خاص ـ المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات ـ ألمانيا وهولندا ECCI
الاتحاد الأوروبي ـ ماذا لو لم يُمنح قرض التعويضات لأوكرانيا؟
بعد قمةٍ غير حاسمة، أصدر زعماءُ الاتحاد الأوروبي تعليماتٍ للمفوضية الأوروبية باستكشاف “خياراتٍ” لتلبية الاحتياجات المالية والعسكرية لأوكرانيا للعام 2026 ولعام 2027. فكيف يمكن أن تبدو هذه الخيارات؟. يبدو أن الوقتَ ينفد بسرعة بالنسبة للاتحاد الأوروبي لإيجاد طريقةٍ لدعم الالتزامات المالية والعسكرية لأوكرانيا قبل نفاد تدفّق المساعدات الأجنبية، التي تأثرت بشدةٍ بسبب انسحاب إدارة ترامب. لا يمكن أن تكون المخاطر أعلى من ذلك؛ فقد أكد الرئيس فولوديمير زيلينسكي: “إن بلاده ستحتاج إلى التمويل منذ بداية العام 2026”. مضيفًا: “لا أعلم إن كان ذلك ممكنًا، ليس كل شيء يعتمد علينا”.
أوقفت بلجيكا في أكتوبر 2025 خطةً رائدةً لاستخدام الأصول المجمّدة للبنك المركزي الروسي وإصدار قرضٍ بقيمة 140 مليار يورو لكييف. وبصفتها المالكَ الرئيسي لهذه الأصول، تخشى بلجيكا من أن تُترك وحدها في مواجهة ردّ موسكو، وتطالب بضماناتٍ قاطعةٍ لضمان التضامن التام بين الدول الأعضاء. ورغم أن مبدأ قرض التعويضات حظي بدعمٍ واسعٍ من معظم العواصم، فإنه لا يزال من غير الواضح ما إذا كان الاتحاد الأوروبي سيكون قادرًا على إقناع رئيس الوزراء البلجيكي بارت دي ويفر بحلول الوقت الذي يجتمع فيه الزعماء مرةً أخرى في ديسمبر 2025 في قمةٍ حاسمة. ومن المتوقع أن تقدم المفوضية الأوروبية ورقةَ خياراتٍ نوفمبر وديسمبر 20265، تحدد البدائل الممكنة لقرض التعويضات، من الأفضل إلى الأسوأ.
قرض التعويضات الأصلي
رغم مجموعة الأسئلة والمخاوف التي أثارتها الحكومةُ البلجيكية، فإن المفوضية تميل إلى التمسك بفكرتها الأصلية: قرض التعويضات. بموجب الخطة التجريبية، سيحوّل “يوروكلير”، وهو مركز إيداعٍ مركزي للأوراق المالية في بروكسل، الأصولَ الروسية المُجمّدة إلى المفوضية، التي ستستخدمها بدورها لإصدار قرض تعويضاتٍ لأوكرانيا. ويُقدّر هذا القرض بمبلغ 140 مليار يورو، يُصرف تدريجيًا وبشروط. لن يُطلب من أوكرانيا سدادُ القرض إلا بعد موافقة روسيا على تعويض الأضرار الناجمة. بعد ذلك، ستسدد المفوضية الأوروبية ديونَها لـ”يوروكلير”، وستسدد “يوروكلير” ديونَها لروسيا، مُكملةً بذلك الدائرة، ومن الناحية النظرية تتجنب المصادرة.
اعترفت أورسولا فون دير لاين في أكتوبر 2025 بأن الخطة “ليست سهلة”، لكنها أصرت على أنها “سليمة من الناحية القانونية”، ويمكن حل جميع الأسئلة العالقة. يقول مسؤولون في المفوضية، في أحاديثٍ خاصة، إن الحالة الهشة التي تعيشها الميزانياتُ الوطنية سوف تثبت في نهاية المطاف أنها الحجةُ الأقوى لصالح الحل الحاسم.تقول رئيسة الوزراء الدنماركية ميت فريدريكسن، وهي تقف إلى جانب فون دير لاين: “بالنسبة لي، لا يوجد بديلٌ لقرض التعويضات”. متابعةً: “إنها الطريقة الوحيدة للمضي قدمًا، وأنا أحب حقًا فكرة أن تدفع روسيا ثمن الأضرار التي أحدثتها وارتكبتها في أوكرانيا”.
قرض التعويضات الموسّع
من أكثر الشكاوى تكرارًا من بلجيكا أن خطةَ المفوضية الأوروبية تعتمد حصريًا على الأصول المودعة في “يوروكلير”، والتي تبلغ حوالي 185 مليار يورو. (سيتعين على الاتحاد الأوروبي تخصيص 45 مليار يورو لتغطية خط ائتمانٍ مستمرٍ لمجموعة الدول السبع، مدعومًا بأرباحٍ غير متوقعة، والذي سيزول). ومع ذلك، فقد صرحت المفوضية علنًا منذ العام 2022 بأن أصول البنك المركزي الروسي المتجمدة في مختلف أنحاء الاتحاد الأوروبي تبلغ قيمتها نحو 210 مليارات يورو. وهذا يعني أنه قد يكون هناك نحو 25 مليار يورو لا يمكن حسابها. ورفضت المفوضية الكشفَ عن مكان الأصول الأخرى.
بحسب دراسةٍ حديثةٍ أجراها قسمُ الأبحاث في البرلمان الأوروبي، فإن فرنسا تحتفظ بنحو 19 مليار يورو وهو ما يتفق مع 22.8 مليار يورو التي تم الإبلاغ عنها في بداية حرب أوكرانيا 2022 وتحتفظ لوكسمبورغ بنحو 10 إلى 20 مليار يورو. وقد أعربت الدولتان في البداية عن مخاوفهما بشأن قرض التعويضات. قدّم وزيرا المالية والخارجية في لوكسمبورغ رقمًا مختلفًا تمامًا. وقالا: “إن قيمة أصول البنك المركزي الروسي المجمدة في لوكسمبورغ أقل من 10,000 يورو”. يمكن للمفوضية البحث عن الأصول المتبقية على أراضي الاتحاد الأوروبي وإضافتها إلى مقترحها، مما يُعالج إحدى الشكاوى الرئيسية لبلجيكا. ولكن إذا كانت هذه الأصول محفوظة في حساباتٍ خاصة، فإن مبدأ السرية المصرفية قد يُعقّد المهمة.
وإذا جمعنا هذه المبالغ، فإنها ستظل أقلَّ بكثيرٍ من المبلغ الموجود في بلجيكا، والذي سيظل يشكل محورَ الاقتراح. وتحتفظ المملكة المتحدة وكندا واليابان أيضًا بحصصٍ من الأصول السيادية الروسية، ولكن نظرًا لأنها ليست تحت سلطة الاتحاد الأوروبي، فإن المفوضية لا يحق لها تجميعها.
الدين المشترك دون الأصول
إذا أصرّ البلجيكيون على رفضهم، فستنهار خطةُ قروض المفوضية، وسيضطرون إلى جمع التمويل من مصادر أخرى. أحد الخيارات هو الأسواق المالية. يمكن للمفوضية إصدارُ ديونٍ جديدةٍ نيابةً عن جميع الدول الأعضاء لدعم قرضٍ جديدٍ لأوكرانيا. وقد تم ذلك في السنوات الأولى من الحرب لوضع برامج للمساعدات المالية الكلية، والتي سيتعين على كييف سدادُها في وقتٍ ما. ولكن إثقال كاهل أوكرانيا، وهي دولةٌ تتعرض للتهديدات الروسية وتواجه تكاليف إعادة إعمارٍ هائلة، بقرضٍ آخر لسداد ديونها قد يبدو غيرَ منتج. كبديل، يمكن للمفوضية إصدارُ دينٍ مشتركٍ لتوزيع المنح، أو بعبارةٍ أخرى، التبرعات. في هذا السيناريو، سيقع العبء المالي على عاتق الدول الأعضاء نفسها، وهو احتمال يصعب على العديد من العواصم التي تعاني من ضائقةٍ ماليةٍ وضيقِ الحيز المالي لديها. أكد دي ويفر: “إذا أرادت أوروبا خلق المال، فبإمكانها خلقه. هذا ما يُسمى بالدين. لكن، بالطبع، هذا أيضًا موضوع حساس للغاية”.
الاتفاقيات الثنائية
وإذا لم تتحقق أي إجراءاتٍ على مستوى الاتحاد الأوروبي، فقد تكون الاتفاقياتُ بين الدول خيارًا مطروحًا ولن تكون جديدةً. منذ بدء حرب أوكرانيا في فبراير 2022، قدمت الدولُ الأعضاء مساعداتٍ لأوكرانيا على أساسٍ ثنائيٍ بحت. وقد ساعد ذلك على تجاوز حق النقض (الفيتو) الذي تتمتع به المجر بشأن المساعدات العسكرية، ولكنه تسبب في خلافاتٍ واسعةٍ بين العواصم. وفقًا لمعهد “كيل”، تُعدّ ألمانيا (17.7 مليار يورو)، والدنمارك (9.2 مليار يورو)، وهولندا (8 مليارات يورو)، والسويد (7.1 مليار يورو) من أبرز مورّدي الأسلحة والذخيرة إلى أوكرانيا. في المقابل، تتخلف دولٌ مثل إيطاليا وإسبانيا بشكلٍ ملحوظ، رغم حجمها الاقتصادي الكبير. يمكن تكرار ديناميكيةٍ مماثلةٍ لمواصلة دعم أوكرانيا في السنوات القادمة، بما يشمل الاحتياجات المالية والعسكرية. ويمكن للمفوضية أن تتولى دور المنسق لضمان الاتساق بين مختلف الجهات المعنية.
مع ذلك، ينطوي هذا النموذج على عيوبٍ جوهرية، إذ سيكون عرضةً للتقلبات الانتخابية. فقد يقرر رئيسُ وزراءٍ جديد تقليص المساعدات أو إنهاءها، مما يُجبر الدول الأعضاء الأخرى على زيادة مساهماتها وتعويض هذا الانقطاع. لهذا السبب، تُفضّل المفوضية تقديم حلٍ على مستوى الاتحاد الأوروبي يكون محصنًا من التقلبات السياسية. وقد ألهم هذا المنطق إنشاءَ “مرفق أوكرانيا” في عام 2024، وهو أداةُ ميزانيةٍ خاصة بقيمة 50 مليار يورو. والأمر الحاسم هو أن المبلغ المتبقي لدى المرفق هو 18 مليار يورو فقط وهو أقلُّ كثيرًا من نحو 60 مليار يورو من المساعدات الخارجية التي ستحتاجها ميزانية كييف للفترة 2026 ـ 2027.
قرض مؤقت
في حين أن قمة ديسمبر تُعتبر بمثابة وقتٍ لاتخاذ القرارات من قِبل القادة، يمكن لبلجيكا (أو أي دولةٍ عضوٍ أخرى) طلبُ وقتٍ إضافي لمناقشة الخيارات. وعندما سٌئلت فون دير لاين عمّا إذا كان ديسمبر يُعتبر “الموعد النهائي المطلق” بعد قمة أكتوبر 2025، لم تُحدد أورسولا فون دير لاين موعدًا محددًا. إذا لم يتم اتخاذ قرارٍ واستمرت المشكلة إلى العام 2026، فقد يكتفي الاتحاد الأوروبي بحلٍّ مؤقت: قرضٍ أصغرَ يغطي الاحتياجاتِ الأكثر إلحاحًا لأوكرانيا لمدة ستة أشهر. سيكون هذا القرض بمثابة حلٍّ مؤقتٍ ريثما تستمر المناقشات حول الأصول السيادية على أعلى المستويات. قد يكون من الأسهل إقناع الحكومات القلقة من ردّ فعل دافعي الضرائب، ولكنه لن يؤدي إلا إلى تأجيل حل المشكلة. وفي نهاية المطاف، سيتعين على القادة اتخاذُ قرارٍ بشأن ما يشكل عمليةً ماليةً غير مسبوقة.
النتائج
تعكس المناقشات الأوروبية حول تمويل أوكرانيا للفترة 2026 ـ 2027 عمق المأزق المالي والسياسي الذي يواجهه الاتحاد الأوروبي، بعد ثلاث سنوات من الحرب واستنزاف الموارد. فـ”قرض التعويضات” الذي يُفترض أن يُموّل من الأصول الروسية المجمّدة بات يمثل اختبارًا مزدوجًا: لقدرة الاتحاد على تجاوز الخلافات القانونية والسيادية. إلا أن الأزمة تُظهر بوضوح هشاشة التضامن الأوروبي، إذ تقف بلجيكا في مواجهة المفوضية مطالبة بضماناتٍ قانونية وسياسية ضد انتقام روسي محتمل، في حين تلتزم دول أخرى الحذر خشية تداعيات اقتصادية أو قانونية غير متوقعة.
تبدو الخيارات البديلة كالقروض المشتركة أو الاتفاقيات الثنائية بدائل مؤقتة أكثر من كونها حلولًا دائمة. إصدار دينٍ مشترك جديد سيضع ضغوطًا إضافية على ميزانيات الدول المتعثّرة أصلاً، فيما سيؤدي النظام الثنائي إلى تفاوت في المساهمات وفقدان التنسيق الاستراتيجي. ولعلّ هذا ما يجعل المفوضية الأوروبية متمسكة بنهج مركزيّ تدار فيه الموارد على مستوى الاتحاد، لضمان الاستمرارية والمساءلة الجماعية. غير أن هذا التمسك يصطدم بتحدياتٍ سياسية عميقة، أبرزها الانقسامات بين الشمال والجنوب الأوروبيين، والخلافات حول حدود “التكامل المالي” في زمن الأزمات.
يبدو أن الاتحاد الأوروبي على المدى القصير، سيتجه إلى اعتماد حلٍّ مرحلي، كقرضٍ أصغر أو تمديدٍ لمرفق أوكرانيا القائم لتغطية الاحتياجات الفورية. لكنه، من الناحية الاستراتيجية، سيواجه استحقاقًا أكبر: هل يستطيع الاتحاد الأوروبي التحول من نهج إدارة الأزمات إلى نهجٍ مؤسسيّ دائم يضمن تمويل الحروب وإعادة الإعمار؟ هذا السؤال لا يرتبط فقط بأوكرانيا، بل بمستقبل “القدرة المالية المشتركة” التي تم اختبارها سابقًا في جائحة كوفيد-19.
سيعتمد مسار الحل على مدى قدرة المفوضية على بناء توافق قانوني وسياسي حول استخدام الأصول الروسية دون المساس بالقانون الدولي. أما في الأفق البعيد، فإن نجاح “قرض التعويضات” أو فشله سيحدد مدى استعداد الاتحاد الأوروبي لتحمل مسؤولياته كفاعلٍ جيوسياسي مستقل. فإذا نجح المشروع، فسيكرّس سابقة تاريخية تمنح أوروبا استقلالًا ماليًا واستراتيجيًا في مواجهة الأزمات. أما إذا فشل، فسيكشف حدودَ الاتحاد في تحويل طموحاته إلى أدواتٍ عملية، ويؤكد أن أوروبا لا تزال رهينة حساباتٍ وطنية متباينة أكثر من كونها وحدة سياسية متماسكة.
رابط مختصر.. https://www.europarabct.com/?p=111205
