خاص ـ المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات ـ ألمانيا وهولندا ECCI
الدفاع ـ كيف الرأي العام الأوروبي التهديد الروسي؟
كشف استطلاع للرأي أجرته مؤسسة Polling Europe عن تراجع نسبي في دعم المواطنين الأوروبيين لزيادة الإنفاق على الدفاع الوطني، بالرغم من استمرار التهديدات الأمنية المتزايدة، وفي مقدمتها التهديد الروسي. ويأتي هذا التراجع في وقت تُولي فيه معظم دول الاتحاد الأوروبي اهتمامًا بالغًا بقضية إعادة التسلح العسكري وتحديث المنظومات الدفاعية، تماشيًا مع الهدف الدفاعي الجديد لحلف شمال الأطلسي (الناتو)، والذي تم رفعه إلى 5% من الناتج المحلي الإجمالي. ويُعد هذا الهدف بمثابة استجابة استراتيجية مباشرة لمخاوف متنامية بشأن احتمالية اندلاع نزاعات طويلة الأمد، خاصة في ظل التوترات الجيوسياسية القائمة شرق القارة.
ماذا عن الاستثمار في القدرات الدفاعية؟
شمل الاستطلاع أكثر من 5400 مشارك من مختلف دول الاتحاد الأوروبي، وبيّن أن 67% من المشاركين ما زالوا يؤيدون زيادة الاستثمار في القدرات الدفاعية والعسكرية لدولهم، وهو ما يعكس وجود دعم عام قوي نسبيًا. غير أن هذه النسبة سجّلت انخفاضًا واضحًا مقارنةً باستطلاع مماثل أُجري في أبريل 2024، حيث وصلت نسبة التأييد حينها إلى 74%، ما يشير إلى تراجع بنسبة 7 نقاط مئوية خلال أقل من عام. ويطرح هذا الانخفاض تساؤلات حول مدى استدامة هذا الدعم الشعبي، ومدى قدرة الحكومات الأوروبية على حشد التأييد الجماهيري لخطة التسلح طويلة المدى.
انقسام جغرافي واضح في المواقف تجاه الإنفاق الدفاعي
تظهر البيانات الأولية التي تم جمعها من الاستطلاع وجود انقسام جغرافي واضح في المواقف تجاه الإنفاق الدفاعي، بين شمال وجنوب القارة، وكذلك بين دول أوروبا الوسطى والشرقية. فعلى سبيل المثال، أبدى 59% فقط من المشاركين في جنوب أوروبا دعمهم لزيادة الإنفاق العسكري، مقارنة بنسبة 73% في شمال أوروبا، و76% في وسط وشرق أوروبا، وهي مناطق أكثر قربًا من روسيا، ما قد يفسّر ارتفاع نسبة الدعم فيها. ويبدو أن العامل الجغرافي يلعب دورًا محوريًا في تشكيل مواقف الشعوب من المسائل الأمنية، فالدول القريبة من مناطق النزاع أو من الحدود الروسية تميل إلى القلق أكثر، وبالتالي إلى دعم سياسات دفاعية أكثر صرامة.
المخاوف الأمنية تدفع الرأي العام نحو تأييد سياسات أكثر تشددًا
تُعد بولندا حالة مميزة وذات دلالة، إذ أظهر الاستطلاع أن 86% من البولنديين يؤيدون زيادة الإنفاق الدفاعي، وهي أعلى نسبة تأييد سُجلت في الاتحاد الأوروبي. ويُعزى هذا إلى الموقع الجغرافي الحساس لبولندا، والتي تتقاسم حدودًا مباشرة مع روسيا، بالإضافة إلى تصاعد الحوادث الأمنية مثل اختراق المجال الجوي البولندي من قبل طائرات روسية بدون طيار، وهو ما حدث قبل إجراء الاستطلاع في الفترة بين 17 و19 سبتمبر 2025. مثل هذه الحوادث تُعزز المخاوف الأمنية وتدفع الرأي العام نحو تأييد سياسات أكثر تشددًا في مجال الأمن والدفاع.
نجد تحليل المواقف بحسب الانتماء السياسي للمشاركين، أن الدعم لزيادة الإنفاق الدفاعي كان أقوى بين المنتمين إلى الأحزاب ذات التوجهات الوسطية ويمين الوسط، إذ أيد 85% من أنصار حزب الشعب الأوروبي، و80% من أنصار حزب التجديد، بينما بلغت النسبة 69% لدى المحافظين الأوروبيين. في المقابل، كانت النسب أقل لدى الأحزاب اليسارية والمتطرفة، إذ أيد الزيادة فقط 60% من الاشتراكيين والديمقراطيين، و51% من الخضر، و50% من اليسار، بينما تراجعت إلى 40% فقط لدى أنصار حزب الشبكة الاجتماعية الأوروبية. هذا الانقسام السياسي يُبرز مدى تأثر السياسات الدفاعية بالتصورات الأيديولوجية بشأن دور الدولة، والسيادة، والتهديدات الأمنية.
الشق المؤسسي لمسألة الأمن والدفاع
فيما يتعلق بالشق المؤسسي لمسألة الأمن والدفاع، بيّن الاستطلاع أن الأوروبيين منقسمون بشأن الجهة الأفضل لتنسيق الاستثمارات الدفاعية. فقد أبدى 48% من المشاركين تفضيلهم أن تتولى المفوضية الأوروبية تنسيق هذه الاستثمارات بشكل مركزي، في حين فضّل 41% أن تظل القرارات في هذا الشأن من اختصاص الحكومات الوطنية. مرة أخرى، تبرز التباينات الإقليمية، إذ أيّد 60% من مواطني جنوب أوروبا قيادة المفوضية الأوروبية للجهود الدفاعية، مقارنة بـ 53% في وسط أوروبا، و42% فقط في شمال القارة.
الاستعداد العسكري الشامل
وعند النظر إلى مسألة الاستعداد العسكري الشامل، يرى غالبية المشاركين، بنسبة 52%، أن أوروبا غير مستعدة لمواجهة نزاع عسكري طويل الأمد مع دولة ثالثة. من بين هؤلاء، أشار 26% إلى أن القارة مستعدة “قليلاً”، بينما قال 26% إنها “غير مستعدة إطلاقاً”. وأظهر 10% فقط تفاؤلهم، بينما رأى 29% أن أوروبا مستعدة “جزئياً”. ويُظهر تحليل المواقف حسب المناطق أن سكان شمال أوروبا 43% ووسطها 46% أكثر تفاؤلًا مقارنةً بسكان الجنوب 35%. ومن اللافت أن إسبانيا سجّلت نسبة تفاؤل أعلى من جيرانها، إذ اعتبر 47% من المشاركين الإسبان أن أوروبا مستعدة، مقابل متوسط إقليمي لا يتجاوز 42%.
النتائج
يكشف الاستطلاع عن مفارقة متزايدة بين الواقع الأمني المقلق في أوروبا، والتراجع النسبي في الدعم الشعبي لزيادة الإنفاق الدفاعي، رغم استمرار التهديدات الروسية والتوسع في النشاطات العدائية، مثل اختراق المجال الجوي البولندي. هذا التراجع، وإن بدا محدودًا (7% فقط منذ أبريل 2024)، يطرح تساؤلات حول مدى قدرة الحكومات الأوروبية على الحفاظ على زخم التسلح دون فقدان الشرعية الشعبية.
التفاوتات الجغرافية والسياسية التي أبرزها الاستطلاع تكشف عمق الانقسام داخل الاتحاد الأوروبي حول قضية الدفاع: بين شمال وجنوب، وشرق وغرب، وبين يسار ويمين. هذا الانقسام قد يضعف فعالية القرارات الدفاعية الموحدة، ويُعقّد التنسيق المؤسسي بين المفوضية الأوروبية والحكومات الوطنية، خاصة في ظل التباين الواضح في الثقة بمؤسسات الاتحاد. ومع أن دول الشرق والوسط الأوروبي تُظهر دعمًا قويًا، فإن التردد في دول الجنوب كإيطاليا يسلّط الضوء على التباين في الإدراك العام للتهديدات، أو ربما على أزمات اقتصادية تجعل الأولويات مختلفة.
مستقبليًا، من المرجح أن تشهد أوروبا جدلاً متصاعدًا حول التوازن بين الاستجابة الأمنية والتحديات الاقتصادية والاجتماعية. وستواجه الحكومات ضغوطًا لتبرير التوسع العسكري، خاصة إذا لم تتجسد التهديدات الروسية في مواجهات مباشرة. أما في حال استمرار أو تصاعد الانتهاكات الروسية، كما حدث مؤخرًا، فقد يؤدي ذلك إلى استعادة الدعم الشعبي للإنفاق الدفاعي. يبقى مستقبل “أوروبا الدفاعي” رهينًا بقدرة الاتحاد على تحقيق توافق داخلي، يدمج المخاوف الأمنية مع تطلعات الشعوب، ويحوّل التهديد إلى حافز لتوحيد القرار العسكري والمؤسسي.
رابط مختصر.. https://www.europarabct.com/?p=110376
