المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والإستخبارات ـ المانيا و هولندا
الإخفاق الاستخباراتيّ في محاربة الإرهاب… ونماذجُ عن حادثة لوكربي وهجمات 11 سبتمبر
بقلم : الدكتور جمال دملج ـ كاتب لبنانيّ
- قانون العدالة ضدّ رعاة الإرهاب”؟
- أنّ العبوة التي فجّرت الطائرة المنكوبة فوق لوكربي كانت في الأصل حقيبة هيرويين مغطّاة أمنيًّا من قبل وكالة مكافحة المخدّرات الأميركيّة،
- مجموعة سرّيّة أميركيّة مرتبطة بأجهزة رسميّة تاجرت بالمخدّرات والسلاح
- “أصنام صاحبة الجلالة” عندما تحدّثتُ عن أنّ ما يُسمّى بـ”اللجنة الدوليّة لمكافحة المخدّرات” التي أوعَز الأميركيّون بتشكيلها عام 1987
- “طبخة التعويضات”
- التنظيمات الإرهابيّة على شاكلة “داعش” ومشتقّاته الأصوليّة والتكفيريّة باتت بمثابة “بيضة القبّان” في موازين الأطراف المتصارعة
بون ـ ثمّة علامتان فارقتان ميّزتا طريقة تعاطي أجهزة الاستخبارات الغربيّة مع حدثيْن هامّيْن لا يزال كلٌّ منهما يعشّش في خلايا الذاكرة الوجدانيّة للناس في مختلف أنحاء العالم، أوّلهما يتعلّق بالإرهاب الراديكاليّ الذي تجلّى في عمليّة تفجير طائرة الـ”بان أميريكان” فوق مدينة لوكربي الاسكوتلانديّة عام 1988، وثانيهما يتمثّل في الإرهاب الأصوليّ الذي تمكّن من تحمُّل تبعات المسؤوليّة الكاملة عن تنفيذ هجمات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) عام 2001 على كلٍّ من برجيْ مركز التجارة العالميّ في نيويورك ومقرّ وزارة الدفاع (البنتاغون) في واشنطن.
الحديث عن هاتين العلامتين الفارقتين، وإن كان قد انطمر بالتدرّج على مرّ السنوات الطويلة الماضية تحت طبقات متراكمة من غبار الزمن، ولكنّ معانيه غالبًا ما ظلّت تحضر بين الحين والآخر في أدبيّات الباحثين والمهتمّين، ولا سيّما في أوساط أولئك الذين لا يزالون يعتقدون بشدّة أنّ تقصير الأجهزة الاستخباراتيّة في مجال التعاطي مع الظروف التي هيّأت الأجواء الملائمة لوقوع الحدثين، بصيغتهما الراديكاليّة والأصوليّة، هو ذات التقصير الذي لا يزال يحول في الموازاة لغاية الوقت الراهن دون تحقيق النصر النهائيّ والأكيد على الإرهاب. الاستخبارات
حكاية كولمان
في الشقّ المتعلّق بالصيغة الراديكاليّة، يمكن البدء من الفرضيّة القائلة بأنّ رئيس مكتب وكالة مكافحة المخدّرات في سفارة الولايات المتّحدة الأميركيّة في جزيرة قبرص مايكل هارلي لم يكن يعرف خلال ذلك النهار البعيد من عام 1986 أنّ ليستر كولمان الذي اتّصل به هاتفيًّا ليطلب منه موعدًا عاجلًا بحجّة أنّه مراسل صحافيّ وصل للتوّ من واشنطن هو في الواقع موظّف متفرِّغ في جهاز المخابرات العسكريّة الأميركيّة، تمامًا مثلما لم يكن كولمان يعرف بدوره أيضًا أنّ اتّصاله وقتذاك سوف يؤهّله للكشف لاحقًا عن حقائقَ مذهلةٍ تُثبت أنّ العوامل التي أدّت إلى التسبُّب بحادثة لوكربي عام 1988 نجمَت في الأساس عن ذلك “التقصير الاستخباراتي” الذي أدّى إلى “تجاهُل” هويّة الجاني الحقيقيّ.
“في قبضة الأخطبوط”
تفاصيل هذه القضيّة القديمة التي كان كولمان قد فنَّدها في كتابه الصادر عام 1994 تحت عنوان “في قبضة الأخطبوط” يُفترَض أن يكتسَب استحضارها في الوقت الحاليّ أهمّيّةً بالغةً، ولا سيّما أنّ الولايات المتّحدة؛ ومنذ موافقة سلطاتها التشريعيّة عام 2016 على تفعيل “قانون العدالة ضدّ رعاة الإرهاب” الذي يسمح لعائلات ضحايا هجمات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) عام 2001 في نيويورك وواشنطن بمقاضاة المملكة العربيّة السعوديّة في المحاكم الفيديراليّة الأميركيّة، بدت كأنّها مصمِّمة على استنساخ نفس السيناريو الذي اعتُمد سابقًا من قِبل عائلات ضحايا حادثة لوكربي مع الجماهيريّة الليبيّة، ما أدّى وقتذاك إلى إلزام طرابلس الغرب بدفع تعويضات ماليّة هائلة بقيمة مليارين وسبعمئةِ مليونِ دولار. الاستخبارات
بين هارلي والكسّار
يقول كولمان في كتابه إنّ المخابرات العسكريّة الأميركيّة استهدفَت من وراء إيفاده إلى قبرص التحقّق من صدقيّة معلومات كانت قد تلقّتها عن أنّ عناصر وكالة مكافحة المخدّرات في نيقوسيا “يتجاوزون أُطر الصلاحيّات التي تحدّدها لهم وظائفهم، وذلك من خلال إجراء اتّصالات مباشِرة مع جماعات راديكاليّة فلسطينيّة”، الأمر الذي سرعان ما تمكّن من تأكيده إثر اكتشافه أنّ رئيس الوكالة مايكل هارلي، ونائبه فرِد غانم، يتواصلان بشكل دوريّ مع تاجر السلاح والمخدّرات السوريّ منذر الكسّار، قبل أن يكتشف لاحقًا أنّ الأمين العامّ للجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين – القيادة العامّة أحمد جبريل يتواصل بدوره بشكل دوريّ مع الكسّار أيضًا، وأنّ الرجلين اجتمعا وجهًا لوجهٍ قبل أيّام قليلة من وقوع حادثة لوكربي التي أودت بحياة مئتين وسبعين ضحيّة.
حكاية الـ”تايم”
يؤكّد كولمان أنّ العبوة التي فجّرت الطائرة المنكوبة فوق لوكربي كانت في الأصل حقيبة هيرويين مغطّاة أمنيًّا من قبل وكالة مكافحة المخدّرات الأميركيّة، قبل أن يتمّ استبدالها في مطار فرانكفورت، الأمر الذي كانت قد أشارت إليه مجلّة “تايم” الأميركيّة في عددها الصادر بتاريخ السابع والعشرين من شهر نيسان (أبريل) عام 1992. الاستخبارات
أي قبل صدور الكتاب بنحو عامين، وذلك عندما اتّهمت المجلّة منذر الكسّار بأنّه ساعد مجموعة أحمد جبريل على وضع الحقيبة الملأى بالمتفجرّات في طائرة الـ”بان أميريكان”، بعد أن اتّفق الرجلان على ذلك خلال عشاء جمعهما في مطعم باريسيّ في خريف عام 1988، مشيرةً إلى أنّ الكسّار لعب حينذاك “لعبة مزدوجة”، إذ إنّه تعاون مع جبريل، ولكنّه أبلغ جهات أميركيّة بالأمر، وموضحةً أنّ الكسّار أقام علاقات مع مجموعة سرّيّة أميركيّة مرتبطة بأجهزة رسميّة تاجرت بالمخدّرات والسلاح بهدف التغلغل في صفوف “منظّمات إرهابيّة” والعمل على تأمين الأجواء اللازمة للإفراج عن الرهائن الأميركيّين الذين كانوا محتجَزين في لبنان. الاستخبارات
أوكار الجواسيس
في هذا السياق، لا بدّ من الإشارة إلى ما كنتُ قد كشفتُ عنه في كتابي الصادر عام 2013 تحت عنوان “أصنام صاحبة الجلالة” عندما تحدّثتُ عن أنّ ما يُسمّى بـ”اللجنة الدوليّة لمكافحة المخدّرات” التي أوعَز الأميركيّون بتشكيلها عام 1987 لم تكن “دوليّة” بقدْر ما كانت تتشكّل من ممثِّلين للدول التي تمرُّ عبْرها عادةً “تهريبات” الكسّار؛ وتحديدًا قبرص وألمانيا الغربيّة (وقتذاك) والولايات المتّحدة الأميركيّة، وهي اللجنة التي لم يكن مستغرَبًا على الإطلاق أن تتّخذ من نيقوسيا مقرًّا رئيسيًّا لها، نظرًا لأنّ كافّة المدن القبرصيّة الكبرى اشتهرَت في حينه بأنّها “أوكار للجواسيس”، تمامًا مثلما لم يكن مستغرَبًا على الإطلاق أيضًا أن تتلقّى الدعم المادّيّ والمعنويّ من أجهزة أمنيّة أميركيّة، نظرًا لأنّ وكالة المخابرات المركزيّة (سي أي إي) اشتهرَت في الموازاة بتمويل عمليّاتها السرّيّة من خلال عائدات تجارة السلاح والمخدّرات. الاستخبارات
“شراء السلام”
ولعلّ ما يُفترَض أن يكون في غاية الأهمّيّة هنا هو التذكير بأنّه ما أن تمّ الإعلان عن موافقة الجماهيريّة الليبيّة عام 2003 على دفع تعويضات بقيمة مليارين وسبعمئة مليون دولار لعائلات ضحايا حادثة لوكربي، حتّى سارع وزير الخارجيّة الليبيّ (وقتذاك) عبد الرحمن شلقم إلى إطلاق موقف مؤدّاه أنّ تلك الموافقة لا تعني بالضرورة اعترافًا بأنّ بلاده تتحمّل مسؤوليّة التسبّب بالحادثة، موضحًا أنّ الغاية الأساسيّة من دفع التعويضات تتمثّل في “شراء السلام” عن طريق إغلاق ملفّ القضيّة نهائيًّا، بما من شأنه أن يؤدّي حتمًا إلى رفع العقوبات الدوليّة التي كانت مفروضة على ليبيا منذ عام 1992، وبالتالي إلى “فتح صفحة جديدة من العلاقات مع أميركا والغرب”.
“طبخة التعويضات”
هذا الموقف الذي تقاطع بالطبع مع ما أوردَه ليستر كولمان في كتابه، سواء من جهة “الدور المشبوه الذي لعبه منذر الكسّار” في حادثة لوكربي أم من جهة “التقصير الاستخباراتيّ الأميركيّ الفاضح” الذي أدّى إلى التسبّب بها، لم يأخذ خلال تلك المرحلة ما يستحقّه من الاهتمام، وذلك لأسباب عديدة، أهمّها أنّ “طبخة التعويضات” التي بلغَت حصّة كلّ عائلة من عائلات الضحايا منها عشرة ملايين دولار، كانت قد استوت على نار هادئة حينذاك، ووفقًا لجدول زمنيّ محدّد، نظرًا لأنّ الاتّفاق الذي أبرمته طرابلس مع بريطانيا والولايات المتّحدة بهذا الخصوص نصّ على أن تدفع ليبيا أربعة ملايين دولار بشكل مبدئيّ لكلّ أسرة بمجرّد رفع العقوبات الدوليّة المفروضة عليها، ويلي ذلك دفعة أخرى بالقيمة نفسها عندما تُسقط الولايات المتّحدة عقوباتها ضدّ طرابلس الغرب، ومن ثمّ دفعة أخيرة قدرها مليونا دولار لكلّ أسرة عندما تزيل واشنطن اسم ليبيا من قائمة الدول الراعية للإرهاب.
تقصير أم خداع؟
ولعلّ اللافت هنا هو أنّ ليستر كولمان الذي يملك كافّة مفاتيح القضيّة فرّ في مطلع التسعينيّات إلى السويد وحصل على حقّ اللجوء السياسيّ فيها، وذلك بعد أن قدّم كلّ ما لديه من معلومات إلى شركة “بان أميريكان”، وتحديدًا بينما كانت الإدارة الأميركيّة تحاول التنصُّل من تحمُّل مسؤوليّة دفع التعويضات عن طريق إلقاء اللوم على نظام السلامة الأمنيّ لدى الشركة، وقبل أن تُوضَع هذه المعلومات على الرفّ في أعقاب اكتمال كافّة عناصر توجيه الاتّهام إلى ليبيا بشكل أدّى إلى تغطية “التقصير” بالخداع.
أمّا منذر الكسّار، فقد ظلّ خلال تلك الفترة يعاني من أزماتِ توقيفه ومحاكمته بقضايا مختلفة؛ تارّة عام 1995 بتهمة إمداد المجموعات الفلسطينيّة التي اختطفت سفينة الركّاب الإيطاليّة “آكيلي لاورو” عام 1985 بأسلحة هجوميّة، وتارّة عام 2004 بتهمٍ تتعلّق بمبيعات أسلحة أرجنتينيّة إلى الإكوادور وكرواتيا، قبل أن يتمّ توقيفه في إسبانيا عام 2006 ويُسلَّم إلى الولايات المتّحدة عام 2009، حيث حُكم عليه بالسجن لمدّة ثلاثين عامًا إثر إدانته بالضلوع في “مؤامرة تهدف إلى قتل أميركيّين في كولومبيا” عن طريق بيع أسلحةٍ بملايين الدولارات للقوّات المسلّحة الثوريّة الكولومبيّة (فارك). الاستخبارات
وكالة المخابرات المركزيّة
وإذا كان ما تقدّم كافيًا بالتأكيد لتسليط الضوء على نوعيّة الحيل التي درجت العادة على أن تستخدمها الولايات المتّحدة في أوقات الشدّة، فإنّ ظهور مدير وكالة المخابرات المركزيّة الأميركيّة جون برينان في مطلع شهر أيّار (مايو) عام 2016 في مقابلة مع محطّة “إن بي سي” بمناسبة الذكرى الخامسة لاغتيال زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن لم يخرج عن إطار تلك الحيل، ولا سيّما أنّه قال في المقابلة “إنّ نشر تقرير كامل عن هجمات الحادي عشر من سبتمبر يمكن أن يُلحِق الضرر بالعلاقات بين الولايات المتّحدة والمملكة العربيّة السعوديّة”، قبل أن يضيف قائلًا: “… ولكنّ اللجنة المعنيّة فحصت جميع البيانات، وتوصّلت إلى استنتاج قاطع بأنّه ليست هناك أدلّة على أنّ الحكومة السعوديّة أو ممثّليها الرسميّين قدّموا مساعدات ماليّة لتنظيم القاعدة”.
المحامي كريندلر… وضروب الجنون
هذا الكلام، وإن كان المقصود منه قد فسِّر في حينه على أنّه يستهدف في المقام الأوّل إيجاد الأرضيّة اللازمة لتبادل الأدوار ما بين وكالة المخابرات المركزيّة من جهة وما بين مجلسيْ الشيوخ والنوّاب من جهة أخرى عن طريق التلاعب بالكلمات وبالأعصاب، ولكنّ دخول الرئيس باراك أوباما على الخطّ إثر إعلانه يوم الثامن والعشرين من شهر أيلول (سبتمبر) عام 2016 بأنّه سيبذل قصارى جهده للحيلولة دون إقرار مشروع القانون عن طريق استخدام حقّ النقض الرئاسيّ، سرعان ما أضفى على الملفّ برمّته الكثير من الأجواء الضبابيّة، ولا سيّما أنّ المحامي جيمس كريندلر الذي يتولّى قضيّة هجمات الحادي عشر من سبتمبر، على غرار ما كان قد فعله سابقًا في حادثة لوكربي، أكّد في مناسبات عدّة أنّ “وقوف سيّد البيت الأبيض ضدّ تشريع يحظى بتأييد الحزبين الجمهوريّ والديموقراطيّ، ويفتح المحاكم أمام ضحايا أسوأ هجوم إرهابيّ في تاريخ الولايات المتّحدة، سيكون ضربًا من ضروب الجنون”.
أوغست براديتو… وكلمة السرّ
وإذا كان السؤال الذي طرح نفسه وقتذاك قد تمحور حول إمكانيّة لجوء الولايات المتّحدة إلى استهداف السعوديّة بنفس السيناريو الذي استخدمَته مع ليبيا، فإنّ الإجابة ظلّت تفتح شهيّة الذاكرة لاستعادة مواقفَ ومشاهدَ قديمةٍ ومتجدّدةٍ، وعلى رأسها ما جاء على لسان الأكاديميّ في جامعة العلوم العسكريّة الألمانيّة أوغست براديتو عندما قال في مقابلة نشرتها صحيفة “دي فيلت” اليوميّة بتاريخ التاسع عشر من أيلول (سبتمبر) عام 2001: “إنّ عمليّةً بحجم ما حدث في الحادي عشر من سبتمبر ما كان لها أن تتمّ من دون مساهمة فاعلة من وكالة استخبارات بالغة التطوّر والتقدّم في بلد قد يكون هدفه جرّ حلف شماليّ الأطلسيّ إلى حرب ضدّ العالم الإسلاميّ”، الأمر الذي بدا أشبه ما يكون إلى كلمةِ سرٍّ من شأن القيام بفكّ شيفرتها أن يؤدّي إلى كشف الحقائق الكاملة عن أسباب تفشّي ظاهرة الإرهاب الأصوليّ واتّساع رقعته الجغرافيّة في مختلف أنحاء العالم، وذلك على الرغم من مرور قرابة العشرين عامًا على بدء قيام الولايات المتّحدة وحلفائها بمحاربته في عُقر داره في أفغانستان.
الاختراق المعقّد
ربّما كان من المفيد الإشارة هنا إلى أنّ المجتمع الدوليّ ظلّ منقسمًا خلال السنوات الماضية ما بين الالتزام بصدقيّة الرواية الرسميّة الأميركيّة حول تلك “هجمات سبتمبر” وما بين التشكيك بها، منذ ذلك اليوم الذي أَطلق فيه الرئيس جورج دبليو بوش شعاره الشهير “من ليس معنا فهو مع الإرهاب”، وخصوصًا لدى الأخذ في الاعتبار أنّه إذا كان في الإمكان تجاوز فرضيّة حدوث أيّ اختراق أمنيّ خطير في دولة مثل الولايات المتّحدة المعروفة بما تتمتّع به أجهزة استخباراتها، وعلى رأسها وكالة الأمن القوميّ، من قدرات فنّيّة وتقنيّة وبشريّة فائقة في مجال الرصد والتقصّي والمتابعة والردع، فإنّ ما لم يكن في الإمكان تجاوزه، بأيّ شكل من الأشكال، يتمثّل في كيفيّة توفّر القدرات التي أهّلت أسامة بن لادن للتحكّم بتنفيذ هذا الاختراق المعقّد والصعب من كهفه الموحش في جبال تورا بورا النائية. الاستخبارات
فضّ التحالف
علاوة على ذلك، فإنّ الأميركيّين، وعلى الرغم من فضّ تحالفهم مع بن لادن في ثمانينيّات القرن العشرين إثر انتهاء مرحلة “الجهاد المقدّس” ضدّ الشيوعيّين وهزيمة الجيش السوفييتيّ الأحمر في أفغانستان، ولكنّهم أبقوا أضواءهم الاستخباراتيّة الكاشفة مسلّطة عليه طيلة السنوات اللاحقة، ناهيك عن أنّ المنطق كان يقول بأنّ تلك الأضواء يُفترض أن تكون قد تكثّفت حتمًا في أعقاب اتّهام تنظيم القاعدة بتفجير مقريّْ السفارة الأميركيّة في كلٍّ من العاصمتين الكينيّة نيروبي والتانزانيّة دار السلام عام 1998، فضلًا عن أنّ أبواب البيت الأبيض بقيت مفتوحة خلال تلك المرحلة للترحيب بمسؤولي حكومة حركة طالبان التي توفّر ملاذًا لتنظيم القاعدة فوق أراضيها، وعلى رأسهم وزير خارجيّتها وكيل أحمد المتوكّل، حتّى في تلك الأيّام المظلمة من شهر آذار (مارس) عام 2001، عندما استهدف عناصر الحركة جانبًا هامًّا من جوانب تاريخ الحضارة الإنسانيّة عن طريق تفجير تماثيل بوذا وتدميرها في جبال إقليم باميان وسط أفغانستان، على الرغم من موجات الشجب والإدانة والاستنكار التي أثارتها تلك العمليّة في أماكن مختلفة من العالم.
رواية الـ”برافدا” الروسيّة
هذا الكلام، وإن كان يُفترض أن يتقاطع بشكل تلقائيّ مع مواقفَ تشكيكيّة ظلّت تُصيب صدقيّة الرواية الرسميّة الأميركيّة في الصميم؛ على غرار ما ذكرته مثلًا صحيفة الـ”برافدا” الروسيّة في عددها الصادر يوم السابع من شهر شباط (فبراير) عام 2015 عن أنّ الرئيس فلاديمير بوتين يعتزم إطلاق ما لديه من أدلّة تثبت تورّط السلطات الأميركيّة في “هجمات سبتمبر” عن طريق نشر ما في حوزة السلطات الروسيّة من صور للأقمار الصناعيّة التي تمّ التقاطها في ذلك اليوم التاريخيّ الرهيب، ولكنّه يبقى في المحصّلة النهائيّة مجرّد حبرٍ على ورقٍ طالما أنّ الحرب على الإرهاب، سواء بنسختها الأميركيّة التي بدأت في أفغانستان عام 2001 أم بنسختها الروسيّة التي بدأت في سوريا عام 2015. الاستخبارات
الخاتمة
لا تزال تختلط فيها رائحة الدم مع عبق منصّات آبار النفط وشبكات أنابيب الغاز، حيث المصالح الحيويّة باتت لغةَ العصر المتداولةَ من دون حسيب أو رقيب، وحيث التنظيمات الإرهابيّة على شاكلة “داعش” ومشتقّاته الأصوليّة والتكفيريّة باتت بمثابة “بيضة القبّان” في موازين الأطراف المتصارعة بين بعضها البعض على حدود وآفاق تلك المصالح، وحيث الدول التي تدّعي محاربة الإرهاب تنخرط في تحالفات علنيّة مع الدول التي تصنّعه وتدجّنه وتفرّخه، وحيث الفوضى العارمة لم تعُد تندرج في سياق البحث عن متطلّبات “الحاجة” وحسب، بل أصبحت تجسيدًا عمليًّا لفنون “الاختراع”.
* حقوق النشر محفوظة إلى المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والإستخبارات
رابط مختصر… https://www.europarabct.com/?p=74160