المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات ECCI ـ وحدة الدراسات (27)
التطرف في أوروبا على الإنترنت، من يدير الخطاب المتطرف ولماذا؟
تشهد أوروبا في عام 2025 تحوّلًا جذريًا في طبيعة التهديدات المتطرفة على شبكة الإنترنت. لم تعد الظاهرة تقتصر على الجماعات التي تتبنى العنف المباشر أو تُمارسه، بل اتسع نطاقها ليشمل حركات أيديولوجية، وشبكات غير عنيفة تسهم في خلق بيئة فكرية تغذي الكراهية والانقسام. وقد ساهمت التطورات التقنية المتسارعة، خاصة في مجالات الذكاء الاصطناعي التوليدي، في تغيير معادلة الدعاية والتجنيد ونشر السرديات المتطرفة داخل القارة الأوروبية. وقد أسهمت الطفرات التقنية في مجالات الذكاء الاصطناعي، وتوليد الوسائط المتعددة (الفيديو والصوت والصورة)، في مضاعفة قدرة الفاعلين المتطرفين على إنتاج محتوى احترافي وجاذب، قادر على تجاوز الحواجز اللغوية والثقافية والوصول إلى شرائح شبابية ومهاجرة متباينة.
المشهد الراهن.. خريطة معقّدة ومتعددة الوجوه
تُظهر بيانات تقرير الإرهاب الأوروبي (TE-SAT 2025) الصادر عن اليوروبول أن التطرف العنيف في أوروبا بات يتخذ أشكالًا متباينة: بين التهديدات “الجهادية”، وتصاعد اليمين المتطرف، وعودة النزعات الانفصالية في بعض المناطق، وظهور ما يمكن تسميته بـ”التطرف الهوياتي” القائم على الدفاع عن القومية البيضاء أو رفض الهجرة. بالمقابل، يتطور أيضًا ما يمكن تسميته بـ”التطرف غير العنيف”، القائم على إنتاج بيئة فكرية مشحونة بالكراهية والتمييز وتغذية الانقسامات الاجتماعية، من دون التحريض المباشر على العنف. هذه البيئة تمثل حاضنة مثالية للانتقال من الفكر إلى الفعل.
اللافت أن كل نوع من هذه التيارات يعتمد على بيئات رقمية مختلفة: “الجهاديون” يفضلون القنوات المغلقة ومنصات التراسل المشفر مثل “تليغرام” و”سيغنال”، بينما ينشط اليمين المتطرف على شبكات مفتوحة مثل “X” (تويتر سابقًا) ومنتديات فرعية مثل “chan” و”8kun”، فضلًا عن قنوات الفيديو القصير مثل “تيك توك” و”ريلز” التي تسهّل الترويج السريع لمقاطع مشحونة. وتشير تقارير أمنية إلى أن العام 2025 شهد تصاعدًا في استخدام تقنيات الفيديو والصوت المولّدة بالذكاء الاصطناعي لنشر دعايات متطرفة تحاكي البرامج الإخبارية أو الحوارات السياسية، ما يصعّب تمييزها عن المحتوى الحقيقي، ويمنحها قدرًا أكبر من المصداقية في نظر المتلقين.محاربة التطرف ـ دور المجتمع المدني في الوقاية من التطرف العنيف
من يدير الخطاب المتطرف ؟
إدارة المحتوى المتطرف في الفضاء الرقمي الأوروبي لم تعد مقتصرة على تنظيمات كبيرة مثل “داعش” أو “القاعدة” أو الشبكات اليمينية المنظمة، بل اتسعت لتشمل أطرافًا متنوعة تتوزع أدوارها على مستويات مختلفة:
ـ الفاعلون العقائديون التقليديون: لا تزال التنظيمات “الجهادية” تسعى إلى الحفاظ على وجودها الرمزي عبر إعادة بثّ موادها القديمة بلغة محدثة وبأساليب ترويجية جديدة. في المقابل، تحاول مجموعات اليمين المتطرف الأوروبي تقديم نفسها كمدافع عن “الهوية الثقافية الأوروبية”، وتوظف قضايا الهجرة والإسلاموفوبيا كأدوات لتعبئة جماهيرية.
ـ شبكات التأثير المحلية والمجتمعية: وهي مجموعات صغيرة أفراد يعملون ضمن نطاق وطني أو محلي، يتخذون من القضايا الاجتماعية (الفقر، البطالة، أزمة الهوية) مدخلًا لتجنيد عناصر جديدة. وتُظهر تقارير المخابرات الألمانية والفرنسية تصاعد نشاط هذه الخلايا في الفضاءات الرقمية الصغيرة والمنصات المغلقة.
ـ الفاعلون المدعومون خارجيًا: بعض دوائر الاستخبارات الأوروبية رصدت محاولات أطراف خارجية استخدام السرديات المتطرفة لتأجيج الانقسام الداخلي داخل الاتحاد الأوروبي، سواء بدوافع سياسية أو جيوسياسية. الهدف الأساسي لجميع هذه الفواعل هو التحكم في الرواية، من يملك السرد يملك القدرة على التأثير في الإدراك الجمعي، وتغيير تعريف “العدو”، وخلق حالة من الاستقطاب تعيق المجتمعات عن التوافق.
كيف يستخدم المتطرفون الإنترنت والذكاء الاصطناعي لصالحهم؟
- التجنيد الرقمي الموجّه
تستخدم الجماعات المتطرفة بيانات المستخدمين ومجموعات الاهتمام لتحليل سلوكهم عبر أدوات تحليل مفتوحة، وتستغل خوارزميات التوصية لاستهداف الأفراد ذوي الهشاشة النفسية أو العزلة الاجتماعية. وتُظهر دراسة لمركز (ICCT) الهولندي أن المحتوى المتطرف الموجّه عبر الفيديوهات القصيرة حقق نسب تفاعل تتجاوز 200% مقارنة بالمحتوى النصي التقليدي. يتم إنشاء حسابات زائفة متعددة (Sockpuppets) لتكوين دائرة ثقة مع الأهداف المحتملة، قبل الانتقال بهم إلى غرف مغلقة أو قنوات خاصة يتم فيها ضخّ المحتوى الأيديولوجي المكثّف. - التوليد الآلي للمحتوى
نماذج اللغة الكبيرة (LLMs) أصبحت أداة رئيسية لإنتاج نصوص وخطب دعائية وصياغة منشورات ومناظرات وهمية. تقارير استخباراتية بريطانية حديثة حذّرت من استخدام نماذج مفتوحة المصدر لتوليد منشورات متطرفة بلغات محلية (الفرنسية، الألمانية، البولندية)، ما يقلل الحاجة إلى كتاب محترفين داخل التنظيمات. هذه الأدوات تُستخدم أيضًا في الردود التفاعلية على المنتقدين، وفي التلاعب بالحوار داخل المنتديات لتوجيه النقاشات نحو أهداف محددة، ما يشكل نوعًا جديدًا من “التلقين غير المباشر”. - إنتاج وسائط متعددة (فيديو وصوت وصور)
يستخدم المتطرفون برامج (text-to-video وdeepfake) لإنتاج مقاطع تُظهر “قادة” يتحدثون بلغات مختلفة أو يعقدون اجتماعات وهمية. وقد رصدت الوكالة الأوروبية للأمن السيبراني (ENISA) في تقريرها لعام 2025 أكثر من 2500 مقطع دعائي تم إنتاجه باستخدام تقنيات التزييف العميق ونُشر على الإنترنت خلال عام واحد فقط. كما أصبحت المقاطع الصوتية المولدة آليًا وسيلة فعالة في نشر الخطب الدعائية بلغات متعددة، دون الحاجة إلى متحدثين حقيقيين. - أتمتة التواصل والتجنيد
تشير دراسات صادرة عن المنتدى العالمي لمكافحة الإرهاب (GIFCT) إلى تصاعد استخدام برامج الدردشة الآلية (Chatbots) من قبل جماعات متطرفة تعمل على مواقع الألعاب والشبكات الاجتماعية. تقوم هذه البرمجيات بتقديم “إجابات دينية أو سياسية” للمستخدمين، ثم توجيههم تدريجيًا إلى مواقع ومنتديات أكثر تطرفًا. - التمويل الرقمي وإخفاء الهوية
التمويل عبر العملات المشفرة (مثل بيتكوين ومونيرو) أصبح وسيلة مفضلة لتمويل الأنشطة الرقمية من دون رقابة مصرفية. وقد حذرت وحدة مكافحة غسل الأموال الأوروبية (AMLD) من استخدام منصات التمويل الجماعي المشبوهة لدعم حملات إعلامية متطرفة تحت ستار “التبرع للقضايا الإنسانية”.
إضافة إلى ذلك، تستخدم الجماعات الشبكات الخاصة الافتراضية (VPN) وتطبيقات التشفير ونظام “تور” لإخفاء الهوية، وتجنب تتبع أنشطتها.
أمثلة وحالات واقعية
- فرنسا: كشفت وزارة الداخلية الفرنسية في منتصف 2025 عن شبكة يمينية استخدمت روبوتات مدعومة بالذكاء الاصطناعي لإنتاج أكثر من 10 آلاف منشور مزيف حول قضايا الهجرة والأمن، بهدف التحريض على أعمال عنف.
- ألمانيا: تقارير جهاز الاستخبارات الداخلي (BfV) أكدت أن جماعات “جهادية” أعادت نشر مقاطع دعائية قديمة باستخدام مؤثرات صوتية جديدة، لجذب جيل جديد من المتابعين عبر “تيك توك”.
- إسبانيا: أغلقت السلطات أكثر من 300 حساب على منصات التواصل كانت تنشر مواد دعائية بتقنية “الترجمة الآلية” بلغات إسبانية ولهجات مغاربية لاستهداف أبناء الجاليات المسلمة.
- هذه الأمثلة تشير إلى أن التطرف الرقمي لم يعد مقصورًا على الأيديولوجيا “الجهادية”، بل أصبح سلاحًا مشتركًا بين أطراف أيديولوجية متعددة، تتنافس جميعها على “قيادة السرد”.محاربة التطرف ـ أهمية التعاون الأوروبي مع الصندوق العالمي للمشاركة المجتمعية
ما التداعيات الأمنية والاجتماعية؟
أدى صعود المحتوى المولَّد بالذكاء الاصطناعي إلى إرباك عمليات الرصد والاستخبارات، حيث أصبح من الصعب التحقق من هوية المنتجين الحقيقيين للمحتوى، نتيجة لسهولة إنتاج مواد مزيفة يصعب تمييزها عن الأصلية. كما ازدادت حالات التجنيد الفردي عبر الإنترنت دون وجود ارتباط تنظيمي مباشر، وهو ما يُعرف بظاهرة “الذئاب المنفردة الرقمية”، التي تمثل تحديًا أمنيًا متناميًا بسبب قدرتها على العمل المستقل خارج نطاق الرصد التقليدي. ساهم تضخم السرديات المتطرفة في زيادة انعدام الثقة بين المكونات الاجتماعية الأوروبية، وأدى إلى تغذية الخطاب الشعبوي الذي يستثمر في المخاوف والهويات المتصارعة. كما أسهم في خلق فجوة متزايدة بين المواطن والمؤسسات الرسمية، وهو ما انعكس سلبًا على تماسك النسيج الاجتماعي الأوروبي، وأضعف الثقة العامة في الخطاب السياسي والإعلامي الرسمي.
واجهت وسائل الإعلام التقليدية صعوبة كبيرة في مواكبة سرعة انتشار الأخبار الزائفة والمحتوى التحريضي المنتشر عبر المنصات الرقمية. هذا التحدي أضعف قدرة الصحافة المهنية على تصحيح السرديات الزائفة في الوقت المناسب، وأتاح للمحتوى المضلل مساحة أوسع للتأثير في الرأي العام، مما زاد من حالة الارتباك المعلوماتي داخل المجتمعات الأوروبية.
جهود أوروبية
رغم التحديات التقنية والتنظيمية المعقدة، اتخذ الاتحاد الأوروبي في السنوات الأخيرة عدة خطوات استراتيجية لمواجهة الظاهرة. فقد أقر قانون الخدمات الرقمية (DSA) الذي فرض على المنصات الكبرى مسؤولية قانونية لإزالة المحتوى المتطرف خلال ساعة واحدة فقط من التبليغ، وهو ما يمثل تحولًا في مقاربة الرقابة الرقمية. كما تم إنشاء وحدات متخصصة داخل وكالة يوروبول لرصد التطرف عبر الإنترنت، تعمل بالتنسيق مع شركات التكنولوجيا الكبرى لتتبع المحتوى المشبوه وتحليل شبكات النشر.
إلى جانب ذلك، تم تطوير أدوات ذكاء اصطناعي مضادة لاكتشاف الوسائط المزيفة وتحليل الأنماط السلوكية للحسابات المشبوهة، مما يساعد على كشف المحتوى غير الحقيقي والحد من انتشاره. كما أطلق الاتحاد برامج توعية رقمية في المدارس والجامعات لتعزيز ما يسمى “محو الأمية الإعلامية”، وتشجيع التفكير النقدي في التعامل مع المعلومات المتداولة عبر الإنترنت.
ورغم هذه الجهود، لا تزال فجوة التنسيق بين المؤسسات الأوروبية والدول الأعضاء قائمة، خصوصًا فيما يتعلق بتبادل البيانات العابرة للحدود وتوحيد بروتوكولات التحليل الفني، وهو ما يعوق بناء منظومة استجابة موحدة على المستوى الأوروبي.
التوصيات
يتطلب تعزيز المواجهة الأوروبية لمخاطر المحتوى المتطرف والمضلل تطوير القدرات التحليلية في مجال الذكاء الاصطناعي التوليدي من خلال إنشاء مركز أوروبي مختص برصد استغلال التقنية في الدعاية المتطرفة. كما يجب فرض شفافية إلزامية على المنصات الرقمية فيما يتعلق بالمحتوى المولّد آليًا، مع وضع نظام تصنيف واضح يميّز بين المحتوى البشري والآلي.
وينبغي تعزيز التعاون بين القطاعين العام والخاص عبر شراكات أمنية ومعرفية لتبادل البيانات والتقنيات الخاصة بالكشف المبكر عن التهديدات الرقمية. كما يجب مراقبة مصادر التمويل الرقمي المرتبطة بالمحتوى المتطرف، خصوصًا في بيئة العملات المشفرة ومنصات التمويل الجماعي، للحد من تمويل الدعاية المتطرفة عبر القنوات الرقمية.وفي الجانب المجتمعي، من الضروري توسيع برامج الوقاية المجتمعية ودعم المحتوى الإيجابي البديل الموجّه إلى الشباب والمهاجرين بلغاتهم الأصلية، بما يعزز المناعة الفكرية ضد التطرف الرقمي. وأخيرًا، يُوصى بتطوير تشريعات أوروبية جديدة تنظم استخدام الذكاء الاصطناعي في المجالين الأمني والإعلامي، مع ضمان عدم المساس بحرية التعبير، ووضع آليات مساءلة واضحة لكل من يخالف تلك التشريعات.
تقييم وقراءة مستقبلية
– التطرف الرقمي في أوروبا أصبح متعدد الأوجه ويشمل “الجهاديين”، اليمين المتطرف، الانفصاليين، والتيارات الهوياتية الأخرى. كل تيار يستخدم منصات مختلفة بين الشبكات الاجتماعية الكبيرة، تطبيقات التراسل المشفر، ومنصات الفيديو القصيرة. التقييم المستقبلي يشير إلى استمرار تعقيد المشهد وصعوبة الرقابة الموحدة، ما يتطلب تطوير أدوات كشف متخصصة لكل بيئة رقمية لضمان رصد فعّال.
– استخدام الفيديوهات والصوت المولّد بالذكاء الاصطناعي أصبح الوسيلة الأساسية لجذب الشباب وتحقيق التفاعل العاطفي. مستقبلًا، سيزداد الاعتماد على تقنيات الذكاء الاصطناعي لإنتاج محتوى متعدد اللغات، deepfakes، ودردشة آلية ذكية لتجنيد الأفراد، مما يستلزم تطوير أدوات تحليل ومضاد للذكاء الاصطناعي لمواجهة هذه الظاهرة.
– التنظيمات التقليدية والشبكات المحلية والداعمة خارجيًا تعمل جميعها على إدارة السرد لتوجيه الانتباه والوعي الجمعي. القراءة المستقبلية تشير إلى زيادة الحملات الرقمية متعددة الطبقات لتعميق الانقسام المجتمعي، وتوظيف استراتيجيات نفسية متطورة تستهدف الشرائح الأكثر هشاشة.
– التمويل عبر العملات المشفرة ومنصات التمويل الجماعي المشبوهة، مع استخدام VPN وتطبيقات التشفير، أصبح جزءًا من استراتيجية البقاء الرقمي للمتطرفين. مستقبلًا، ستظهر شبكات تمويل أكثر تعقيدًا لا يمكن تتبعها بسهولة، ما يفرض تعزيز الرقابة المالية الرقمية الأوروبية.
– التطرف الرقمي يخلق فجوة بين المواطنين والمؤسسات ويزيد الاستقطاب، كما يصعّب على الصحافة التقليدية مواجهة الأخبار المزيفة. المستقبل يتطلب تطوير برامج توعية ومحو الأمية الإعلامية، أنظمة كشف ذكية، وتعزيز المحتوى الرقمي الإيجابي البديل الموجه للشباب والمهاجرين، لضمان الحد من تأثير السرديات المتطرفة على المدى المتوسط والبعيد.
*حقوق النشر محفوظة إلى المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات
رابط مختصر.https://www.europarabct.com/?p=111068
هوامش
European Union Terrorism Situation and Trend report 2025 (EU TE-SAT)
Strengthening online platforms’ responsibility
Artificial Intelligence: Threats, Opportunities, and Policy Frameworks for Countering VNSAs
The Weaponisation of Deepfakes Digital Deception by the Far-Right
