خاص ـ المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات ـ ألمانيا وهولندا ECCI
الدفاع ـ إلى أي مدى يمكن أن تُعيد “اتفاقية ترينيتي هاوس” رسم خريطة الأمن الأوروبي؟
أكد وزير الدفاع البريطاني جون هيلي إن لديه رسالة إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين: “نحن نصطاد غواصاتك”. وأضاف هيلي أن هناك “زيادة بنسبة 30% في السفن الروسية التي تهدد المياه البريطانية”، معتبرًا ذلك دليلًا على تصاعد “التهديد الروسي على جميع المستويات”، الذي لا يؤثر على أوكرانيا فحسب، بل على أوروبا بأكملها. ووفقًا لوزارة الدفاع البريطانية، فإن نشاط الغواصات الروسية في شمال الأطلسي عاد إلى المستويات نفسها التي كانت عليها خلال الحرب الباردة.
تقوم القوات الجوية الملكية البريطانية (RAF) والبحرية الملكية بتكثيف مراقبتهما للمحيط الأطلسي الشمالي، حيث تكون الغواصات الروسية أكثر نشاطًا. وتنطلق طائرات سلاح الجو في مهام شبه يومية، وأحيانًا على مدار الساعة، وغالبًا ما تدعمها طائرات من دول حلف الناتو الأخرى. وتزايدت مخاوف الدول الغربية من أن تحاول روسيا قطع الكابلات البحرية الحيوية كجزء من حربها الهجينة، مما قد يتسبب في اضطرابات وفوضى في شبكات الإنترنت والاتصالات.
عمليات المراقبة هذه عمل جماعي
يوضح هيلي: “إن عمليات المراقبة هذه عمل جماعي، وإن الفريق سيزداد حجمًا قريبًا بعد أن طلبت ألمانيا شراء ثماني طائرات من طراز بي-8 الخاصة بها”. وقد بدأ أفراد من الجيش الألماني بالفعل التدريب إلى جانب زملائهم البريطانيين، وشارك طيار من البحرية الألمانية في قيادة الطائرة خلال جزء من المهمة. تخطط ألمانيا لتسيير دوريات بحرية منتظمة من قاعدة سلاح الجو الملكي في لوسيماوث، أكد وزير الدفاع الألماني بوريس بيستريوس خلال لقائه بوزير الدفاع البريطاني: “شمال الأطلسي منطقة حيوية، وهو مهدد بالغواصات النووية الروسية، لذلك علينا أن نعرف ما يجري في أعماق البحر هنا”.
اتفاقية ترينيتي هاوس: تشكّل حجر الزاوية في الأمن الأوروبي
تعزز التعاون الدفاعي المتزايد بين لندن وبرلين بعد توقيع “اتفاقية ترينيتي هاوس” العام 2024. يُعتبر المشروع الخامس من مبادرة “ترينيتي هاوس لايتهاوس” بمثابة خطوة جديدة لتعزيز التعاون بين قيادة العمليات السيبرانية والعمليات الخاصة الجديدة في المملكة المتحدة (CSOC) وخدمة الفضاء السيبراني والمعلومات في ألمانيا، بما يسمح بتبادل البيانات والاستخبارات والأدوات العملياتية بشكل آمن مع الحلفاء في الناتو.
التزمت شركات ألمانية ومنذ إطلاق “اتفاقية ترينيتي هاوس” بالاستثمار في قطاع الدفاع البريطاني بما قيمته 800 مليون جنيه إسترليني، ما أسفر عن توفير 600 فرصة عمل جديدة في أنحاء المملكة المتحدة. ويشمل ذلك إنشاء مصنع جديد لشركة “راينميتال” في “تيلفورد”، كما أعلنت ثلاث شركات دفاع ألمانية عن خطط استثمارية جديدة في المملكة المتحدة، تتضمن إنتاج طائرات بحرية بدون طيار، بدعم استثماري يبلغ 350 مليون جنيه إسترليني في مجال الذكاء الاصطناعي، إضافة إلى تطوير طائرات مسيّرة غير مأهولة باستثمار قدره 45 مليون جنيه وتوفير 190 وظيفة جديدة.
يقول وزير الدفاع البريطاني جون هيلي: “بعد عام من اتفاقية ترينيتي هاوس، تعمل المملكة المتحدة وألمانيا بشكل أوثق من أي وقت مضى للحفاظ على أمن بلدينا وأوروبا. معًا، نعزز حلف الناتو، ونقوّي دفاعاتنا السيبرانية، ونضمن أن قواتنا المسلحة قادرة على العمل جنبًا إلى جنب بسهولة من تسيير الدوريات فوق سماء اسكتلندا إلى تعقّب الغواصات الروسية في شمال الأطلسي. إن هذه الشراكة تشكّل حجر الزاوية في الأمن الأوروبي، إذ تُظهر وحدتنا وقوتنا أمام خصومنا، وتحافظ على أمننا في الداخل وقوتنا في الخارج”.
تستثمر ألمانيا بالفعل في المملكة المتحدة لبناء دبابات ومركبات مدرعة جديدة للجيش البريطاني. وأعلن بيستريوس أن بلاده ستشتري طوربيدات “ستينغ راي” البريطانية الصنع لطائراتها من طراز “بي-8”. ويشمل التعاون تطوير شبكة سحابية آمنة، وهي نظام رقمي يتيح تبادل المعلومات في الوقت الفعلي مع الحماية من الهجمات الإلكترونية. كما تعمل بريطانيا وألمانيا على تعزيز حماية شبكات النقل واللوجستيات الخاصة بالناتو من التهديدات السيبرانية.
المملكة المتحدة مستعدة لنشر قوات بريطانية في أوكرانيا
أشار وزير الدفاع الألماني إلى: ” إن هناك يوميًا دلائل على الحرب الهجينة التي تخوضها روسيا من الأخبار الزائفة، والتضليل الإعلامي، والهجمات السيبرانية، إلى التهديدات التي تستهدف البنية التحتية تحت البحر”.وأضاف: “حان الوقت لزيادة الوعي بما يحدث حولنا”. وأوضح وزير الدفاع البريطاني جون هيلي: “إن المملكة المتحدة مستعدة لنشر قوات بريطانية في أوكرانيا للمساعدة في تأمين اتفاق سلام مستقبلي في البلاد”. موضحًا: “السلام ممكن، وإذا تمكن الرئيس ترامب من التوصل إلى اتفاق سلام، فسنكون مستعدين للمساعدة في تأمين هذا السلام على المدى الطويل”. أكد وزير الدفاع البريطاني: “إن المملكة المتحدة خصصت بالفعل ملايين الجنيهات لهذا الغرض، وتحققت من مستويات الجاهزية لدى قواتها المسلحة لضمان أن تكون القوة متعددة الجنسيات لأوكرانيا مستعدة للانتشار بسرعة”. وأوضح: “أن نحو 200 مخطط عسكري من 30 دولة يشاركون في التحضيرات”.
النتائج
يعكس تصاعد النشاط الروسي في شمال الأطلسي وازدياد التهديدات تحت سطح البحر تحوّلًا استراتيجيًا في أولويات الأمن الأوروبي، إذ لم تعد الحرب في أوكرانيا وحدها محور المواجهة بين روسيا والغرب، بل امتدت إلى الفضاء البحري والسيبراني والهجين. تصريحات وزير الدفاع البريطاني جون هيلي بأن “نحن نصطاد غواصاتك” تعبّر عن تحول في لهجة لندن نحو “الردع النشط والمباشر”، في وقت باتت فيه الغواصات الروسية تشكل تهديدًا مزدوجًا للأمن المادي ولشبكات الاتصالات العابرة للمحيط، ما يرفع مستوى التوتر في مسرح الأطلسي إلى ما يشبه أجواء الحرب الباردة.
من الناحية المستقبلية، يتجه التعاون البريطاني–الألماني، الذي ترسّخ عبر “اتفاقية ترينيتي هاوس”، إلى أن يكون “نواة لمحور دفاعي أوروبي-أطلسي جديد” يربط بين القدرات البحرية التقليدية والتفوق في مجالات الذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني. هذا التحالف العملي يعكس إدراكًا أوروبيًا بأن مواجهة روسيا تتطلب تضافرًا في الأدوات العسكرية والتكنولوجية، لا سيما في ظل محدودية موارد بعض دول الناتو وغياب ضمانات أمريكية ثابتة في ظل التغيرات السياسية المحتملة في واشنطن.
على المدى القريب، يُتوقع أن يؤدي تزايد مراقبة الغواصات الروسية إلى “رفع وتيرة الاحتكاك الميداني” في شمال الأطلسي، خاصة مع احتمال قيام موسكو بتكثيف وجودها البحري واختبار خطوط الدفاع الغربية من خلال تحركات في المياه الاقتصادية الأوروبية أو قرب الكابلات البحرية. وسيكون الرد الأوروبي مزيجًا من “الردع المرن والرقابة المستمرة”. بما يشمل تطوير منصات غير مأهولة قادرة على العمل في الأعماق الكبيرة، إلى جانب تعزيز تبادل المعلومات الاستخباراتية في الزمن الحقيقي عبر الأنظمة السحابية الآمنة.
أما استراتيجياً، فإن نية لندن نشر قوات بريطانية مستقبلًا في أوكرانيا ضمن قوة متعددة الجنسيات تُظهر رغبة في استعادة الدور القيادي العالمي للمملكة المتحدة بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي، وتؤكد التزامها بترسيخ نفوذها الأمني في القارة الأوروبية. ومع ذلك، سيظل هذا التوجه محفوفًا بالمخاطر، إذ قد تعتبره موسكو استفزازًا مباشرًا وترد عليه بتصعيد غير متوقع في البحر أو الفضاء السيبراني.
في المحصلة، يُتوقع أن يشهد العقد القادم تزاوجًا بين الدفاع البحري التقليدي والحرب الهجينة، حيث تصبح حماية الكابلات والأنظمة السيبرانية جزءًا لا يتجزأ من عقيدة الأمن الجماعي الأوروبي. هذا يعني أن “اتفاقية ترينيتي هاوس” ليست مجرد مشروع ثنائي، بل نموذج لبنية دفاعية أوروبية متكاملة تعيد تعريف الردع في مواجهة روسيا، من أعماق الأطلسي إلى فضاء الإنترنت.
رابط مختصر.. https://www.europarabct.com/?p=110973
