خاص ـ المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات ـ ألمانيا وهولندا ECCI
التجسس ـ كيف دفعت أزمة الثقة عبر الأطلسي أوروبا إلى التعاون بشكل أفضل؟
تتجاوز وكالات الاستخبارات في أوروبا عقودًا من انعدام الثقة، وتبدأ في بناء عملية استخباراتية مشتركة لمواجهة التهديد الروسي وهي خطوة تسارعت بسبب تقلب الدعم الأمريكي لحلفائه التقليديين. خلال العام 2024، أرسلت العديد من العواصم الأوروبية مسؤولين استخباريين إلى مكاتب تمثيلها في بروكسل، وبدأت وحدة الاستخبارات التابعة للاتحاد الأوروبي في تقديم إحاطات للمسؤولين رفيعي المستوى، كما يدرس التكتل فكرة إنشاء جهاز استخباراتي قوي على غرار وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية وهو أمر كان يُعد سابقًا غير وارد. وتسارعت وتيرة التعاون الاستخباراتي الأوروبي بعد أن أوقفت إدارة ترامب فجأة مشاركة المعلومات الاستخباراتية الميدانية مع كييف في مارس 2025.
أجهزة الاستخبارات الأوروبية تعيد النظر في كيفية تبادلها للمعلومات
يقول أحد المسؤولين الاستخباريين الغربيين، الذي طلب عدم الكشف عن هويته، إن “دونالد ترامب يستحق جائزة نوبل للسلام لأنه جمع أجهزة الاستخبارات الأوروبية معًا”. تحدثت صحيفة بوليتيكو مع 7 مسؤولين في مجالي الاستخبارات والأمن وصفوا كيف دفعت أزمة الثقة عبر الأطلسي وكالات التجسس الأوروبية إلى التحرك بشكل أسرع وأقرب من أي وقت مضى. وتعيد أجهزة الاستخبارات الأوروبية النظر في كيفية تبادلها للمعلومات مع نظرائها الأمريكيين. فقد أعلنت أجهزة الاستخبارات العسكرية والمدنية الهولندية أنها توقفت عن مشاركة بعض المعلومات مع الولايات المتحدة بسبب “التدخل السياسي ومخاوف تتعلق بحقوق الإنسان”.
يخشى المسؤولون من أن تصبح المنتديات عبر الأطلسي، بما فيها حلف شمال الأطلسي (الناتو)، أقل موثوقية في تبادل المعلومات. يقول أنطونيو ميسيرولي، الأمين العام المساعد السابق لتحديات الأمن الناشئة في الناتو” “إن هناك شعورًا بأن التزام الولايات المتحدة بمشاركة المعلومات الاستخباراتية قد يتراجع”. ولا تزال أجهزة الأمن الأوروبية تتغلب على مشكلات الثقة القديمة. فقد كشفت تقارير أن مسؤولين من الاستخبارات المجرية متنكرين في هيئة دبلوماسيين حاولوا التسلل إلى مؤسسات الاتحاد الأوروبي، ما يدل على استمرار مراقبة الحكومات لبعضها البعض. وللتعامل مع هذه المشكلات، تدفع بعض أجهزة الاستخبارات الرائدة نحو إنشاء مجموعات من الدول الموثوقة بدلًا من الاعتماد الكامل على مؤسسات بروكسل.
الاتحاد الأوروبي يواجه صعوبة في تبادل المعلومات الاستخباراتية
على عكس تحالف “العيون الخمس” (Five Eyes) الوثيق، واجهت دول الاتحاد الأوروبي صعوبة في إقامة شراكات قوية لتبادل المعلومات الاستخباراتية. إذ تظل الأمن القومي من صلاحيات العواصم الوطنية، بينما تلعب بروكسل دورًا تنسيقيًا فقط. إحدى وسائل التواصل التقليدية بين أجهزة الاستخبارات الأوروبية هي شبكة سرية تُعرف باسم “نادي برن”، الذي أُنشئ قبل نحو 50 عامًا في المدينة السويسرية التي يحمل اسمها. ليس للنادي مقر دائم ولا أمانة عامة، ويجتمع مرتين في السنة فقط.
أصبحت اجتماعات النادي خلال العقد الأخير تتزامن تقريبًا مع رئاسة مجلس الاتحاد الأوروبي الدورية، لكنه لا يعكس بالضرورة تركيبة الاتحاد. فمالطا لم تنضم أبدًا، وبلغاريا انضمت حديثًا، بينما تم تعليق عضوية النمسا لفترة بسبب تساهلها مع موسكو قبل أن تُعاد في عام 2022. كما يضم دولًا غير أعضاء في الاتحاد مثل سويسرا والنرويج والمملكة المتحدة. يقول فيليب ديفيز، مدير مركز برونيل للدراسات الاستخباراتية والأمنية في لندن: “النادي هو بنية لتبادل المعلومات أشبه بيوروبول، لكنه محدود نوعًا ما، والمعلومات التي يتم تبادلها عادة ليست حساسة للغاية لأنها لا تمر عبر أنظمة مؤمنة بالكامل”.
كانت الدول الكبرى في الاتحاد الأوروبي مثل فرنسا وهولندا وألمانيا، و”المملكة المتحدة قبل خروجها من الاتحاد الأوروبي” ترى أن تبادل المعلومات الحساسة مع جميع الدول الأعضاء ينطوي على مخاطر، خوفًا من وقوعها في الأيدي الخطأ. وكان يُعتقد أن أجهزة الاستخبارات في بعض دول أوروبا الشرقية، مثل بلغاريا، مخترقة من قبل عملاء روس، رغم أن مسؤولًا بلغاريًا أكد أن “العهد القديم” قد انتهى. وفر النادي شكلًا من التعاون، فإنه أبقى مسؤولي الاتحاد الأوروبي في بروكسل إلى حدٍّ كبير خارج الصورة. وكما أوضح ديفيز: “المشكلة في الحديث عن تبادل استخباراتي أوروبي هي أنه ليس هو نفسه تبادل استخباراتي تابع للاتحاد الأوروبي”.
الدعوة إلى دور أوروبي موحد
دفعت التحولات الجيوسياسية الأخيرة الاتحاد الأوروبي إلى إعادة التفكير في مقاربته. ففي تقرير أعده الرئيس الفنلندي السابق ساولي نينستو بطلب من رئيسة المفوضية أورسولا فون دير لاين، دعا إلى إنشاء وكالة استخبارات أوروبية على غرار الـCIA تكون منسقة من بروكسل. اقترح نينستو تأسيس “خدمة تعاون استخباراتي متكاملة على مستوى الاتحاد الأوروبي لتلبية الاحتياجات الاستراتيجية والعملياتية”، بالإضافة إلى إنشاء “شبكة لمكافحة التخريب” لحماية البنية التحتية الحيوية. وإذا كان ثمة ما يمكن وصفه بجهاز استخبارات أوروبي، فهو مركز الاستخبارات والتحليل التابع لخدمة العمل الخارجي الأوروبية (INTCEN). هذا المركز يعتمد على مساهمات تطوعية من الدول الأعضاء ويستقبل ضباط استخبارات من الأجهزة الوطنية في مهام مؤقتة لبناء روابط عمل مشتركة.
تولى رئيس الاستخبارات الكرواتية دانييل ماركيتش قيادة المركز في سبتمبر 2024 بهدف تعزيز تبادل المعلومات وإيصال التحليلات مباشرة إلى قيادات الاتحاد مثل فون دير لاين ورئيسة الدبلوماسية الأوروبية كايا كالاس. بالاشتراك مع نظيره العسكري مديرية الاستخبارات في هيئة الأركان العسكرية للاتحاد الأوروبي يشكل المركزان ما يُعرف بـ”القدرة الموحدة لتحليل الاستخبارات” (SIAC)، التي تعد تحليلات استخباراتية مشتركة لصانعي القرار الأوروبيين. وفي أبريل 2025، عقدت SIAC اجتماعها السنوي في بروكسل بحضور كبار المسؤولين، بمن فيهم كالاس، حيث أكد قادة الاستخبارات على ضرورة بناء قدرات استخباراتية أوروبية مستقلة. لكن بعضهم حذر من أن الإفراط في التركيز على الاستقلال قد يضعف الروابط مع الولايات المتحدة، مما قد يخلق فجوات جديدة.
قضية الثقة
تتقدم بروكسل ببطء لبناء مجتمع استخباراتي خاص بها. فقد أصبح لدى معظم بعثات الدول الأعضاء في بروكسل ضباط ارتباط استخباريين. كما بدأت الأجهزة الأمنية البلجيكية، المكلفة بمراقبة النشاطات التجسسية حول مؤسسات الاتحاد، في إطلاع أعضاء البرلمان الأوروبي على أساليب الابتزاز والتجنيد التي تستخدمها قوى أجنبية. أكد مصدر استخباراتي أوروبي إن التعاون بين الدول الأعضاء “في أفضل حالاته في التاريخ الحديث”، لكنه أكد أن كل جهاز لا يزال يعمل أولًا وأساسًا لمصلحة حكومته الوطنية. وهو ما يشكل العقبة الكبرى. أوضح روبرت غورليك، الرئيس السابق لبعثة الـCIA في إيطاليا: “إن السبب في استحالة وجود جهاز استخبارات أوروبي موحد هو التنوع الكبير في أساليب عمل الأجهزة الوطنية”، مضيفًا: “هناك عدد كبير جدًا من الدول 27 دولة مما يجعل الثقة الكاملة في تبادل المعلومات أمرًا صعبًا للغاية”.
اتجهت بعض الدول إلى تشكيل مجموعات صغيرة مؤقتة. فبعد توقف الولايات المتحدة عن مشاركة المعلومات مع أوكرانيا في مارس 2025، عقد تحالف “الراغبين” بقيادة فرنسا والمملكة المتحدة اجتماعًا في باريس واتفق على توسيع نطاق وصول كييف إلى المعلومات الأوروبية، بما في ذلك بيانات المراقبة والأقمار الصناعية”. تسعى هولندا إلى تعزيز تعاونها مع المملكة المتحدة وبولندا وفرنسا وألمانيا والدول الإسكندنافية، بما في ذلك تبادل البيانات الخام، حيث يؤكد رئيس جهاز الاستخبارات الهولندي إريك آكيربوم: “لقد توسع التعاون بشكل هائل”.
لا يزال الطريق طويلًا أمام بناء الثقة الكافية بين الدول الـ27 ذات الأولويات الوطنية المختلفة. ففي أكتوبر 2025، كُشف أن عناصر من الاستخبارات المجرية حاولوا التسلل إلى مؤسسات الاتحاد الأوروبي عندما كان أوليفر فارهَي، المفوض الأوروبي الحالي، سفيرًا للمجر لدى الاتحاد، وذلك لتعيين موالين لحكومة أوربان في مناصب حساسة. يوضح نينستو قائلًا: “إن إنشاء وكالة استخبارات أوروبية متكاملة ما زال مسألة مستقبلية”، مضيفًا: “كل ما يتعلق بالجاهزية الأمنية يعتمد على الثقة ومن دونها، لا يمكن تحقيق التعاون الحقيقي”.
رابط مختصر… https://www.europarabct.com/?p=111033
