بون ـ المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات ECCI ـ وحدة الدراسات (3)
الاستخبارات الأمريكية خلال عهد ترامب، تغييرات مؤسسية وسياساتية
يمثّل مجمّع الاستخبارات الأمريكية واحدًا من أعقد وأوسع الأجهزة المؤسسية في العالم، إذ يضم تحت مظلته أكثر من سبع عشرة وكالة تعمل في مجالات متشابكة تشمل الأمن القومي، مكافحة الإرهاب، الحرب السيبرانية، والتحليل الاستراتيجي. وقد مرّت هذه المنظومة خلال عهد الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” بمرحلة مليئة بالتوترات والجدل السياسي والقانوني، تركت آثارًا عميقة على طبيعة عمل الأجهزة الأمنية وعلاقاتها مع الداخل والخارج.
مكونات مجمّع الاستخبارات الأمريكي (IC)
يُعد مجتمع الاستخبارات الأمريكي (IC) مجموعة تتألف من 18 وكالة ومنظمة اتحادية، مهمتها جمع وتحليل وتقديم معلومات الاستخبارات الخارجية السرية والمفتوحة المصدر، ومعلومات مكافحة التجسس إلى قادة الولايات المتحدة الأمريكية ليتمكنوا من اتخاذ قرارات سليمة لحماية البلاد وتحديد أولويات الأمن سنويًا في استراتيجية الأمن القومي. يركّز المجتمع الاستخباراتي على مجموعة متزايدة من القضايا، من تمويل الإرهاب إلى الاتجار بالمخدرات، ومن تغيّر المناخ والقضايا البيئية إلى التهديدات التكنولوجية الأجنبية وانتشار الأسلحة النووية.
يُعتبر أبرز الوكالات الاستخباراتية داخله: وكالة المخابرات المركزية (CIA)، مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI)، وكالة الأمن القومي (NSA)، مكتب مدير الاستخبارات الوطنية (ODNI)، ومكاتب الاستخبارات داخل البنتاغون ودوائر وزارة الأمن الداخلي. عُيِّن “جون راتكليف” مديرًا لوكالة المخابرات المركزية، و”تولسي جابارد” مديرةً للمخابرات الوطنية، و”كاش باتيل” مديرًا لمكتب التحقيقات الفيدرالي، و”جو كينت” مديرًا للمركز الوطني لمكافحة الإرهاب. ويشغل هذه المناصب، غير الحزبية تقليديًا، أفراد يشاركون ترامب وجهة نظره.
يرى “دوغلاس لندن”، الخبير في وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (CIA): “إن مسؤولي الاستخبارات يعملون بجد لتجنّب أي مظهر من مظاهر التحزّب، ويضعون قسمهم الدستوري فوق السياسة”. وأضاف “لندن”: “ليس بوسع مسؤولي الوكالة أن يفعلوا سوى إظهار نحن هنا، نحن في فريقكم، نحن هنا لدعمكم”.
إعادة هيكلة مجمّع الاستخبارات الأمريكي الأمريكي
أعلنت “تولسي جابارد” مديرة الاستخبارات الوطنية في أغسطس 2025، أن مكتبها سوف يُخفّض ما يقرب من (50%) من قوته العاملة، ويدمج العديد من مراكز الاستخبارات، كجزء من مبادرة إعادة الهيكلة الشاملة المسماة “ODNI 2.0”. من بين التغييرات الأكثر أهمية، حُل مركز التأثير الأجنبي الخبيث، والمركز الوطني لمكافحة الانتشار والأمن البيولوجي، ومركز تكامل استخبارات التهديدات السيبرانية، مع دمج وظائفها في مديرية تكامل المهام التابعة لمكتب مدير الاستخبارات الوطنية ومجلس الاستخبارات الوطني.
سيُعيد المركز الوطني لمكافحة الإرهاب التركيز على مهمته الأساسية في مكافحة الإرهاب، مع توسيع نطاقه ليشمل مكافحة المخدرات. كما سيتم نقل جامعة الاستخبارات الوطنية إلى جامعة الدفاع الوطني التابعة لوزارة الدفاع. كذلك، تم دمج مديري الاستخبارات الوطنية والمجلس الوطني لإدارة الاستخبارات ضمن هيكل ضباط الاستخبارات الوطنية لتبسيط الرقابة. كما تستهدف التخفيضات أنظمة التكنولوجيا والبرامج التي تعتمد بشكل كبير على المتعاقدين.
أقال “بيت هيغسيث”، وزير الدفاع الأمريكي، الفريق “جيفري كروس”، رئيس وكالة استخبارات الدفاع الأمريكية (DIA)، وذلك بعد رفض البيت الأبيض مراجعة تقييمية بشأن تأثير الضربات الأمريكية على إيران خلال العام 2025. وبرر “هيغسيث” الإقالة بأن التقرير أُعدّ استنادًا إلى “معلومات استخباراتية ضعيفة”، وأضاف “هيغسيث”: أن مكتب التحقيقات الفيدرالي يُجري تحقيقًا بشأن التسريب. استخبارات ـ ترامب يرسخ “الدولة العميقة” باتهام كومي المدير السابق لمكتب الFBI
العلاقات بين مجمّع الاستخبارات والسلطة التنفيذية
يُعتبر دور “الكونغرس” الأمريكي رقابيًا، وتزايدت المطالبات داخل الولايات المتحدة بإبقاء “الكونغرس” على اطلاع بالشؤون الاستخباراتية، وخاصةً العمليات السرية. لكن بالنظر إلى الإدارات المختلفة، كان تحقيق ذلك صعبًا في كثير من الأحيان. يختلف مسؤولو الاستخبارات السابقون حول مساعي ترامب لاستخدام وكالات التجسس ضد المعارضين السياسيين المحليين، وإذا فعل ذلك، فكيف ستستجيب القوى العاملة في مجال الاستخبارات والمحاكم؟ فبعد “فضيحة ووترغيت”، سُنّت قوانين تحظر صراحةً استخدام وكالات التجسس ضد الأمريكيين.
جاءت هذه الإجراءات ردًا على استخدام إدارة “نيكسون” لوكالة المخابرات المركزية لجمع معلومات استخباراتية عن المتظاهرين المحليين المعارضين لحرب فيتنام. يقول “جلين جيرستيل”، الذي عمل مستشارًا عامًا لوكالة الأمن القومي من عام 2015 إلى عام 2020: “إن القوانين تسمح بقدر كبير من السلطة التقديرية، وسيكون لدى ترامب يد حرة إلى حد كبير”. بينما يرى خبراء قانونيون ومسؤولون كبار سابقون أن الرؤساء يواجهون قيودًا قانونية قليلة عندما يتعلق الأمر بسلطتهم على وكالات الاستخبارات.
تنامي الصراع بشأن الأجهزة الاستخباراتية
انتقد الرئيس الامريكي “ترامب” وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (CIA) ووكالات تجسس أخرى، متهمًا إياها بالعمل على تقويض إدارته الأولى، والسعي لمنعه من استعادة السيطرة على البيت الأبيض، كما اتهم مسؤولي الاستخبارات بالتشكيك في علاقته بالرئيس الروسي “فلاديمير بوتين”. ووعد “ترامب” بإنهاء ما وصفه بصراعات الاستخبارات واجتثاث الضباط “غير المخلصين”.
اتهم الحزب الديمقراطي اختيارات ترامب موالين له لقيادة أجهزة الاستخبارات الأمريكية في ولايته الثانية، بالتزامن مع تنامي الصراعات بشأن الاستخبارات الأمريكية، فعلى سبيل المثال، رفع مجلس الاستخبارات الوطني السرية عن مذكرة، ردًا على طلب الحصول على سجلات مفتوحة، والتي ذكرت أن وكالات التجسس الأمريكية لم تجد أي تنسيق بين الحكومة الفنزويلية وعصابة “ترين دي أراغوا”، وهو ما يتناقض مع التصريحات التي استخدمتها إدارة “ترامب” لتبرير الاستعانة بقانون الأعداء الأجانب وترحيل المهاجرين الفنزويليين.
قامت “جابارد” بطرد ضابطي الاستخبارات المخضرمين اللذين كانا يقودان المجلس بسبب معارضتهما المفترضة لـ”ترامب”. وتزايدت المشاكل بعد أن بدأت الحرب بين إسرائيل وإيران. رفض ترامب شهادة “جابارد” أمام الكونغرس في مارس 2025، والتي أفادت بأن وكالات الاستخبارات الأمريكية لا تعتقد أن إيران تسعى بنشاط لامتلاك سلاح نووي، وأصرّ ترامب على أن إيران كانت قريبة جدًا من ذلك. الاستخبارات الأمريكية مابين الولاء السياسي وحماية الأمن القومي في زمن ترامب
نقاط القوة والضعف الناتجة عن سياسات “ترامب”
تقول “تولسي جابارد” و”بيت هيغسيث”: “إن إعادة الهيكلة تتماشى مع تركيز الرئيس ترامب على زيادة الكفاءة في جميع أنحاء الحكومة، وستُعزّز جودة برامجنا التعليمية”. أوضح المسؤولون: “أن هذه الخطوة تهدف إلى تحسين دمج التدريب الاستخباراتي مع أولويات الدفاع مع الحد من التكرار”. كما يعكس هذا التغيير جهود جابارد وهيغسيث الأوسع نطاقًا لتوحيد تعليم الأمن القومي تحت سقف واحد. بينما يقول “روبرت ليت”، الذي شغل منصب المستشار العام لمكتب مدير الاستخبارات الوطنية من عام 2009 إلى عام 2017: “إن إدخال المعينين السياسيين في إدارة وكالات التجسس بأعداد غير مسبوقة من شأنه أن يشوّه الطريقة التي يتم بها تحليل المعلومات الاستخباراتية، ويؤدي إلى قرارات غير قانونية أو غير مدروسة”.
أكد السيناتور “مارك وارنر”، أكبر عضو ديمقراطي في لجنة الاستخبارات بمجلس الشيوخ، في بيان قائلًا: “إن الطريقة الفوضوية والعشوائية التي تتبعها الإدارة الأمريكية في فصل ضباط الاستخبارات وإنفاذ القانون المخضرمين في جميع أنحاء الحكومة، بما في ذلك على سبيل المثال الضباط الذين يعملون على وجه التحديد في مكافحة التجسس، تزيد بشكل كبير من خطر مكافحة التجسس على أمريكا”. استخبارات ـ ال CIA تحذر من المخاطر التي تهدد الأمن الدولي
تقييم وقراءة مستقبلية
– يُظهر سجل إدارة ترامب الثانية، والتغييرات داخل مجتمع الاستخبارات الأمريكية، توجهًا واضحًا نحو تسييس أجهزة الدولة الأمنية وإعادة تشكيلها بما يخدم أجندة الرئيس وأولوياته السياسية، لا الأمنية أو الاستراتيجية. فقد اتسمت هذه المرحلة بإدخال شخصيات موالية لترامب في مواقع تقليديًا يُفترض أن تبقى فوق الانقسامات الحزبية، مما يٌضعف استقلالية القرار الاستخباراتي، وفتح الباب أمام صراعات داخلية حادة تؤثر في أداء المؤسسات الاستخباراتية.
– التحولات المؤسسية الكبرى، وعلى رأسها تقليص القوى العاملة بنسبة 50% ودمج مراكز استخباراتية متخصصة، تبدو ظاهريًا كجزء من خطة لرفع الكفاءة وتبسيط الهيكل. غير أن طبيعتها المفاجئة، وتزامنها مع إقالات جماعية لقيادات مخضرمة، تشير إلى دوافع سياسية واضحة، أبرزها تفكيك مراكز القوة القديمة داخل البنية الاستخباراتية، واستبدالها بقيادات أكثر ولاءً للرئيس.
– من المرجّح أن تترتب على هذه التحولات آثار على فعالية العمل الاستخباراتي الأمريكي، داخليًا وخارجيًا. فالضغط على الوكالات لتقديم تقييمات تتماشى مع سرديات البيت الأبيض كما في حالة إيران وفنزويلا يهدد حيادية التحليل الاستخباراتي، ما قد يؤدي إلى اتخاذ قرارات استراتيجية خاطئة على أساس معلومات مشوّهة أو مُسيّسة.
– يضعف طرد الخبراء والمخضرمين، وتقليص الموارد البشرية والتكنولوجية، من قدرة الولايات المتحدة على التنبؤ بالتهديدات المعقدة والمتداخلة، مثل الإرهاب العابر للحدود، أو الهجمات السيبرانية، أو المنافسة مع الصين وروسيا في الفضاء المعلوماتي والتكنولوجي.
– يمكن القول إن تغليب الطابع السياسي في العمل الاستخباراتي على الصعيد الداخلي، سيُعمّق أزمة الثقة بين هذه الوكالات الاستخباراتية والرأي العام، ويُضعف الرقابة الديمقراطية من الكونغرس، لا سيما إذا ما تم تقويض آليات الإبلاغ والشفافية.
– من المحتمل إذا استمر هذا الاتجاه في الدورة السياسية المقبلة، فقد نشهد تراجعًا في القدرة الاستخبارية الأمريكية على المستوى العالمي، مع ازدياد الاعتماد على أدوات غير تقليدية أو متحيّزة في اتخاذ القرار الأمني، مما يُعرّض الأمن القومي الأمريكي لمخاطر حقيقية، ويقوّض مكانة الولايات المتحدة في النظام الاستخباراتي الدولي.
رابط مختصر.. https://www.europarabct.com/?p=110214
*حقوق النشر محفوظة إلى المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات
الهوامش
About the Intelligence Community
https://tinyurl.com/3c4asj2k
White House National Security Council slashes staff in dramatic restructuring, sources say
https://tinyurl.com/5dved3ek
Trump administration has tightly restricted access to president’s daily intelligence brief
https://tinyurl.com/5ar4x82s
Gabbard announces plan to reorganize her agency, cut staff by half
https://tinyurl.com/mr4yr25e
