خاص ـ المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات ـ ألمانيا وهولندا ECCI
مكافحة الإرهاب في ألمانياـ مٌعضلة “المقاتلين الأجانب” العائدين؟
شكّل تنظيم داعش أحد أخطر التهديدات الأمنية، فقد ظهر في بداياته كقوة عسكرية تسيطر بسرعة على أراضٍ واسعة في كل من العراق وسوريا. غير أنّ ذروة نفوذه لم تدم طويلًا؛ فبحلول عام 2019، كان التنظيم قد خسر جميع مناطقه تقريبًا بعد عمليات عسكرية متواصلة شاركت فيها قوى دولية عدة، وانتهت بمقتل زعيمه أبو بكر البغدادي في عملية نفذتها القوات الخاصة الأمريكية. لكن نهاية التنظيم جغرافيًا لم تعنِ نهاية تهديده؛ فالمقاتلون الأجانب، ومن بينهم مئات الأوروبيين، وجدوا أنفسهم أمام مصير مجهول، بعضهم عاد طوعًا إلى بلاده، وبعضهم سُلّم عبر قنوات دبلوماسية أو استخباراتية، بينما بقي آخرون في سجون ومخيمات تديرها القوات الكردية في شمال سوريا. وهنا بدأت معضلة جديدة تتجاوز الجانب العسكري إلى أبعاد قانونية وإنسانية وأمنية شديدة التعقيد.
عديد المقاتلين الأجانب الألمان داخل داعش؟
أعادت الحكومة المرأة الألمانية ليديا ج. وأطفالها الأربعة إلى بافاريا في أبريل 2025. ليديا ج. واحدة من عشرات الآلاف من الأجانب الذين قرروا الانضمام إلى “داعش” في سوريا والعراق عام 2014. في ذلك الوقت، استقطب داعش الشباب والشابات في ألمانيا، ثاني أكبر مجموعة من المسافرين الأوروبيين بعد فرنسا. منذ عام 2011، غادر ما لا يقل عن 1150 ألمانيًا إلى سوريا والعراق، معظمهم بهدف الانضمام إلى المنظمات الإرهابية. في الواقع، ووفقًا للحكومة الألمانية، فإن حوالي 65% من هؤلاء المسافرين دعموا أو حتى شاركوا في القتال إلى جانب داعش أو القاعدة أو الجماعات المتحالفة معهم. وكان حوالي 25% من المسافرين الألمان من النساء أو الفتيات.
دور المقاتلين الأجانب الألمان داخل داعش
بعد انضمامهم إلى “داعش”، دعم المسافرون الألمان التنظيم في أدوار مختلفة. بعد التسجيل، خضع الرجال عادةً لتدريب أساسي على القتال والفكر الجهادي. وحسب خبرتهم ودوافعهم، عملوا كمقاتلين أو حراس، أو دعموا إنتاج الدعاية الإرهابية، أو انضموا إلى الشرطة السرية. كان يُتوقع من النساء الألمانيات في المقام الأول الزواج بسرعة، وتربية أطفالهن وفقًا لأيديولوجية داعش، ورعاية المنزل. ومع ذلك، كانت بعض النساء أكثر نشاطًا، حيث شاركن، على سبيل المثال، في الدعاية أو في الكتائب النسائية. وتُتهم ليديا ج.، على وجه الخصوص، بتعلم استخدام الأسلحة النارية.
ماذا بعد انضمامهم لداعش، وماذا حدث لهؤلاء الألمان؟
بينما عاد بعضهم طواعيةً بعد إقامة قصيرة في منطقة الحرب، لقي آخرون حتفهم. قُتل ما لا يقل عن 270 شخصًا، بينهم 10 نساء على الأقل. وبينما لم يتمكن بعضهم من المغادرة لأسباب مختلفة، ظل الكثيرون موالين لفكر داعش حتى النهاية. بحلول عام 2025، كان حوالي 460 شخصًا، أي 40% من المسافرين الألمان الأصليين، قد عادوا، بينهم ما لا يقل عن 130 امرأة بالغة. عادت عدة نساء طوعًا قبل سقوط “داعش” عام 2019، لكن ألمانيا نفذت 8 مهمات إعادة، حيث أُعيد 84 قاصرًا و29 بالغًا (بينهم شاب واحد) من مخيمات الأكراد في شمال شرق سوريا. شملت المهمة الأولى عام 2019 أربعة أطفال، بينهم رضيع مريض وثلاثة أيتام. وشملت المهمات اللاحقة قاصرين برفقة أمهاتهم، باستثناء مارسيا م.، وهي شابة بدون أطفال، أُعيدت إلى وطنها لأسباب إنسانية. في أكتوبر 2022، أعادت ألمانيا بشكل استثنائي شابًا كان قاصرًا عندما أخذته والدته معها إلى سوريا.
ومع ذلك، فإن عمليات الإعادة إلى الوطن تتقدم ببطء؛ فبعد أكثر من ست سنوات من هزيمة داعش في عام 2019، لا يزال ما يقرب من 46,500 أجنبي وسوري يُشتبه في كونهم أعضاء في داعش وأقاربهم في نظام واسع من مراكز الاحتجاز والمخيمات في شمال شرق سوريا. ووفقًا للحكومة الألمانية، لا يزال “عدد متوسط مزدوج الرقم” من الألمان في المخيمات الكردية، ولا يزال 28 مواطنًا ألمانيًا “مرتبطين بالإرهاب الإسلاموي” محتجزين في سوريا. ولا يزال مصيرهم غير مؤكد، لا سيما بعد سقوط النظام السوري في ديسمبر 2024. وقد وافقت العديد من دول المنشأ على إعادة الأطفال الذين يُعتبرون ضحايا، ولكن بسبب التحديات الأمنية واللوجستية والدبلوماسية، وعلى الرغم من المخاوف الإنسانية والأمنية الخطيرة، فإن الإرادة السياسية لإعادة البالغين، وخاصة الرجال، غير موجودة.
في رسالة مفتوحة نُشرت في يونيو 2025، دعت مجموعة من أقارب الشباب الذين غادروا ألمانيا للانضمام إلى داعش في سوريا الحكومة الألمانية إلى تحمل مسؤوليتها تجاه مواطنيها ومشاركة المعلومات المتعلقة بصحة المعتقلين وبقائهم. ضمن المجموعة الألمانية، تأكدت حالتا وفاة أثناء الاحتجاز؛ الأول كادير ت.، كان يعاني من مشاكل صحية قبل دخوله مركز الاحتجاز الكردي، حيث توفي عام 2020. أما الوفاة الثانية المؤكدة فتتعلق بمحمد أ.، الذي توفي بمرض السل في أغسطس 2022. تبقى فئة أخيرة، إن أماكن تواجد نحو 370 رجلًا وامرأة على صلة بألمانيا غير معروفة للسلطات، ربما لا يزالون في سوريا أو العراق أو تركيا، أو ربما ماتوا.
ترحيب منسق في ألمانيا
عند وصولهم إلى ألمانيا، يُعتنى بالعائدين من قِبل نظام لامركزي حكومي وهيئات مجتمع مدني، يُنظمه “منسقو العودة” في بعض الولايات الفيدرالية. في حال وجود مذكرة توقيف، يُحتجز الرجال والنساء في الولاية التي غادروا منها وقتها. في هذه الحالة، يُفصل الأطفال عن أمهاتهم، ويُوضعون مع عائلاتهم الأصلية إن أمكن، وحسب حالتهم. وتتولى جهات حكومية أو مجتمع مدني مختلفة، حسب الولاية الفيدرالية، رعاية العائدين وأطفالهم ودعمهم في عملية فك الارتباط. ولكن أولًا، يجب على العائدين، مثل ليديا ج.، أن يُحاسبوا على أفعالهم أمام المحاكم الألمانية.
داعش يُخيم على المشهد الأمني في ألمانيا
أفاد تقرير لـ”WELT Nachrichtensender” في 29 سبتمبر 2025 أنه على الرغم من مرور أكثر من عقدٍ على ظهور تنظيم “داعش”، فإنّ ظلاله لا تزال تخيم على المشهد الأمني في أوروبا، ولا سيما في ألمانيا، التي تواجه ملفًّا بالغ التعقيد يتعلق بمواطنيها الذين انضموا إلى التنظيم في الماضي، ثم عادوا أو أُعيدوا إلى البلاد. وبينما تتمكّن السلطات من مراقبة بعضهم أو إدانتهم قضائيًا، تبقى مصائر آخرين غامضة تمامًا، في ظل محدودية المعلومات المتوفرة لدى وزارة الخارجية الألمانية حول ما حدث مع بقية هؤلاء الأفراد. تقدّر الأجهزة الأمنية الألمانية أن جزءًا من هؤلاء العائدين لا يزال يحمل في داخله الفكر المتطرف، أو على الأقل لم يتخلّص منه بالكامل، في حين يشكّل آخرون تحديًا مختلفًا من نوع آخر، إذ يعانون من اضطرابات نفسية عميقة ناتجة عن تجاربهم في الحرب أو عن الحياة في مناطق النزاع. ومن هنا تبرز صعوبة التنبؤ بسلوكهم أو تقدير مدى خطورتهم على المجتمع.
التعامل مع كل حالة من العائدين بشكلٍ فردي ودقيق
يحذر خبراء مكافحة الإرهاب في ألمانيا من خطرٍ متزايد قد ينشأ في حال نجاح تنظيم داعش في تنفيذ محاولاته المتكررة لاقتحام السجون أو تهريب عناصره منها، خاصة تلك الواقعة في المناطق الخاضعة لسيطرة القوات الكردية في سوريا. إذ إن تحرير عدد من المعتقلين هناك قد يعني ظهور مجموعة من الأفراد الأكثر تشددًا، بعدما مرّوا بتجارب خطيرة داخل السجون، قد تكون زادت من تطرفهم بدل أن تحدّ منه. والأسوأ من ذلك أن بعض هؤلاء يمتلكون جوازات سفر ألمانية، ما يتيح لهم دخول البلاد قانونيًا من دون عقبات كبيرة.
في مواجهة هذا الوضع، تجد السلطات الألمانية نفسها مضطرة إلى التعامل مع كل حالة من العائدين بشكلٍ فردي ودقيق. فليس كل من عاد يُعتبر خطرًا إرهابيًا بالضرورة، لكن جميعهم تقريبًا يندرجون ضمن فئة “الحالات شديدة الخطورة”. بعضهم عاد بمحض إرادته بعد أن خاب أمله من التنظيم أو بعد أن شهد سقوطه الميداني، وربما كان ذلك مؤشرًا، وإن غير مضمون، على وجود استعداد لديهم للتخلي عن الفكر المتطرف. في المقابل، هناك من أُعيد إلى ألمانيا قسرًا، سواء بعد اعتقاله في الخارج أو ترحيله من مناطق النزاع، وهؤلاء تحديدًا يُعدّون أكثر عرضة للعودة إلى الفكر المتطرف أو التطرف العنيف، نظرًا لشعورهم بالرفض أو فقدان الانتماء.
أجهزة الأمن في ألمانيا تواجه تحديًا مزدوجًا
تواجه الشرطة وأجهزة الأمن في ألمانيا تحديًا مزدوجًا؛ من جهة ضرورة منع أي تهديد محتمل قد يصدر عن هؤلاء الأفراد، ومن جهة أخرى وجوب احترام القوانين والدستور الذي يضمن حقوق المواطنين، حتى أولئك الذين كانوا في صفوف جماعات إرهابية. فالمراقبة المستمرة والتتبع الميداني يحتاجان إلى أوامر قضائية، كما أن محاكمتهم غالبًا ما تصطدم بصعوبات تتعلق بنقص الأدلة، خصوصًا أن الجرائم التي ارتكبوها وقعت في مناطق حرب يصعب فيها جمع الوثائق أو الشهادات الموثوقة. يشير بعض الخبراء إلى أن برامج إعادة التأهيل وإعادة الدمج قد تمثّل خيارًا واقعيًا وضروريًا في التعامل مع العائدين، خاصة أولئك الذين لم تثبت إدانتهم في قضايا عنف مباشرة. فالتجارب السابقة أظهرت أن المعالجة الأمنية وحدها لا تكفي، وأن الاستثمار في الدعم النفسي والاجتماعي والتعليم الديني المعتدل يمكن أن يقلّل من احتمالات العودة إلى التطرف.
لكن رغم هذه الجهود، تبقى المخاوف قائمة. فكل عائد يحمل في طياته قصة مختلفة، بعضها يحمل تهديدات ومخاطر في المستقبل. ومن الناحية النظرية، يمكن لأي فردٍ من هؤلاء أن يشكل تهديدًا محتملًا في لحظة ما، سواء بسبب دوافع انتقامية أو بسبب إعادة استقطابه من شبكات خفية عبر الإنترنت. وهذا ما يجعل الأجهزة الأمنية تتعامل مع الملف بدرجة عالية من الحذر، معتبرة أن “كل حالة هي حالة خاصة”.
الحكومة الألمانية تواجه انتقادات متكررة بسبب الإجراءات المتعلقة بملف العائدين
على الرغم من أن ألمانيا شهدت خلال السنوات الماضية عدة هجمات أعلن تنظيم داعش مسؤوليته عنها، إلا أن معظم هذه العمليات لم ينفذها العائدون من مناطق النزاع، بل من قبل أفراد تم تجنيدهم وتطرفهم داخل ألمانيا نفسها، عبر الشبكات الرقمية وغرف الدردشة السرية. وهذا يعني أن خطر الإرهاب لم يعد يأتي فقط من الخارج، بل يتغذى من الداخل، ما يضاعف تعقيد المشهد الأمني.
من جانب آخر، تواجه الحكومة الألمانية انتقادات متكررة بسبب بطء الإجراءات المتعلقة بملف العائدين، إذ يرى بعض المراقبين أن الغموض في السياسات الرسمية وعدم الشفافية في نشر المعلومات يزيد من مخاوف الرأي العام. فالمجتمع الألماني يتساءل: إلى أي مدى يمكن الوثوق بقدرة الدولة على مراقبة هؤلاء وضمان عدم عودتهم إلى التطرف؟ في المقابل، تدافع وزارة الخارجية والأجهزة الأمنية عن نهجها الحذر، مشيرة إلى أن التعامل مع هذا الملف يتطلب موازنة دقيقة بين الأمن وحقوق الإنسان، وبين واجب الدولة في الحماية وبين التزاماتها القانونية تجاه مواطنيها، حتى أولئك الذين انخرطوا في جماعات إرهابية في الخارج.
تبقى الحقيقة الواضحة أن ظاهرة العائدين من داعش تمثل اختبارًا مستمرًا لأوروبا كلها، وليس لألمانيا وحدها. فبينما تسعى الحكومات إلى حماية مجتمعاتها من خطر الإرهاب، تواجه في الوقت نفسه مسؤوليات أخلاقية وإنسانية تجاه أولئك الذين فقدوا طريقهم، وبينهم نساء وأطفال عاشوا في ظل تنظيم شديد الخطورة. إن التحدي الأكبر أمام ألمانيا لا يكمن فقط في مراقبة هؤلاء الأفراد، بل في فهم الأسباب التي دفعت بعض مواطنيها في الأصل إلى الانضمام لتنظيم متطرف في منطقة حرب بعيدة. فبدون معالجة الجذور الاجتماعية والفكرية والنفسية التي تغذي التطرف، ستظل المعالجة الأمنية مؤقتة وغير كافية.
بينما تواصل الحكومة الألمانية التنسيق مع شركائها الأوروبيين ومع الأمم المتحدة بشأن قضايا الإعادة والملاحقة القضائية، فإن هذا الملف يبقى مفتوحًا، يحمل في طياته احتمالات الخطر بقدر ما يحمل فرص الإصلاح. فكل خطوة تُتخذ اليوم ستحدد مدى قدرة الدولة في المستقبل على منع عودة دوامة التطرف من جديد، سواء بأسماء جديدة أو تحت شعارات مختلفة.
رابط مختصر.. https://www.europarabct.com/?p=110757
