خاص ـ المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات ـ ألمانيا وهولندا ECCI
الدفاع ـ كيف يمكن الاتحاد الأوروبي في تجاوز انقساماته لبناء “جدار المسيّرات”؟
لا يقتصر المشروع المقترح، الذي أعيدت تسميته إلى المبادرة الأوروبية للدفاع ضد الطائرات المسيّرة، على الجناح الشرقي للاتحاد كما كان مخططًا في البداية، بل يمتد ليشمل كامل المجال الجوي الأوروبي. يكتسب مشروع أكبر زخمًا إذ يمكن أن يدمج ما يسمى بـ”جدار المسيّرات” ضمن شبكة دفاعية قارية واسعة. فالدرع الجوي الأوروبي يطمح إلى إنشاء نظام دفاع جوي متعدد الطبقات، مستوحى من “القبة الحديدية” الإسرائيلية، لاعتراض كل شيء من الطائرات المسيّرة إلى الصواريخ الباليستية. لكن بعد عقود من ضعف الاستثمار والاعتماد على الحماية الأمريكية، تواجه أوروبا سؤالًا صعبًا: متى، أو هل يمكن أن يصبح هذا الدرع واقعًا؟ وإذا قررت الحكومات المضي قدمًا، فكيف سيبدو ذلك عمليًا؟
ما هو النهج الأوروبي لتعزيز الدفاعات؟
في سعيه لمساعدة أوروبا على تعزيز دفاعها في مواجهة تصاعد التهديدات الروسية، أطلق الاتحاد الأوروبي خارطة طريق للسياسة الدفاعية. إذ إن “خريطة الطريق للاستعداد الدفاعي” التي اقترحتها المفوضية الأوروبية خلال العام 2025، تتخذ نهجًا خاطئًا فيما يتعلق بأحد المكونات الحيوية لأي ردعٍ جاد ضد التهديدات المحتملة من الكرملين، وهو الطائرات المسيّرة. أولًا، لأن حصر الجهود ضمن الاتحاد الأوروبي وحده يُعدّ خطأً، وثانيًا لأن المطلوب هو آلية تضامنٍ ماليٍّ جادة تساعد الدول الأقرب إلى الجبهة المحتملة على الاستعداد. المفوضية بتوسيع مهامها خارج نطاقها عبر اقتراح، ولو بشكلٍ مبهم، سياسة دفاعية مشتركة. غير أن الاتحاد الأوروبي ليس المنصة المناسبة لذلك، فبعض الدول الأعضاء تلتزم الحياد رسميًا، مثل إيرلندا أو النمسا، في حين أن دولًا أخرى مثل إسبانيا ترى أنها ليست مضطرة إلى إنفاق الكثير على الدفاع لبعدها عن خطوط التماس المحتملة. وعلى الجانب الآخر، هناك المملكة المتحدة والنرويج، وهما عضوان في حلف شمال الأطلسي وتملكان جيوشًا كبيرة، وتُعدّان جزءًا طبيعيًا من أي تحالفٍ دفاعي ضد روسيا. لذا، فإن “تحالف الراغبين” الذي أشار إليه رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر يجب أن يكون الإطار الطبيعي للمبادرات المشتركة.
من يتحمل التكلفة المالية لإنشاء ما يُسمّى “جدار الطائرات المسيّرة”؟
لا ينبغي أن تتحمل الدول الواقعة على الجناح الشرقي لأوروبا وحدها التكلفة المالية لإنشاء ما يُسمّى “جدار الطائرات المسيّرة”. يجب أن يمتد التضامن المالي ليشمل الدول السبع الأقرب إلى روسيا، وهي جمهوريات البلطيق الثلاث، وبولندا، وسلوفاكيا، والمجر، ورومانيا. تختلف نفقاتها العسكرية وفقًا لتصورها للتهديد الروسي، إذ تنفق المجر 2% من ناتجها المحلي الإجمالي على الدفاع، بينما تنفق بولندا نحو 5%. لكن إنفاقها الدفاعي مجتمعًا بلغ هذا العام قرابة 65 مليار يورو، وفقًا لتقديرات حلف الناتو، لذا سيكون من المنطقي أن يتحمل الاتحاد الأوروبي جزءًا كبيرًا من هذا العبء بشكلٍ مباشر. ولو أن الكتلة أنفقت جماعيًا ما يعادل ما تنفقه أوكرانيا على الطائرات المسيّرة نحو 2% من ميزانية كييف العسكرية، بحسب المحللة الدفاعية أولينا كريجانيفسكا فإن ذلك سيعني نحو 1.3 مليار يورو مخصصة للطائرات المسيّرة. ويُفترض أن يتم تمويل هذا الإنفاق بشكلٍ مشترك عبر اقتراضٍ أوروبيٍّ موحّد، إذ إن الدول السبع ستكون في خط المواجهة، لكن أي نزاعٍ سيكون مشكلة تخص الدول السبع والعشرين كلها.
الاستفادة من التجربة الأوكرانية
ينبغي أن يستفيد هذا النهج بشكلٍ أكثر منهجية من خبرة أوكرانيا، التي أصبحت المزود الرئيسي للطائرات المسيّرة في أوروبا، إذ تضم نحو 100 شركة لصناعة الطائرات المسيّرة، وما يقرب من 50 شركة أخرى متخصصة في برمجياتها. وتنتج كييف 4 ملايين طائرة سنويًا، ويمكنها مضاعفة هذا الإنتاج مع التمويل المناسب، وفقًا لما قاله الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي. وزيادة التمويل قد تتيح لأوكرانيا، ليس فقط تحسين دفاعها الذاتي، بل أيضًا تحقيق عائداتٍ من بيع طائراتها المُجرَّبة في المعارك إلى جيرانها. ويمكن لتحالف “الراغبين” أن يرى في ذلك فرصةً مناسبة لإظهار مدى جديّته في العمل المشترك.
يقول كريس كريميداس-كورتني، الزميل البارز في مركز السياسات الأوروبية: “تواجه أوروبا مأزقًا في المشتريات الدفاعية. فالاعتماد الأوروبي على أنظمة دفاعية أجنبية خصوصًا الأمريكية والإسرائيلية سلاح ذو حدين: فهو يسرّع عمليات الانتشار لكنه يقوّض استقلال أوروبا الاستراتيجي”. مضيفًا: “رغم أن هناك خيارات أوروبية الصنع لمعظم مستويات التهديد، إلا أنه لا يوجد بديل فعلي حتى الآن لصاروخ “آرو-3” الإسرائيلي، المصمم لاعتراض الصواريخ الباليستية الفرط صوتية. وتضاف إلى هذه المخاوف مشكلة أخرى هي تشتّت الصناعة الدفاعية الأوروبية”.
النتائج
يبدو أن مشروع المبادرة الأوروبية للدفاع ضد الطائرات المسيّرة يمثل خطوة هامة نحو وحدة الجهود الدفاعية الأوروبية، لكنه يكشف حدود الطموح الدفاعي الأوروبي عندما يصطدم بالواقع السياسي والاقتصادي المعقد داخل التكتل. فعلى الرغم من اتساع نطاق المشروع ليشمل المجال الجوي الأوروبي بأكمله، ما يعكس إدراكًا متزايدًا لطبيعة التهديدات العابرة للحدود لا سيما التهديدات الروسية، إلا أن التنفيذ على أرض الواقع لا يزال يواجه تحديات ومعوقات تتعلق بالتكلفة والتنسيق والسيادة الوطنية.
سياسيًا، لا تزال الدول الأوروبية منقسمة بين دولٍ محايدة كإيرلندا والنمسا، وأخرى تقع في مرمي الخطر كدول البلطيق وبولندا. هذا التفاوت في التهديدات يجعل فكرة “خريطة طريق دفاعية موحدة” طموحًا أكثر منها واقعًا. كما أن استمرار اعتماد أوروبا على المظلة الأمنية الأمريكية، عبر الناتو، يضعف فرص بناء قاعدة تكنولوجية مستقلة في مجال الدفاع الجوي والطائرات بدون طيار.
اقتصاديًا، تبقى مسألة التمويل أكبر عقبة أمام المشروع الدفاعي، فالدول الواقعة على الجناح الشرقي، رغم إنفاقها الدفاعي المرتفع، لا يمكنها وحدها تحمل كلفة إنشاء “جدار الطائرات المسيّرة”. لذلك، فإن أي تضامن مالي حقيقي يتطلب إرادة سياسية أوروبية موحدة وآلية تمويل مشتركة قد تواجه معارضة من الدول الأعضاء المحايدة. كما يفتح اللجوء إلى الاقتراض الأوروبي الموحّد نقاشًا حساسًا حول حدود التكامل المالي والدفاعي داخل التكتل، وهو ما لا يبدو أن جميع العواصم الأوروبية مستعدة له.
تمثل الخبرة الأوكرانية عنصرًا حاسمًا في تطوير القدرات الدفاعية الأوروبية. فأوكرانيا تمتلك قاعدة صناعية متقدمة في مجال الطائرات بدون طيار، وتُعدّ اليوم مختبرًا ميدانيًا للتكتيكات والتكنولوجيا الدفاعية الحديثة. دمج هذه الخبرة ضمن بنية أوروبية دفاعية موحدة يمكن أن يمنح التكتل دفعة استراتيجية واقتصادية في آنٍ واحد، شرط أن تُترجم إلى شراكة حقيقية وليست مجرد دعم رمزي.
من المتوقع أن يحدد نجاح هذه المبادرة مدى قدرة الاتحاد الأوروبي على الانتقال من “التنسيق الدفاعي المحدود” إلى “السيادة الدفاعية المشتركة”. فإذا نجح المشروع في تجاوز الخلافات وبناء منظومة دفاعية متكاملة تضم التمويل، والتكنولوجيا، والتدريب، والقدرة على الانتشار السريع فقد يشكّل نواة أولى لدرع أوروبي حقيقي يحد من الاعتماد على الولايات المتحدة. أما إذا استمرت الخلافات والازدواجية في السياسات، فستظل الدول الأوروبية في موقع الدفاع الرمزي، تواجه تهديدات متزايدة بقدرات غير مكتملة.
رابط مختصر .. https://www.europarabct.com/?p=111303
