خاص ـ المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات ـ ألمانيا وهولندا ECCI
الاستخبارات ـ إلى أي مدى تهدد سياسات ترامب تماسك التعاون عبر الأطلسي؟
أدت سياسة الإدارة الأمريكية الخارجية المتقلبة في عهد دونالد ترامب إلى زعزعة ثقة أوروبا في التعاون الاستخباراتي مع واشنطن. أجرى مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، جون راتكليف، زيارة غير معلنة إلى بروكسل، حيث التقى كبار المسؤولين في الاتحاد الأوروبي في مجالي الخارجية والاستخبارات، لإيصال رسالة واضحة وإن كانت غير مباشرة: “ما زلتم تستطيعون الوثوق بنا”. التقى راتكليف كبير دبلوماسيي الاتحاد الأوروبي كايا كالاس، بالإضافة إلى مسؤولين رفيعي المستوى من مركز استخبارات الاتحاد الأوروبي وإدارة استخبارات هيئة الأركان العسكرية للاتحاد الأوروبي. وذكر مسؤولان أن الهدف من الزيارة كان تهدئة المخاوف وتجديد التزام واشنطن بتقاسم المعلومات الاستخباراتية، في وقتٍ بدأت فيه بعض العواصم الأوروبية تشعر بعدم الارتياح تجاه توجهات السياسة الخارجية الأمريكية في عهد الرئيس دونالد ترامب.
CIA ترغب في الإبقاء على قنوات التواصل مفتوحة
أدت التحولات المفاجئة في سياسات إدارة ترامب بشأن أوكرانيا، مثل التوقف المفاجئ عن مشاركة المعلومات الاستخباراتية الميدانية مع كييف في مارس 2025، إضافةً إلى سعيها لتسييس أجهزة الاستخبارات عبر تعيين شخصيات موالية لترامب، إلى تقويض ثقة الأوروبيين في موثوقية واشنطن. راتكليف، وهو نائب جمهوري سابق من تكساس، اكتسب سمعته كأحد أبرز المدافعين عن ترامب في الكونغرس، خصوصًا خلال إجراءات العزل الأولى، عندما استغل موقعه في لجنة الاستخبارات بمجلس النواب لمهاجمة التحقيقات. وبحسب أحد الدبلوماسيين، فإن الهدف الرسمي لزيارة راتكليف إلى بروكسل كان تقديم إحاطة لمجلس شمال الأطلسي، وهو الهيئة السياسية لاتخاذ القرار داخل الناتو. لكن اجتماعه الجانبي مع ذراع السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، أي خدمة العمل الخارجي الأوروبي (EEAS)، أرسل إشارة واضحة: وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية ترغب في الإبقاء على قنوات التواصل مفتوحة.
بناء منظومة استخباراتية أوروبية مشتركة لمواجهة التهديد الروسي
من المتوقع ألا تكون هذه اللقاءات لمرة واحدة، إذ أكد مسؤول: “ينبغي أن تصبح منتظمة من الآن فصاعدًا”. كما ناقش راتكليف ونظراؤه الأوروبيون التحديات المشتركة، بما في ذلك روسيا والصين والشرق الأوسط. أكدت المتحدثة باسم وكالة الاستخبارات المركزية، ليز ليون، أن “راتكليف التقى المسؤولين الأوروبيين لمناقشة التهديدات المتزايدة التي تمثلها روسيا والصين على الأمن عبر الأطلسي، إضافةً إلى استراتيجيات التعاون لمواجهتها”. وتابعت: “أي تقارير تشير إلى أن هناك قلقًا من أن الولايات المتحدة لم تعد شريكًا موثوقًا هي تقارير خاطئة ومنفصلة عن الواقع”. تأتي هذه التحركات الدبلوماسية في لحظة حساسة، إذ تعمل الأجهزة الأوروبية على تجاوز عقودٍ من انعدام الثقة لبناء منظومة استخباراتية أوروبية مشتركة لمواجهة التهديد الروسي، بينما تعيد تقييم ترتيباتها لتبادل المعلومات مع الولايات المتحدة. وكانت أجهزة الاستخبارات المدنية والعسكرية الهولندية قد أعلنت خلال العام 2025 أنها أوقفت بعض عمليات تبادل المعلومات، مشيرةً إلى مخاوف تتعلق بالتدخل السياسي وقضايا حقوق الإنسان.
سيناريوهات كانت تبدو في السابق غير قابلة للتصوّر
في مختلف أنحاء أوروبا، يفكر مسؤولو الأمن في سيناريوهات كانت تبدو في السابق غير قابلة للتصوّر: قطع الاتصال بالمخابرات الأمريكية من قبل إدارةٍ تسعى إلى معاقبة الحلفاء أو الضغط عليهم، وتقليص جمع المعلومات الاستخباراتية عن روسيا في عهد رئيسٍ أمريكي لديه تاريخ من الانحياز إلى الكرملين، وتفكك علاقات التجسس التي بُنيت على مدى سنوات بسبب عمليات التطهير التي طالت ضباط الاستخبارات الأمريكية والمحللين المتهمين بعدم الولاء الكافي للرئيس. أعرب مسؤولون أوروبيون كبار، عن قلقهم إزاء سيل الهجمات التي تشنها وكالات روسية، في وقتٍ يبدو فيه تدفق التنبيهات الاستخباراتية الأمريكية أقل يقينًا. ومن بين هؤلاء المسؤولين، مسؤولون أمنيون كبار في دول البلطيق ودول الشمال الأوروبي وشرق أوروبا، واجهوا هجمات حرقٍ متعمّد، ومؤامرات اغتيال، وعمليات تخريب تُنسب إلى وكلاء روس.
أوضح مسؤولٌ بريطاني كبير سابق عمل عن كثب مع وكالات التجسس الأمريكية: “لا تزال أمريكا القوة الأمنية العظمى العالمية، بقدراتٍ استخباراتية تفوق أي دولةٍ أخرى مجتمعة”. وأضاف: “أن المخاوف في أوروبا حقيقية، لأن أمريكا قررت طواعيةً أن تُغرق وكالاتها الأمنية في أزمة”. يقول مسؤولون أمريكيون إن المخاوف الأوروبية لا أساس لها. وصرّح متحدثٌ باسم وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (CIA) بأن الوكالة “تأخذ شراكاتها الاستخباراتية الدولية على محمل الجد، وتعمل تحت قيادة المدير جون راتكليف على تعميقها بنشاطٍ لتعزيز الأمن القومي الأمريكي، ومواجهة الخصوم حول العالم، وتعزيز الاستقرار الدولي”.
التعاون الأوروبي الشامل الحقيقي لا يزال غير واقعي
أكد مسؤولٌ كبير في جهاز استخبارات إحدى دول البلطيق: “يحاول الجميع التفكير في احتمالات الطوارئ”. وأضاف: “أنه حتى في حال عدم صدور توجيهٍ رسمي من البيت الأبيض بتقليص التعاون، هناك مخاوف من أن تؤدي عمليات التشتيت والانسحاب إلى اختفاء التحذيرات والنصائح التي اعتادت الأجهزة الأوروبية توقّعها”. وفي اجتماعٍ لرؤساء أجهزة الاستخبارات الأوروبية عُقد في أبريل 2025 في بروكسل، ناقش المسؤولون خياراتٍ هزيلة في الغالب لإدارة الشراكة مع الولايات المتحدة، وفقًا للمشاركين. يقول دبلوماسيٌّ أوروبي: “هناك توتر هناك”. وأضاف: “أن تقلبات إدارة ترامب تجعل من الصعب رسم مسارٍ واضح، ولكن بالنظر إلى المصالح المشتركة والقدرات الأمريكية التي لا مثيل لها، لا خيار أمامنا سوى مواصلة التعاون”. فرنسا، التي تجعلها قدراتها الاستخباراتية الهائلة أقل اعتمادًا على الولايات المتحدة من غيرها، دأبت لسنواتٍ على حثّ حلفائها على تعزيز قدراتهم وتعميق التعاون القاري. لكن مسؤولين قالوا إن التعاون الأوروبي الشامل الحقيقي لا يزال غير واقعي، نظرًا لتفاوت الموارد، وعوائق تبادل البيانات، والمخاوف بشأن التوجهات الموالية لروسيا لدى بعض الدول الأعضاء، بما فيها المجر.
إذا حاولت أوروبا استبدال مساهمة الولايات المتحدة الاستخباراتية في أوكرانيا، فسيتطلب ذلك زيادة كبيرة في التمويل من المملكة المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي. والأهم من ذلك، سيتطلب تركيزًا قويًا على التنسيق، وتجاوز بعض القيود القانونية الأوروبية على تبادل المعلومات الاستخباراتية. هذه جوانب تتطلب ثقةً وإرادةً سياسيةً أكبر مما أظهره الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة. تتمتع المملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا بقوةٍ في مجال الاتصالات الميدانية والاستخبارات الإلكترونية. تُشغّل المملكة المتحدة طائرة الاستخبارات الأمريكية RC-135 Rivet Joint لاعتراض الاتصالات العسكرية الروسية ومخرجات الرادار من المجال الجوي الدولي. وتُدير فرنسا برنامجها للاعتراض عبر الأقمار الصناعية CERES، بينما تعترض ألمانيا الاتصالات الروسية بشكلٍ روتيني. كما تُحافظ دولٌ أوروبية أخرى، أقل كفاءة وتقع على حدود روسيا، على برامج اعتراضٍ خاصة بها.
عندما طرح كونستانتين فون نوتز، رئيس لجنة الرقابة على الاستخبارات في البرلمان الألماني، فكرة إنشاء شبكة تجسس “عيون أوروبا” في مارس 2025، حثّه مسؤولون حاليون وسابقون في الاستخبارات الألمانية على التخلي عن الفكرة، كما قال مسؤولون، ويرجع ذلك جزئيًا إلى الخوف من أن مجرد ذكرها قد يثير غضب مسؤولي إدارة ترامب. ووصف فون نوتز، العضو في حزب الخضر الألماني ذي الميول السلمية التقليدية، تعزيز القدرات الاستخباراتية لبرلين بأنه أمرٌ ضروري. مضيفًا: “علينا أن نكون أكثر نضجًا. علينا استثمار المزيد من الأموال، والاهتمام بشؤوننا الخاصة، وعندها سنكون على الأرجح شركاء أفضل للولايات المتحدة وتحالف العيون الخمس”.
يوضح جيرهارد كونراد، المسؤول السابق في جهاز الاستخبارات الألماني (BND): “إن بإمكان ألمانيا إنفاق مليارات الدولارات على منصاتٍ جديدة ودمج مواردها مع شركائها الأوروبيين لتوفير تغطيةٍ أفضل لصالات العرض المحدودة”. لكنه تساءل: “كيف يُمكننا تعويض القدرات الأمريكية الهائلة التي بُنيت على مدى عقود؟ لا مجال لأحدٍ لمنافستها على نطاقٍ عالمي”.
النتائج
تعكس التطورات تعقيد المرحلة الراهنة في العلاقات الاستخباراتية بين أوروبا والولايات المتحدة، في ظل عودة النزعات القومية إلى واشنطن وتراجع الثقة المتبادلة بين ضفّتي الأطلسي. فبعد عقودٍ من التعاون الوثيق في تبادل المعلومات ومكافحة الإرهاب والتجسس، وجدت أوروبا نفسها أمام واقعٍ جديدٍ تُعيد فيه حساباتها الأمنية في مواجهة تقلب السياسات الأمريكية، خصوصًا مع إدارة ترامب التي تُظهر استعدادًا لاستخدام أدوات الاستخبارات كوسيلة ضغط سياسي.
تبدو أوروبا أمام خيارين، الحفاظ على تبعيتها الاستخباراتية للولايات المتحدة بما يعنيه ذلك من اعتمادٍ دائم على مصادر خارجية، أو السعي نحو بناء منظومة استخباراتية أوروبية مستقلة تتطلّب استثمارات ضخمة وتنسيقًا عابرًا للحدود، وهو أمر لا يزال معقد. فالتفاوت في القدرات بين دول الاتحاد، ووجود حساسياتٍ سياسية، واختلاف مستويات الثقة لا سيما تجاه دولٍ مثل المجر أو بولندا كلها عقبات بنيوية تحول دون تكوين “عيون أوروبية” على غرار تحالف العيون الخمس.
تدرك بعض العواصم، وعلى رأسها باريس وبرلين، أن استمرار الاعتماد الكلي على واشنطن لم يعد ممكنًا في بيئةٍ جيوسياسية تتسم بتصاعد التهديد الروسي والهجمات السيبرانية والتضليل الإعلامي. لذا، بدأت هذه الدول في تعزيز قدراتها الذاتية عبر تطوير منظومات المراقبة الإلكترونية، والاستخبارات عبر الأقمار الصناعية، وتوسيع التعاون الثنائي أو الإقليمي بين الأجهزة. ومع ذلك، تبقى هذه الجهود متناثرة وتفتقر إلى رؤية موحّدة أو هيكل مؤسسي أوروبي.
ستسعى أوروبا إلى التوازن بين الواقعية والاعتماد الذكي، أي الإبقاء على قنوات التعاون الاستخباراتي مع الولايات المتحدة لحماية مصالحها الأمنية، مع العمل التدريجي على بناء قاعدة معرفية وتقنية مستقلة تقلّل من هشاشتها أمام التقلبات السياسية الأمريكية. وقد يشهد العقد القادم نشوء شراكات استخباراتية أوروبية أكثر مرونة، مدعومة بتمويل أوروبي مشترك وتحت إشراف الوكالة الأوروبية للأمن السيبراني وذراع السياسة الخارجية للاتحاد. يمكن القول إن أوروبا بدأت تدرك أن “مظلة الأمان الأمريكية” لم تعد مضمونة كما كانت، وأن الحفاظ على أمنها القاري يتطلب انتقالًا من التبعية إلى الشراكة المتكافئة، ومن ردّ الفعل إلى المبادرة الاستراتيجية وهي مهمة صعبة، لكنها باتت ضرورة وجودية في عالمٍ مضطرب.
رابط مختصر .. https://www.europarabct.com/?p=111304
