خاص ـ المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات ـ ألمانيا وهولندا ECCI
الدفاع ـ إلى أي مدى يمكن أن يسهم التعاون البحري بين ألمانيا وكندا في ردع روسيا؟
يأمل وزير الدفاع الألماني بوريس بيستوريوس في إقناع حليفة بلاده في حلف الناتو، كندا، بالتعاون في مشروع دفاعي مشترك لتعزيز التحالف في شمال الأطلسي في مواجهة روسيا، فيما تلعب آيسلندا دورًا مهمًا في هذا الإطار. ففي العاصمة الكندية أوتاوا، في 20 أكتوبر 2025، استقبل وزير الدفاع الكندي ديفيد مكنتي نظيريه النرويجي والألماني، توري ساندفيك وبوريس بيستوريوس. يسعى الوزيران ساندفيك وبيستوريوس إلى إقناع كندا بالانضمام إلى مشروع ألماني نرويجي قائم منذ عام 2023، يهدف إلى شراء غواصات حديثة موحدة المواصفات، ويأملان في الحصول من كندا على طلبية تصل إلى 12 غواصة خلال السنوات العشر المقبلة. سيشكل هذا الطلب دفعة كبيرة للشركات الألمانية والنرويجية التي تصنع هذه الغواصات. وأوضح مكنتي: “أن انضمام كندا سيؤدي إلى زيادة حجم الإنتاج، وبالتالي خفض تكلفة الوحدة الواحدة”. ترى برلين أن الدخول في شراكة لبناء الغواصات سيكون إشارة واضحة إلى تعزيز التعاون البحري في شمال الأطلسي. ففي العام 2024، أسست ألمانيا والنرويج وكندا شراكة في مجال الأمن البحري، وانضمت إليها الدنمارك في العام 2025.
حرب باردة جديدة
بعد انتهاء الحرب الباردة، لم تعد الغواصات في المحيط الأطلسي أولوية، وخفضت ألمانيا أسطولها بشكل كبير. لكن مع اعتبار روسيا مجددًا تهديدًا كبيرًا في بحر البلطيق وشمال الأطلسي، بدأ الاهتمام يتجدد بتوسيع الأسطول. ولا يقتصر التركيز على الغواصات فحسب، إذ أشار بيستوريوس إلى: “أن دول الناتو الشمالية تعزز التزامها بحماية البنى التحتية الحيوية، مثل كابلات الاتصالات البحرية ومزارع الرياح البحرية، إلى جانب رصد الغواصات الروسية في شمال الأطلسي”. يقول بيستوريوس: “لن تتوقف طموحات روسيا عند شرق أوكرانيا أو الجناح الشرقي للناتو. فخطوط الاتصال المدنية والعسكرية عبر شمال الأطلسي بالغة الأهمية لاقتصادنا وتحالفنا الدفاعي مع كندا والولايات المتحدة”.
تتبع الغواصات الروسية من آيسلندا
تعتزم البحرية الألمانية زيادة وجودها في المياه القريبة من الدائرة القطبية الشمالية. كما سيتم نشر طائرات استطلاع من طراز “بي8 بوسيدون” بشكل متكرر من آيسلندا، وهي قادرة على كشف الغواصات على مسافات بعيدة. قد وقّع بيستوريوس إعلان نوايا بهذا الشأن خلال زيارة قصيرة إلى ريكيافيك، مع وزيرة الخارجية الآيسلندية كاترين غونارسدوتير. تدير البحرية الأمريكية قاعدة كبيرة في كيفلافيك بآيسلندا لمراقبة شمال الأطلسي، وتتناوب دول الناتو في إرسال طائرات الاستطلاع إليها. وكانت الولايات المتحدة قد أغلقت القاعدة عام 2006، لكنها أعادت فتحها عام 2016 بسبب تزايد التهديد الروسي. ورغم أن آيسلندا عضو في حلف الناتو، إلا أنها لا تمتلك جيشًا، لذا فإن أي دعم خارجي يُعتبر موضع ترحيب، في حين توفر هي بدورها الدعم اللوجستي في موانئها ومرافق الإقامة والتدريب للجنود الألمان.
معادن نادرة وتعاون اقتصادي
خلال المحادثات في كندا، دعا بيستوريوس إلى توسيع الشراكة الاستراتيجية والاقتصادية، وهي شراكة تم إضفاء الطابع الرسمي عليها في أغسطس 2025 عندما زار رئيس الوزراء الكندي مارك كارني برلين للقاء المستشار الألماني فريدريش ميرتس. يمكن لكندا، على سبيل المثال، أن تصدر مزيدًا من الغاز النفطي المسال إلى أوروبا، فيما ترغب ألمانيا في المساهمة في استكشاف واستخراج المعادن النادرة المطلوبة بشدة في الصناعات الإلكترونية الدقيقة والرقائق. أشار الجانب الكندي إلى أن حلفاءه الأوروبيين يسعون لتقليل اعتمادهم على الصين وحتى على الولايات المتحدة. كان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قد فرض رسومًا جمركية مرتفعة على الواردات الكندية، في حين كانت الولايات المتحدة حتى وقت قريب أكبر شريك تجاري لكندا بنسبة 75% من تجارتها. إلا أن هذا الوضع بدأ يتغير، إذ تؤكد الدبلوماسية الكندية أنها تتجه أكثر نحو أوروبا مستقبلًا.
هل أصبح الجيش الألماني مثقلًا بالمهام؟
عندما سُئل بيستوريوس عمّا إذا كان الجيش الألماني (البوندسفير) يواجه خطر التمدد الزائد مع تعدد التزاماته في ليتوانيا وبحر البلطيق وكندا وآيسلندا، أجاب: “أن هذا سؤال ألماني نموذجي”. أكد بيستوريوس: “أن ألمانيا هي أكبر دولة عضو في الناتو داخل أوروبا، وبالتالي يجب علينا تحمل نصيب أكبر من العبء وإثبات قدرتنا على ذلك”. أضاف بيستوريوس: ” أن الجيش لا يستطيع التواجد في كل مكان، بل عليه تحديد أولوياته، كما تركز بعض دول الناتو الأخرى على الجنوب البحر المتوسط أو الشرق الأوسط أو شمال أفريقيا فإننا نركز على بحر البلطيق والمنطقة الإسكندنافية والجناح الشرقي”. وأكد بيستوريوس: “سنكون قادرين على إدارة كل ذلك بالاعتماد على كوادرنا الحالية والقوى الجديدة التي سنضيفها مستقبلًا”.
لم يُتخذ قرار بعد
بعد المحادثات في أوتاوا، لم تتخذ كندا بعد قرارًا بشأن الانضمام إلى مشروع الغواصات الألماني النرويجي، ومن المقرر أن يسافر رئيس الوزراء مارك كارني إلى كوريا الجنوبية، حيث سيحضر عرضًا آخر مشابهًا، إذ تسعى سيول إلى الفوز بعقد لتزويد كندا بـ 12 غواصة جديدة. في ختام يوم طويل من المفاوضات، تحدث الوزير الكندي مكنتي إلى نظيريه الألماني والنرويجي دون الدخول في التفاصيل، قائلاً: “هذه الشراكة نشطة وتتطور، وهي أساسية لمواجهة التحديات العالمية الحالية”. أما بيستوريوس فاختتم بالقول: “الأمور تبدو واعدة”.
النتائج
يُظهر مشروع الغواصات الألماني النرويجي ومساعي انضمام كندا إليه تحوّلًا استراتيجيًا واضحًا في منظومة الأمن البحري عبر شمال الأطلسي. فالتعاون الدفاعي بين هذه الدول الثلاث، مدعومًا بدور لوجستي متزايد لآيسلندا، يعكس تنامي القناعة بأن التهديد الروسي في المحيط الشمالي لم يعد احتمالًا بعيدًا، بل واقعًا يحتاج إلى ردع منسق ومتعدد الأبعاد. بهذا المعنى، يبدو أن أوروبا وشركاءها في الناتو يتجهون إلى “إعادة تدوير” أدوات الردع القديمة تكنولوجيًا، لتأمين خطوط الاتصال والممرات البحرية الحيوية.
من زاوية اقتصادية، لا يُعدّ المشروع مجرد صفقة تسليحية، بل خطوة استراتيجية لدعم الصناعة الدفاعية الأوروبية وتقليل الاعتماد على الولايات المتحدة في مجالات التكنولوجيا البحرية. دخول كندا، إن تحقق، سيمنح المشروع بعدًا عابرًا للأطلسي، يربط بين قدرات الإنتاج الألمانية والنرويجية والطلب الكندي المتزايد، كما سيعزز الاستقلالية الاستراتيجية لحلف الناتو عن واشنطن. ومع ذلك، تبقى المنافسة الكورية الجنوبية عقبة محتملة، خاصة أن سيول تسعى لاختراق السوق الغربية عبر عروض أكثر مرونة من حيث السعر وسرعة التسليم.
أما سياسيًا، فإن هذا التعاون يعكس رغبة ألمانية متزايدة في استعادة دورها القيادي داخل الناتو بعد فترة من التحفظ العسكري، خصوصًا في عهد المستشار ميرتس الذي يسعى لإظهار ألمانيا كفاعل أمني حاسم لا مجرد ممول اقتصادي. في المقابل، يجد رئيس الوزراء الكندي مارك كارني في الشراكة الأوروبية فرصة لإعادة توجيه بوصلة بلاده التجارية والأمنية بعيدًا عن الهيمنة الأمريكية، بعد تزايد النزاعات التجارية مع إدارة ترامب.
على المدى المتوسط، من المرجح أن يؤدي المشروع إلى تعزيز التواجد البحري المشترك في شمال الأطلسي والدائرة القطبية، وربط القدرات العسكرية بالبنى التحتية الاقتصادية، خصوصًا مع الاهتمام المتزايد بكابلات الإنترنت والمعادن النادرة. ومع ذلك، ستبقى مسألة التمويل وتوزيع الأعباء داخل الناتو تحديًا دائمًا، خصوصًا مع ضغط الرأي العام الأوروبي ضد زيادة الإنفاق العسكري.
في المستقبل القريب، يُتوقع أن يتحول التعاون البحري بين ألمانيا وكندا والنرويج إلى نواة لتحالف دفاعي جديد مخصص للمجال القطبي والشمال الأطلسي، ليشكل أحد أعمدة “الردع البحري المتقدم” ضد روسيا. لكن نجاحه سيتوقف على قدرة الأطراف على الموازنة بين مصالحها الاقتصادية، والتزاماتها الأمنية، وإقناع الرأي العام بأهمية الاستثمار في “غواصات الحرب الباردة الجديدة”.
رابط مختصر.. https://www.europarabct.com/?p=110851
