده رصدت تطورًا في الأسلحة الروسية في شبه جزيرة كولا، حيث يتمركز أسطول الشمال الروسي وجزء من مخزونه النووي”، مضيفًا: “أن الرئيس فلاديمير بوتين يسعى لفرض سيطرة بحرية كاملة على المنطقة لقطع طرق الإمداد الحيوية للناتو في حال اندلاع صراع”.
النتائج
يُظهر الطرح البريطاني حول إمكانية مشاركة الأسلحة النووية مع ألمانيا تحولًا نوعيًا في التفكير الاستراتيجي الأوروبي، ويعكس حالة من القلق المتصاعد من تراجع المظلة النووية الأمريكية في ظل توجهات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب نحو الانعزال وتغيير أولويات السياسة الدفاعية الأمريكية. فالدعوة التي أطلقها كبار القادة العسكريين البريطانيين، وعلى رأسهم اللورد روبرتسون، تعكس إدراكًا متزايدًا بأن الأمن الأوروبي لم يعد مضمونًا كما كان خلال العقود الماضية، وأن أوروبا قد تجد نفسها مضطرة لتطوير ردع نووي ذاتي مستقل أو مشترك.
هذا النقاش لا يقتصر على بعده العسكري فحسب، بل يحمل دلالات سياسية عميقة تتعلق بإعادة تعريف العلاقات داخل حلف الناتو، وإمكانية ظهور ما يُعرف بـ”الركيزة الأوروبية للأمن النووي” في مواجهة روسيا. كما أن استعداد المستشار الألماني فريدريش ميرتس لبحث فكرة ترتيبات نووية مع بريطانيا يعكس تحولًا في السياسة الألمانية التقليدية التي كانت ترفض أي دور مباشر في الترتيبات النووية، مما يشير إلى تغيرات بنيوية في عقلية الأمن القومي الألماني.
إلى جانب ذلك، يأتي المشروع البريطاني لتعزيز قدراته بشراء طائرات F-35A القادرة على حمل رؤوس نووية، كإشارة إلى رغبة لندن في تأكيد ريادتها الدفاعية داخل أوروبا بعد البريكست، وموازنة الدور الفرنسي الذي يمتلك وحده قدرة نووية مستقلة ضمن الاتحاد الأوروبي. غير أن هذا التوجه يثير تساؤلات حول مدى توافقه مع التزامات منع الانتشار النووي، وحول قدرة الأوروبيين على إدارة “مشاركة نووية” دون تفكك سياسي أو تعارض في القرار، خاصة أن مسألة “من يملك سلطة الإطلاق” ستظل محورًا خلافيًا خطيرًا.
على المدى القريب، يُتوقع أن يظل الحديث في إطار المناقشات السياسية والاستراتيجية دون تطبيق فعلي، إذ ما زال الرأي العام الأوروبي منقسمًا بشدة تجاه أي توسع في الدور النووي. لكن على المدى المتوسط، ومع تصاعد التهديدات الروسية في القطب الشمالي وأوروبا الشرقية، قد تدفع الأحداث أوروبا نحو نظام ردع مشترك أكثر تماسكًا، ربما بزعامة بريطانية فرنسية مشتركة، مع مشاركة رمزية من ألمانيا.
المستقبل الأوروبي يسير نحو توازن جديد في الردع النووي يقوم على مبدأ “الاستقلال النسبي عن واشنطن”، دون الانفصال الكامل عنها، وهو ما سيعيد تشكيل معادلات القوة داخل الناتو ويضع أوروبا أمام معضلة: هل يمكنها حقًا أن تحمي نفسها بنفسها في عالم يتجه نحو التعددية النووية؟.
رابط مختصر.. https://www.europarabct.com/?p=111165
