خاص ـ المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات ـ ألمانيا وهولندا ECCI
الدفاع ـ تسليح بأبعاد استراتيجية:، ألمانيا تواجه التحديات الروسية وتُعيد صياغة أولوياتها
لخّص وزير الدفاع الاتحادي بوريس بيستوريوس الأمر في البرلمان الألماني في سبتمبر 2025، قائلاً: “إننا نرسم مسارًا سياسيًا حاسمًا”. ووفقًا لبيستوريوس، تُخصّص ميزانية عام 2025 وحدها 86.5 مليار يورو للجيش الألماني، منها 24.1 مليار يورو من الصندوق الخاص للحكومة الاتحادية. ومن المقرر استثمار حوالي 80 مليار يورو في مشاريع تسليح جديدة بحلول نهاية عام 2026. تُظهر وثائق لجنة الميزانية في البرلمان الألماني أن ما يقارب 8% فقط من العقود تذهب إلى شركات أمريكية.
بالمقارنة، بحسب معهد ستوكهولم لأبحاث السلام الدولي (SIPRI)، شكّلت واردات الأسلحة الأوروبية من الولايات المتحدة نحو 64% في المتوسط خلال الفترة الممتدة من عام 2020 إلى عام 2024، وهو ما يعكس اعتمادًا أوروبيًا كبيرًا على الصناعة العسكرية الأمريكية. ومن المرجح أن يُثير هذا الأمر استياء الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي عبّر خلال قمة حلف شمال الأطلسي التي عُقدت في لاهاي في يونيو 2025 عن موقفه بربط المشتريات العسكرية الأمريكية بشكل مباشر بمستوى التزام الولايات المتحدة بضمان الأمن الأوروبي.
ألمانيا: “يجب أن نكون مستعدين”
وفقًا لتقديرات السلطات الأمنية الألمانية، فإن روسيا ستكون قادرة على اختبار القدرات الدفاعية لحلف شمال الأطلسي عسكريًا بدءًا من عام 2029، ما يدفع ألمانيا إلى إعادة توجيه استراتيجياتها وخططها الدفاعية بشكل متسارع نحو هذا التاريخ الحاسم. وتشير التقييمات الاستخباراتية والعسكرية إلى أن هذا الموعد قد يشهد تصعيدًا روسيًا محتملًا يشمل أعمالًا هجومية أو استفزازات مباشرة ضد دول الحلف، ما يفرض على برلين تعزيز جاهزيتها وتحديث قدراتها لمواجهة هذا التهديد المتوقع.
يرى خبراء الجيش الألماني، في ضوء التهديد الذي تشكله روسيا، أسبابًا وجيهة لزيادة الإنفاق الدفاعي، ولاستثمار المزيد من الأموال في القوات المسلحة التي أُهملت لعقود من الزمن. تقول خبيرة الأمن آيلين ماتل من المجلس الألماني للعلاقات الخارجية (DGAP): “الأمر لا يتعلق بإرضاء الأمريكيين، ولا بإثراء صناعة الأسلحة؛ فمن مصلحة ألمانيا الوطنية أن تكون قادرة على الدفاع عن نفسها”.
لا يقتصر اهتمام وزير الدفاع الألماني على تحديث الثكنات العسكرية فحسب. ففي ضوء حرب أوكرانيا والانتهاكات الجوية الروسية فوق إستونيا والدنمارك، أصبح بحر البلطيق محور الاهتمام. وأكد بيستوريوس خلال زيارة قام بها إلى الدنمارك، معلنًا عن استثمارات جديدة في البحرية: “علينا أن نكون يقظين ومستعدين، ليس فقط على الجناح الشرقي لحلف الناتو، بل على جناحه الشمالي الحيوي”. يُحذّر الخبير العسكري أوليفر مودي، قائلًا: “حتى عام 1989، امتدّ نطاق النفوذ السوفيتي إلى ما وراء ساحل بحر البلطيق الجنوبي، حتى مصب نهر تراف بالقرب من لوبيك. وقد أوضح بوتين مرارًا وتكرارًا رغبته في استعادة أكبر قدر ممكن منه، بالقوة إذا لزم الأمر”. وبناءً على ذلك، سيُمنح أكبر عقد منفرد في عام 2026، بقيمة تُقارب 26 مليار يورو، لشركة “تيسنكروب مارين سيستمز” (TKMS) لبرنامج فرقاطة “إف-127”.
صواريخ لطائرات الدوريات البحرية “بوسيدون” ونظام باتريوت
تستفيد الشركات الأمريكية من استحواذها على طائرة “بوسيدون” للدوريات البحرية من بوينغ، ويعتزم الجيش الألماني شراء 8 طائرات منها. ويتحدث الجيش الألماني بثقة عن سرعة الشراء. ومع ذلك، لم يُخصص سوى 150 مليون يورو لشراء طوربيدات “بوينغ MK54” للطيران البحري في عام 2026. خُصص ما يقارب 5.1 مليار يورو لشراء صواريخ موجهة لنظام الدفاع الجوي “باتريوت” من شركة “رايثيون تكنولوجيز” الأمريكية. يُجدد الجيش الألماني مخزونه من الصواريخ بشكل أساسي، بعد أن نقلها إلى أوكرانيا. ومع ذلك، يُرجّح أن يكون جزء كبير من سلسلة القيمة موجودًا في ألمانيا. على سبيل المثال، تُنشئ شركة “إم بي دي إيه” الألمانية لتصنيع الأسلحة إنتاجًا لصواريخ “باتريوت” في شروبنهاوزن، بافاريا.
بعد اتفاق الرسوم الجمركية مع رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، أعلن ترامب أن الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي ستشتري “كميات كبيرة من المعدات العسكرية الأمريكية”. على الأقل، انخفضت المساهمة الألمانية بشكل ملحوظ الآن. مع ذلك، لا تسير مشاريع التسليح التي ينفذها الجيش الألماني في أوروبا بسلاسة. فعلى سبيل المثال، يواجه مشروع الطائرات المقاتلة الألماني-الفرنسي-الإسباني (FCAS)، “نظام القتال الجوي المستقبلي”، مشاكل كبيرة لعدم اتفاق الدول الثلاث على هيكلية مشتركة لاتخاذ القرارات.
النتائج
تُظهر الخطط الألمانية، كما عبّر عنها وزير الدفاع بوريس بيستوريوس، تحولًا نوعيًا في السياسة الدفاعية الألمانية، يتجاوز الطابع الرمزي أو البطيء الذي اتّسمت به السياسات الدفاعية بعد الحرب الباردة. فاعتماد ميزانية ضخمة للجيش لعام 2025 (86.5 مليار يورو) وتخصيص 80 مليارًا لمشاريع تسليحية حتى نهاية 2026، يكشف عن إدراك استراتيجي لحجم التحديات الأمنية المتصاعدة، خصوصًا في ظل استمرار حرب أوكرانيا وتزايد الانتهاكات الروسية للمجالات الجوية لحلف الناتو، وخاصة في منطقة بحر البلطيق.
من الواضح أن برلين تحاول تحقيق نوع من “الاستقلالية الدفاعية الأوروبية” من خلال تقليص الاعتماد على المعدات الأمريكية، حيث تظهر الوثائق البرلمانية أن 8% فقط من العقود تذهب لشركات أمريكية، مقارنة بمتوسط أوروبي بلغ 64% خلال السنوات الماضية.
هذا التوجه من شأنه أن يصطدم مباشرة بمواقف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي ربط الأمن الأوروبي بشراء المعدات الأمريكية في قمة لاهاي 2025. وقد يؤدي هذا التباين إلى توترات داخل الناتو، خصوصًا إذا قررت واشنطن استخدام “الضغط العسكري” كورقة مساومة سياسية واقتصادية.
الاستثمار الألماني في الجناح الشمالي للناتو، وخصوصًا في بحر البلطيق، يعكس إدراكًا متزايدًا بأهمية هذه المنطقة كنقطة تماس حيوية مع روسيا. فإعلان بيستوريوس عن استعدادات عسكرية بحرية، ومنح عقد بقيمة 26 مليار يورو لشركة “تيسنكروب مارين سيستمز” لتطوير فرقاطات F-127، يترجم هذا التركيز البحري الألماني عمليًا.
لا تزال هناك عقبات كبيرة، خصوصًا في مشاريع التعاون الدفاعي الأوروبية مثل مشروع FCAS، الذي يُعاني من خلافات هيكلية بين ألمانيا وفرنسا وإسبانيا. هذه الصعوبات تضعف أي محاولة لبناء جبهة أوروبية موحدة تكنولوجيًا وعسكريًا، وتُظهر أن فكرة “السيادة الدفاعية الأوروبية” ما زالت بعيدة المنال.
في حال استمر هذا الاتجاه، فإن ألمانيا ستتجه تدريجيًا نحو تشكيل قاعدة صناعية دفاعية أكثر اكتفاءً واستقلالية، خصوصًا إذا رافق ذلك تطوير سلسلة إنتاج محلية كما في حالة صواريخ باتريوت في بافاريا. ومع تصاعد التوترات مع روسيا وتذبذب الثقة في المظلة الأمريكية، قد يُسجّل العقد القادم بداية تحول نوعي نحو نموذج دفاعي أوروبي مركزي، تكون فيه ألمانيا محور التوازن الجديد. ومع ذلك، ستظل فعالية هذا التحول رهينة بتوافق سياسي أوروبي أوسع، وبالتعامل الذكي مع ضغوط الولايات المتحدة.
رابط مختصر.. https://www.europarabct.com/?p=109741
