خاص ـ المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات ـ ألمانيا وهولندا ECCI
الاستخبارات الألمانية ـ تحذيرات ألمانية متصاعدة من خطر المواجهة مع روسيا
حذّر رئيس جهاز الاستخبارات الخارجية الألماني، مارتن ييغر، من أي تصعيد مع روسيا، مشيرًا بعبارة لافتة إلى أن “ألمانيا وأوروبا باتتا بالفعل تحت نيران القصف”، في إشارة رمزية إلى حجم الضغط والتهديدات المستمرة التي تمارسها موسكو ضد الغرب. وأضاف أن “الوضع قد يتفاقم في أي لحظة إذا لم يتم التعامل معه بجدية واستعداد كامل”. وأمام لجنة الرقابة البرلمانية المعنية بمتابعة أجهزة الاستخبارات الفيدرالية، قدّم ييغر عرضًا مقلقًا لما وصفه بـ”تلاشي الحدود بين السلم والحرب” في القارة الأوروبية. وأكد أن أوروبا تعيش حالة “سلام جليديّ” يشبه الهدوء الذي يسبق العاصفة، وقد يتحول إلى صراع مفتوح في أي لحظة، في ظل ازدياد الأنشطة الروسية العدائية في البر والبحر والفضاء الإلكتروني.
يقول سنان سيلين، رئيس جهاز الاستخبارات الداخلية الألماني: “إن اتفاق السلام في غزة لا يعني أن هناك سببا لإصدار بيان واضح عندما يتعلق الأمر بحماس وأنشطتها في أوروبا وألمانيا”. تابع سيلين: “إن حماس لديها بنية تحتية في ألمانيا، وقدر مكتبه أن حوالي 32500 شخص يعيشون في البلاد يمكن تصنيفهم كمتطرفين أجانب. وهذه زيادة بنسبة 6% عن العام 2024”.
خطر التصعيد الروسي
يرى جهاز الاستخبارات الفيدرالي الألماني (BND) أن خطر التصعيد في العلاقات بين موسكو والغرب بات وشيكًا. وقال ييغر أمام النواب الألمان: “لا يمكننا أن نجلس مكتوفي الأيدي ونفترض أن هجومًا روسيًا محتملًا لن يحدث قبل عام 2029 على أقرب تقدير، نحن بالفعل تحت وطأة التهديدات”.
تحذيرات ييغر تأتي متوافقة مع تصريحات وزير الدفاع الألماني بوريس بيستوريوس، الذي حذّر في أكثر من مناسبة خلال العام 2025 من أن روسيا قد تكون مستعدة لشن هجوم عسكري على أراضي حلف شمال الأطلسي (الناتو) بحلول عام 2029، إن لم يكن قبل ذلك. ويرى بيستوريوس أن “المؤشرات الاستراتيجية والعسكرية تشير إلى أن الكرملين يسعى لاستعادة قدراته القتالية بسرعة بعد حرب أوكرانيا، ويعمل على تعبئة اقتصاده وجيشه على أساس صراع طويل الأمد مع الغرب”.
روسيا تختبر الغرب
بحسب ييغر، فإن موسكو تسعى إلى “اختبار حدود الغرب” وإضعاف تماسكه من خلال مزيج من الأدوات السياسية والعسكرية والنفسية. وأكد: “إن الهدف الروسي يتمثل في تقويض الناتو، وزعزعة استقرار الديمقراطيات الأوروبية، وتقسيم المجتمعات، وترهيبها من الداخل”. وأضاف بلهجة تحذيرية: “أوروبا، إذا أصابها الخوف والجمود، ستُدفع نحو تدمير نفسها، وهو ما تسعى إليه موسكو بمهارة”. أوضح رئيس الاستخبارات: “أن روسيا تحاول جعل أوروبا المتفوقة اقتصاديًا تعتمد عليها سياسيًا واستراتيجيًا، سواء عبر الطاقة أو من خلال الضغط النفسي والدعاية الموجهة. وبيّن أن موسكو تستخدم جميع الوسائل الممكنة لإضعاف الإرادة الأوروبية، بدءًا من الحملات الإلكترونية والمعلوماتية إلى العمليات السرية والتجسس وحتى الاغتيالات المستهدفة”.
أساليب المواجهة الروسية: حرب هجينة متعددة الأوجه
استعرض ييغر أمام النواب الألمان قائمة طويلة من الأساليب التي تعتمدها موسكو في حربها الهجينة ضد الغرب، تشمل: التلاعب بالانتخابات والرأي العام عبر شبكات الدعاية الإلكترونية والمنصات الإعلامية الموالية. التضليل الإعلامي الذي يستهدف نشر الشكوك حول السياسات الأوروبية وتقويض الثقة في المؤسسات الديمقراطية. الترهيب والابتزاز، سواء من خلال التهديدات النووية غير المباشرة أو عبر تصعيد الانتهاكات الجوية المتكررة. التجسس والتخريب الصناعي، خصوصًا ضد منشآت الطاقة والبنية التحتية الحيوية مثل الكابلات البحرية ومحطات الكهرباء. العمليات السرية مثل الاغتيالات الموجهة أو محاولات تسميم المعارضين المقيمين في الخارج. تابع ييغر: “ليس كل هذا جديدًا، لكن ما يثير القلق هو تراكم هذه الأنشطة وارتباطها ضمن استراتيجية متكاملة، تُحوّل الحوادث المنعزلة إلى نمط جديد من المواجهة المستمرة والمنظمة”.
أوروبا في اختبار صعب
تحذيرات رئيس الاستخبارات الألماني تعكس إدراكًا متزايدًا في برلين بأن البيئة الأمنية في أوروبا قد دخلت مرحلة مختلفة تمامًا عما بعد الحرب الباردة. فبعد عقود من الاعتماد على الردع الأمريكي عبر الناتو، تجد الدول الأوروبية نفسها مطالبة بتعزيز قدراتها الدفاعية الذاتية، ومضاعفة الإنفاق العسكري، وتطوير أدوات الاستخبارات والتكنولوجيا لمواجهة حرب هجينة لا تعتمد فقط على الصواريخ والدبابات، بل على المعلومات والتضليل والاختراقات السيبرانية.
تشير تقارير ألمانية إلى أن موسكو كثفت أنشطة التجسس في الأراضي الأوروبية خلال العامين 2023/2024، رغم عمليات الطرد المتكررة للدبلوماسيين الروس من برلين وباريس وبراغ. كما تم رصد محاولات متزايدة لاختراق أنظمة الحواسيب الحكومية الألمانية، خاصة تلك المرتبطة بقطاع الطاقة والاتصالات والدفاع.
ضرورة تكيّف الاستخبارات الألمانية مع زمن الحرب
شدد ييغر على أن جهاز المخابرات الفيدرالية الألمانية يجب أن يكون قادرًا على “العمل في ظروف حرب حقيقية”، بما في ذلك حالة نشوب حرب تشارك فيها ألمانيا بصورة مباشرة. وأوضح: “أن التحضير المسبق والتخطيط الاستراتيجي ضرورة قصوى، لأن زمن التحذيرات النظرية قد انتهى، ونحن نواجه الآن واقعًا جديدًا”. وأضاف: “أن جهازه يعمل بالفعل على تحديث بنيته التشغيلية وتطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي في مجال تحليل المعلومات، وتعزيز التنسيق مع أجهزة الاستخبارات الأوروبية، خصوصًا الفرنسية والهولندية، لمواجهة التهديدات العابرة للحدود”. وأكد: “أن حرب أوكرانيا كانت بمثابة جرس إنذار لأوروبا بأكملها، دفعها إلى إدراك أن السلام لم يعد مضمونًا”.
تحوّل في الفكر الأمني الألماني
يعكس خطاب ييغر تحوّلًا ملحوظًا في الفكر الأمني الألماني، الذي لطالما اتسم بالحذر بعد الحرب العالمية الثانية. فبينما كانت برلين تتجنب الحديث عن الاستعداد للحرب لعقود طويلة، بدأت اليوم تتحدث بصراحة عن ضرورة “الجاهزية للنزاع المسلح” وإعادة بناء منظومة الردع والدفاع. يأتي هذا التغيير في ظل سياسة “التحوّل الزمن” (Zeitenwende) التي أعلنها المستشار أولاف شولتس عقب حرب أوكرانيا في فبراير 2022، والتي تهدف إلى تعزيز قدرات الجيش الألماني وتخصيص مئات المليارات لتطوير التسليح والتقنيات الدفاعية.
لكن رغم هذه الخطوات، لا تزال النقاشات داخل ألمانيا منقسمة حول مدى استعداد البلاد للمشاركة في مواجهة عسكرية محتملة. فبينما يرى البعض أن الحذر والدبلوماسية يجب أن يظلا الخيار الأول، يؤكد آخرون أن تجاهل التحذيرات الروسية قد يؤدي إلى تكرار أخطاء الماضي.
الحرب النفسية والتعبئة الإعلامية
لفت ييغر الانتباه إلى أهمية البعد النفسي والإعلامي في الصراع الراهن، مشيرًا إلى أن “روسيا لا تسعى فقط إلى تحقيق نصر عسكري، بل إلى إحداث انقسام داخلي في المجتمعات الأوروبية من خلال نشر الخوف وفقدان الثقة بالمؤسسات”. وأضاف: “أن وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت ساحة معركة جديدة تُدار فيها حملات التضليل بدقة عالية تستهدف الشباب والرأي العام في الدول الديمقراطية”. ودعا رئيس الاستخبارات إلى رفع مستوى الوعي المجتمعي حول “حرب المعلومات”، وتشجيع المواطنين على التحقق من مصادر الأخبار، والتعامل بحذر مع الروايات التي تثير الانقسام أو تزرع الشكوك حول وحدة الاتحاد الأوروبي.
أوروبا أمام مفترق طرق
شدد ييغر على أن “التهديدات التي تواجهها أوروبا اليوم لا تقتصر على التهديدات العسكرية فحسب، بل تشمل تحديات وجودية تمسّ تماسكها الداخلي وقيمها الديمقراطية”. وأضاف: “أن المعركة المقبلة لن تُكسب فقط في ميادين القتال، بلا في العقول والشبكات والمعلومات”. وأكد: “أن الاستعداد المسبق والوعي الاستراتيجي هما السبيل الوحيد لتفادي السيناريوهات الكارثية. فالتاريخ الأوروبي يعلمنا أن تجاهل الإشارات المبكرة للأزمات يؤدي دائمًا إلى الثمن الأغلى”.
يبدو أن ألمانيا التي طالما اعتبرت نفسها ركيزة الاستقرار الأوروبي تتجه نحو مرحلة أكثر حذرًا وصرامة في التعامل مع روسيا، في ظل إدراك متزايد بأن الحرب في أوكرانيا قد تكون مجرد بداية لفصل جديد من التوتر الجيوسياسي بين الشرق والغرب، قد يحدد ملامح الأمن الأوروبي لعقود قادمة.
رابط مختصر.. https://www.europarabct.com/?p=110556
