بون ـ المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات ECCI ـ وحدة الدراسات (25)
يشكل التعاون الاستخباراتي بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي أحد أعمدة الشراكة عبر الأطلسي، خصوصًا في ظل تصاعد التهديدات الأمنية العالمية مثل الإرهاب والجريمة المنظمة والهجمات السيبرانية. ورغم الأهمية الاستراتيجية لهذا التعاون، فإنه يواجه عقبات عدة، أبرزها الاختلافات القانونية والفلسفية بين الجانبين في مسألة الخصوصية، والسياسات المتغيرة للإدارات الأمريكية، بالإضافة إلى التحديات التقنية والتنظيمية التي قد تعيق سرعة وكفاءة تبادل المعلومات الاستخباراتية.
الجذور التاريخية للتعاون الأمني والاستخباراتي
تعود جذور التعاون الاستخباراتي بين أوروبا والولايات المتحدة إلى مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية (1945)، حيث كان التنسيق يتم بشكل أساسي ضمن إطار حلف شمال الأطلسي (الناتو). أنشأت واشنطن شبكة استخبارات واسعة (مثل وكالة الـCIA ووكالة الأمن القومي NSA) لتبادل المعلومات مع أجهزة استخبارات أوروبية مثل MI6 البريطانية وDGSE الفرنسية وBND الألمانية. قد عززت الحرب الباردة هذا التعاون من خلال تبادل المعلومات حول النشاطات السوفياتية ، والتجسس الإلكتروني، ومراقبة التحركات النووية.
أنشأت الولايات المتحدة مع المملكة المتحدة اتفاقية “UKUSA”1946 السرية ، ركّزت على تبادل الاستخبارات الإشاراتية (SIGINT) أي التنصت واعتراض الاتصالات، ضد الكتلة الشرقية. وانضمت إليه لاحقًا كندا وأستراليا ونيوزيلندا، ليشكل ما يُعرف بـ تحالف العيون الخمس (Five Eyes)..
فيما مثل تأسيس حلف شمال الأطلسي عام 1949 الإطار العسكري-الاستخباراتي الرسمي للتعاون بين الولايات المتحدة وأوروبا الغربية.تضمنت مواثيقه الأولى إنشاء لجان استخبارات داخلية لتنسيق المعلومات العسكرية بين الأعضاء. كما عملت الولايات المتحدة عبر الناتو على بناء شبكات استخبارات دفاعية في أوروبا (مثل SHAPE Intelligence Division). وهي مسؤولة عن جمع وتحليل المعلومات الاستخباراتية والتشغيلية ، ووضع السياسات الاستخباراتية لحلف الناتو،.
لكن مع نهاية الحرب الباردة وبروز التهديدات غير التقليدية، كالإرهاب الدولي، توسّع نطاق التعاون ليشمل المجالين المدني والتكنولوجي. الاستخبارات الأمريكية خلال عهد ترامب، تغييرات مؤسسية وسياساتية
الإطار القانوني الأساسي بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي
منذ هجمات 11 سبتمبر 2001، سعت واشنطن وبروكسل إلى بناء منظومة تعاون استخباراتي متكاملة تستند إلى اتفاقيات ثنائية ومتعددة الأطراف، تنظم عملية تبادل البيانات الحساسة بين أجهزة إنفاذ القانون والاستخبارات. وقد تطور هذا الإطار القانوني تدريجيًا من التنسيق العسكري التقليدي إلى شراكة قانونية معقدة تشمل المال والسفر والفضاء الرقمي.
ـ اتفاقية تتبع تمويل الإرهاب (SWIFT – TFTP Agreement)
تعد أول إطار رسمي لتبادل المعلومات الاستخباراتية المالية بين الجانبين. وقّعت الاتفاقية في يونيو 2010 بعد مفاوضات شاقة بين المفوضية الأوروبية وواشنطن، وتهدف إلى تمكين وزارة الخزانة الأمريكية من الوصول إلى بيانات التحويلات المالية عبر نظام SWIFT البلجيكي لتعقب مصادر تمويل الإرهاب. نصّت الاتفاقية على أن استخدام البيانات يقتصر على أغراض مكافحة الإرهاب، وأن تخضع عمليات تبادل المعلومات لمراجعة من البرلمان الأوروبي واليوروبول لضمان احترام معايير الخصوصية.
وفق وزارة الخزانة الأمريكية، فقد تم استخدام معلومات من TFTP في تحقيقات أسهمت في إحباط مخططات إرهابية، من ضمنها محاولة استهداف الرحلات الجوية العابرة بين المملكة المتحدة والولايات المتحدة. كما أن المعلومات ساعدت في تحقيقات في إسبانيا في أكتوبر 2008، ومن ثم الحكم على متورطين، حيث وضحت تلك المعلومات صلات بين المتهمين ودول أخرى.
ـ اتفاقية بيانات المسافرين (Passenger Name Record – PNR)
تم إقرار اتفاقية بيانات المسافرين بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في يوليو 2012، وهي تُلزم شركات الطيران الأوروبية بتزويد السلطات الأمريكية ببيانات المسافرين القادمين إلى الأراضي الأمريكية. تتضمن هذه البيانات الاسم، وتاريخ الميلاد، وطريقة الحجز، ورقم المقعد، ووسائل الدفع، ووجهات السفر. الهدف المعلن هو الكشف المبكر عن المشتبه بهم في قضايا الإرهاب أو الجريمة المنظمة.
رغم الانتقادات التي وُجّهت للاتفاقية بدعوى المساس بالخصوصية، إلا أن البرلمان الأوروبي صادق عليها بعد إدخال تعديلات تضمن الرقابة القانونية وحذف البيانات الحساسة بعد فترة زمنية محددة (5 سنوات بشكل نشط ، ثم 10 سنوات إضافية في أرشيف محدود الوصول). وتلتزم الولايات المتحدة بعدم استخدام المعلومات لأغراض غير أمنية. فيما يُمنح المواطنون الأوروبيون الحق في تصحيح بياناتهم أو الطعن في استخدامها.
ـ اتفاقية المظلة القانونية (Umbrella Agreement)
تُعتبر هذه الاتفاقية حجر الزاوية في الإطار القانوني الحالي لتبادل المعلومات بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
وقّعت في يونيو 2016 ودخلت حيز التنفيذ في فبراير 2017، وتهدف إلى وضع قواعد عامة لتبادل البيانات لأغراض إنفاذ القانون والاستخبارات.
تطبّق الا على كل أنواع البيانات الشخصية التي تُنقل بين سلطات إنفاذ القانون في الطرفين لأغراض منع/تحقيق/مقاضاة الجرائم (بما في ذلك الإرهاب)، وتضمنت بنودًا واضحة لحماية الخصوصية، بما في ذلك حقوق الوصول، التصحيح، والحصول على معلومات عن معالجة البيانات. كما ألزم الطرف الأمريكي بتدابير مؤسسية داخل وكالاته، إضافة إلى:
- حق المواطنين الأوروبيين في التظلم أمام القضاء الأمريكي بموجب قانون الإنصاف القضائي الأمريكي (Judicial Redress Act, 2015). وهو شرط طبّق لتلافي التمييز في سبل الانتصاف. ذلك كان شرطًا جوهريًا لإبرام المظلة
- التزام الطرفين بإخطار الأفراد المتضررين في حال إساءة استخدام بياناتهم.
- مراجعة دورية كل ثلاث سنوات لتقييم الامتثال القانوني.
بهذا وفّرت “المظلة القانونية” إطارًا قانونيًا مهمًا لتقوية التعاون بين أجهزة إنفاذ القانون عبر الأطلسي مع إبراز التزامات حماية البيانات وحقوق الأفراد ، هذا سهّل بعض تبادلات المعلومات التي كان يمكن أن تتعثّر بسبب مخاوف قانونية. الاستخبارات الوطنية الأميركية تقييد تبادل المعلومات مع حليفاتها بشأن أوكرانيا، الدوافع والتداعيات؟
آليات العمل المشترك
يتم تنسيق الجهود الأمنية والقضائية بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لمكافحة الجرائم العابرة للحدود، بما في ذلك الإرهاب والجريمة المنظمة والجرائم السيبرانية من خلال آليات العمل المشترك مثل اتفاقيات ثنائية ومتعددة الأطراف، ومؤسسات تنسيقية متخصصة مثل اليوروبل، يروجست، وزارة العدل الأمريكية، ووكالات إنفاذ القانون الفيدرالية، إلى جانب فرق تحقيق مشتركة وبرامج تبادل الخبرات. ويتيح هذا التعاون المتكامل إجراء تحقيقات فعالة، ومتابعة ملفات جنائية دولية، وضمان التزام جميع الأطراف بالقوانين الوطنية والدولية.
ـ تعمل وكالة الأوروبية لتطبيق القانون اليوروبل (Europol) مع مكتب التحقيقات الفيدرالي (FB) و إدارة مكافحة المخدرات (DEA) على تبادل المعلومات حول الجرائم المنظمة، الإرهاب، والجرائم السيبرانية عبر مكاتب اتصال مباشرة (Liaison Officers)، التي تتيح الوصول إلى قواعد بيانات الجرائم، سجلات المشتبه بهم، معلومات السفر، والمعاملات المالية، ما يسمح بالاستجابة السريعة للتهديدات العابرة للحدود حيث يمكن نقل المعلومات والتحقق منها بسرعة دون الحاجة لإجراءات بيروقراطية مطوّلة.
ـ تنسق هيئة اليوروجيست (Eurojust) المختصة بالتعاون القضائي بين الدول الأعضاء بالاتحاد الأوروبي في القضايا المعقدة العابرة للحدود، مثل الإرهاب والجريمة المنظمة وغسل الأموال، مع زارة العدل الأمريكية التحقيقات المشتركة وتسهيل طلبات المساعدة القانونية المتبادلة (MLAs)، وضمان توافقها مع القوانين الوطنية والمعايير الدولية.
تعد طلبات المساعدة القانونية المتبادلة (MLAs) آلية رسمية بين الدول لتقديم الدعم القضائي فيما يتعلق بالقضايا الجنائية والتحقيقات، وتشمل جمع الأدلة، استجواب الشهود، مصادقة الوثائق، وتنفيذ أوامر قضائية عبر الحدود. الهدف الرئيسي هو تسهيل التعاون القانوني عبر الدول، وضمان أن يمكن للسلطات الجنائية في دولة ما جمع المعلومات والأدلة الضرورية للتحقيق أو المقاضاة في دولة أخرى بطريقة قانونية وموثوقة، بما يتوافق مع القانون الوطني والاتفاقيات الدولية.
التعاون الاستخباراتي على مستوى الدول الأعضاء
إلى جانب التعاون المؤسسي على مستوى وكالات الاتحاد الأوروبي، تحتفظ الدول الأعضاء بالحق في التعاون الثنائي المباشر مع الولايات المتحدة في مجالات الأمن والاستخبارات وإنفاذ القانون.
الولايات المتحدة وألمانيا : تتعاون وكالة الاستخبارات الاتحادية الألمانية (BND) ووكالة الأمن القومي الأمريكية (NSA) في جمع وتحليل البيانات الاستخباراتية، خاصة في مجالات مكافحة الإرهاب والتهديدات السيبرانية.
تعد عملية “Eikonal” واحدة من أبرز الأمثلة على التعاون الاستخباراتي بين ألمانيا والولايات المتحدة، حيث تعاونت وكالتي الأمن القومي الأمريكية وجهاز الاستخبارات الخارجية الألماني بين عامي 2004 و2008. لجمع بيانات الاتصالات من مزود الخدمة الألمانية Deutsche Telekom، حيث تم تركيب أجهزة في مراكز البيانات لنسخ البيانات. على الرغم من وجود فلاتر لحماية بيانات المواطنين الألمان، إلا أن بعض البيانات تم جمعها بشكل غير قانوني. في عام 2020، قضت المحكمة الدستورية الألمانية بأن المراقبة الجماعية للاتصالات التي تتم خارج ألمانيا على الأجانب غير دستورية، مما أثر على شرعية العمليات الاستخباراتية مثل “Eikonal.
في عام 2007، اعترضت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية رسائل بريد إلكتروني من “مجموعة ساورلاند”، وهي خلية إسلامية تُخطط لتفجيرات في ألمانيا. وأطلعت المخابرات الأمريكية مسؤولي الأمن الألمان على خيوط العملية، مما مكّن السلطات الألمانية من إحباط الهجوم. وفي عام 2023، أبلغت الوكالات الأمريكية السلطات الألمانية عن شخصين مشتبه بهما مرتبطين بإيران في مدينة كاستروب-راوكسل الغربية، يُزعم أنهما كانا يُخططان لهجوم كيميائي.
الولايات المتحدة وفرنسا: بعد الهجمات الإرهابية في باريس عام 2015، قررت الولايات المتحدة وفرنسا تعزيز تبادل المعلومات الاستخباراتية إلى أقصى حد يسمح به القانون، وذلك عبر توجيه تعليمات جديدة لتسهيل مشاركة المعلومات بين الأجهزة العسكرية والاستخباراتية للبلدين. تم تبادل بيانات المشتبه بهم، تحركاتهم، وتمويلهم عبر قنوات آمنة بين أجهزة الاستخبارات الأمريكية (FBI, CIA, NSA) ووكالات فرنسا مثل المديرية العامة للأمن الداخلي (DGSI) والمديرية العامة للأمن الخارجي (DGSE).
ساهم هذا التعاون في تفكيك خلايا إرهابية ومتابعة شبكات التمويل الدولي للإرهاب. من أبرز العمليات المشتركة عملية “Emma”في يوليو 2020، حيث قامت السلطات الفرنسية بتفكيك شبكة إجرامية دولية تستخدم منصة “EncroChat” المشفرة للتواصل. ساهمت الاستخبارات الأمريكية في توفير المعلومات التقنية اللازمة لاختراق هذه الشبكة، مما أدى إلى اعتقال عشرات الأشخاص في فرنسا ودول أخرى.
الولايات المتحدة و بريطانيا ـ تجمع الولايات المتحدة وبريطانيا علاقة شراكة استراتيجية طويلة الأمد في مجال الاستخبارات، تعرف تاريخيًا باسم “Special Relationship”. يشمل التعاون مكافحة الإرهاب، التجسس السيبراني، الجرائم المنظمة، ومراقبة التهديدات الدولية.
يتم تبادل المعلومات الاستخباراتية بشكل فوري بين أجهزة الاستخبارات البريطانية الاستخبارات الأمنية الداخلية (MI5)، الاستخبارات الخارجية (MI6)، والوكالات الأمريكية (CIA، FBI، NSA، DEA.). ساهم في تفكيك العديد من الخلايا الإرهابية. كالتعاون في تصدي الإرهاب في لندن وبروكسل ومانشستر بين 2005 و2017.
تعمل وكالة الاستخبارات السيبرانية البريطانية (GCHQ) مع الوكالة الامريكية للفضاء (NSA) معًا لمواجهة الهجمات السيبرانية الدولية، خاصة من روسيا والصين. يشمل التعاون مراقبة الشبكات، تحليل البرمجيات الخبيثة، وتبادل البيانات الاستخباراتية التقنية.
الضمانات والقيود
كشفت تسريبات الموظف السابق في وكالة الأمن القومي الأمريكية إدوارد سنودن في يونيو 2013 التي كشفت عن برامج مراقبة واسعة النطاق لوكالة الأمن القومي الأمريكية (NSA) شملت جمع بيانات من شركات تكنولوجيا كبرى أمريكية، مثل Google وFacebook وMicrosoft، للتجسس على مواطنيين وزعماء أوروبيين، ما أحدث أزمة ثقة غير مسبوقة بين واشنطن وبروكسل. ردّ الاتحاد الأوروبي بتشديد قوانين حماية البيانات عبر اللائحة العامة لحماية البيانات (GDPR) التي دخلت حيز التنفيذ في مايو 2018، وأصدرت محكمة العدل الأوروبية أحكامًا مفصلية مثل:
ـ إلغاء اتفاقية “Safe Harbor” عام 2015. والتي تم اعتمادها في يوليو 2000 كآلية تنظيمية تسمح للشركات الأمريكية بنقل ومعالجة بيانات مواطني الاتحاد الأوروبي، شرط التزامها بمجموعة من المبادئ السبعة الأساسية لحماية الخصوصية التي وضعتها المفوضية الأوروبية ووزارة التجارة الأمريكية، مثل مبدأ الإخطار، الاختيار، الأمان، النزاهة، والوصول إلى البيانات.
ـ إلغاء إطار “Privacy Shield” عام 2020 لعدم كفاية الضمانات الأمريكية. وكان قد تم اعتماد الاطار في يوليو 2016، كآلية جديدة لتنظيم نقل البيانات الشخصية من الاتحاد الأوروبي إلى الشركات الأمريكية الملتزمة بمعايير محددة وضوابط حماية البيانات بعد الغاء اتفاقية “Safe Harbor” .
أدت هذه التطورات إلى مفاوضات جديدة انتهت بإقرار إطار حماية البيانات عبر الأطلسي (Data Privacy Framework) في يوليو 2023، الذي يُعدّ أحدث صيغة قانونية تتيح نقل البيانات من أوروبا إلى الولايات المتحدة وفق معايير حماية أقوى يجب على الشركات الأمريكية الالتزام بها، وتشمل:
- الشفافية: إبلاغ الأفراد بوضوح عن كيفية معالجة بياناتهم.
- الاختيار: منح الأفراد خيارًا في كيفية استخدام بياناتهم.
- البيانات الدقيقة: ضمان دقة البيانات الشخصية.
- الحد من الغرض: استخدام البيانات فقط للأغراض المحددة.
- الأمن: اتخاذ تدابير لحماية البيانات من الوصول غير المصرح به.
- الاحتفاظ بالبيانات: الاحتفاظ بالبيانات فقط طالما كان ذلك ضروريًا.
- الوصول: تمكين الأفراد من الوصول إلى بياناتهم وتصحيحها أو حذفها.
- الإنفاذ: وجود آليات فعالة للإنفاذ والمساءلة.
يشترط الاتحاد الأوروبي عند تبادل المعلومات مع جهات أمريكية (سواء استخباراتية أو قانونية)، أن تكون الدولة أو الجهة المستقبلة للبيانات توفر مستوى حماية مكافئ لما تنص عليه اللائحة الأوروبية، وتخضع لـ آليات مراجعة قانونية مستقلة في حال حدوث انتهاك. وهذا المبدأ يُعرف بـ “Adequacy Decision” — أي قرار الملاءمة القانونية، الذي يمنح بعض الدول حق استقبال البيانات الأوروبية بعد التحقق من امتثالها لمعايير GDPR.
أعلنت المفوضية الأوروبية في أكتوبر 2024 أن السلطات الأمريكية أوفت بتعهدها بوضع حواجز أمنية للحد من وصول وكالات الاستخبارات الأمريكية إلى البيانات الشخصية للأوروبيين.
رغم الإصلاحات، يبقى الاختلاف الفلسفي العميق بين أوروبا وأمريكا هو جوهر الإشكال، بينما ترى أوروبا الخصوصية حقًا أصيلًا مرتبطًا بالكرامة الإنسانية ، تعتبرها أمريكا حقًا قابلًا للموازنة مع متطلبات الأمن القومي. هذا التباين يخلق توترًا دائمًا في التعاون الاستخباراتي، خصوصًا في برامج تبادل البيانات المالية (TFTP) أو بيانات المسافرين (PNR)، حيث تحاول أوروبا فرض قيود صارمة لضمان عدم تجاوز الحدود القانونية.
أثر سياسات إدارة ترامب على التعاون
ظهرت مخاوف أوروبية متزايدة في ظل إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بشأن التعاون الاستخباراتي مع الولايات المتحدة، وذلك نتيجة لعدة سياسات وممارسات أثرت على الثقة المتبادلة بين الجانبين.
شهد مكتب المراقبة للخصوصية والحريات المدنية (PCLOB)، وهو هيئة كانت تُعتبر رقابية مستقلة تشرف على أنشطة المراقبة الأمريكية، تدخلاً من الإدارة الحالية؛ حيث تمّ عزل أو فصل جميع الأعضاء الديمقراطيين منها، في 27 يناير 2025، مما أدى إلى فقدان المكتب للقدرة على اتخاذ قرارات رسمية بسبب عدم اكتمال النصاب القانوني. في فبراير 2025، أصدرت سلطة حماية البيانات النرويجية تحذيرًا، مشيرة إلى أن غياب كتب المراقبة للخصوصية والحريات المدنية يُعد مشكلة خطيرة، وأوصت الشركات الأوروبية بالاستعداد لسيناريو قد يتم فيه إلغاء إطار حماية البيانات عبر الأطلسي.
أصدرت إدارة ترامب في يوليو 2025، تعليمات بتصنيف جميع التحليلات والمعلومات المتعلقة بمفاوضات السلام بين روسيا وأوكرانيا على أنها “ممنوعة النشر الأجنبي”، مما يعني وقف تبادلها مع الحلفاء التقليديين، بما في ذلك الدول الأوروبية. هذا القرار أثار قلقًا واسعًا داخل أجهزة الاستخبارات الأوروبية، التي سارعت إلى عقد اجتماعات طارئة في باريس لتنسيق بدائل، من بينها الاعتماد على قدرات الأقمار الصناعية الأوروبية. أعرب مسؤولون أوروبيون عن قلقهم من أن إدارة ترامب قد تستخدم المعلومات الاستخباراتية كأداة تفاوضية، مما يهدد نزاهة التعاون الاستخباراتي.
شكّل قرار الرئيس الأمريكي ترامب في مارس 2025 بوقف تبادل المعلومات الاستخباراتية مع أوكرانيا مشكلةً مُلحّةً لأوروبا. لم يقتصر الأمر على وضع كييف – التي تعتمد على الولايات المتحدة في جميع أنواع البيانات القتالية المهمة – في وضع عسكري حرج مؤقتًا، بل أثار أيضًا شكوكًا حول موثوقية مجتمع الاستخبارات الأمريكي كحليف استراتيجي.
عقب القرار، دعا كبار خبراء الاستخبارات في البرلمان الألماني (بوندستاج) إلى إنشاء شبكة تجسس أوروبية، محذرين من أن أوروبا لا تستطيع الاعتماد على المعلومات الاستخباراتية من الولايات المتحدة وسط حالة عدم اليقين المتزايدة. وصرح كونستانتين فون نوتز، رئيس لجنة الرقابة على الاستخبارات في البرلمان الألماني: “نحتاج إلى نظام أوروبي للتعاون الاستخباراتي – لنسمّه “عيون أوروبا” – لضمان تبادل الدول القوية للمعلومات بسرعة وأمان على أسس قانونية واضحة”.
تمتلك القوى الأوروبية موارد استخباراتية متطورة، إلا أنها تعاني أيضًا من ثغرات حرجة مقارنةً بالولايات المتحدة. ففي مجال استخبارات الإشارات (SIGINT)، تُعدّ دول أوروبية مثل المملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا جهات فاعلة ذات كفاءة. ويتجلى ذلك في مهام طائرة RC-135 Rivet Joint البريطانية، وأقمار CERES الفرنسية، وعمليات اعتراض الاتصالات الألمانية. تُوفّر هذه القدرات معلومات استخباراتية أساسية للحلف، لكنها تفتقر إلى المدى الواسع التي تتمتع بها الأنظمة الأمريكية مما يجعل الفصل الشامل في هذه المجموعة من الأنشطة الاستخباراتية أمرًا صعبًا للغاية.
بالتوازي مع ذلك، تتمتع قدرات الاستخبارات البشرية في أوروبا – وخاصةً لدى جهاز المخابرات البريطاني (MI6)، والمديرية العامة للأمن الخارجي الفرنسية(DGSE)، وجهاز الاستخبارات الخارجية الألماني (BND) ببنية تحتية متينة، ولها تاريخ طويل من العمليات الفعالة والهامة في روسيا وأوكرانيا ودول أخرى مثل الصين وإيران. ومع ذلك، ورغم هذه القوة، تعمل شبكات الاستخبارات البشرية الأوروبية بشكل أساسي في تناغم تام مع عمليات الاستخبارات البشرية الأمريكية واسعة النطاق. إذا حجب الأمريكيون الوصول إلى معلوماتهم الاستخباراتية، فستتضاءل جهود الاستخبارات البشرية الأوروبية، وسيستغرق الأمر سنوات عديدة وموارد هائلة لتوسيع نطاقها لسدّ الفجوة في هذا النوع من الاستخبارات الناتجة عن الانسحاب الأمريكي. الاستخبارات الوطنية الأميركية تقييد تبادل المعلومات مع حليفاتها بشأن أوكرانيا، الدوافع والتداعيات؟
تقييم وقراءة مستقبلية
ـ التعاون الاستخباراتي بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي قائم منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، فيما توفر الأطر القانونية الحديثة مثل اتفاقيات SWIFT-TFTP، بيانات المسافرين (PNR)، والمظلة القانونية (Umbrella Agreement) بنية واضحة لتبادل المعلومات بين الطرفين مع مراعاة حماية الخصوصية وحقوق الأفراد.
ـ رغم وجود إطار قانوني متين نسبيًا، تبقى تطبيقات التعاون الاستخباراتي بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي متباينة: فبعض الدول الأعضاء تملك اتفاقيات ثنائية تسمح بتبادل أسرع وأكثر عمقًا مع الوكالات الأمريكية، بينما التعاون على مستوى الاتحاد يُسيّر ضمن قيود حماية البيانات الأوروبية، ما يلزم وجود آليات تصفية قانونية وإجراءات مراقبة.
ـ السياسة الأمريكية في عهد ترامب لم تُفكك هذا الإطار، لكنها فرضت ضغوطًا سياسية متقطعة حول أي ملفات ذات حساسية سياسية (مثلاً التحقيقات المتعلقة بتدخلات أجنبية أو تبادل معلومات عن شخصيات سياسية). ما دفع بعض الدول الأوروبية، مثل ألمانيا، للتفكير في تطوير شبكات استخبارات أوروبية مستقلة، وهو مؤشر على الحاجة إلى استراتيجيات بديلة لتعزيز السيادة الاستخباراتية الأوروبية.
ـ تراجع الثقة في التبادل الاستخباراتي مع واشنطن قد يؤدي إلى إعادة تشكيل تحالفات جديدة خارج الإطار الأميركي التقليدي. إذا استمر هذا التوجه، قد تظهر مبادرات أوروبية– آسيوية للتنسيق الأمني بعيدًا عن المظلة الأميركية، ما يضعف مكانة الولايات المتحدة كقطب مهيمن في مجال الاستخبارات الدولية.
ـ ظهور تهديدات جديدة (الإرهاب السيبراني، تهديدات الفضاء العسكري، تدخلات أجنبية) سيجعل التعاون الاستخباراتي الأوروبي الأمريكي أكثر ضرورة، مع احتمال ظهور شبكات أوروبية مستقلة للتعامل مع الأزمات.
رابط مختصر.. https://www.europarabct.com/?p=110363
*حقوق النشر محفوظة إلى المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات
الهوامش
EU-US data transfers
German lawmakers float ‘Euro Eyes’ spy network amid uncertainty on US intel
Gabbard barred sharing intelligence on Russia-Ukraine negotiations with “Five Eyes” partners
EU to ‘step up’ on cyber security as dependence on US laid bare
