خاص ـ المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات، ألمانيا وهولندا ECCI
الأمن القومي ـ ما الذي يدفع ألمانيا لتوسيع شراكاتها خارج الناتو؟
حذّر المستشار الألماني فريدريش ميرز من أن أوروبا يجب أن تكون مستعدة لرسم مسارها الخاص، بشكل مستقل عن الولايات المتحدة. أكد ميرز في برلين في الثامن من سبتمبر 2025، في خطابٍ واسع النطاق حول السياسة الخارجية: “علينا أن ندرك أن علاقتنا مع الولايات المتحدة آخذة في التغير، الولايات المتحدة تُعيد تقييم مصالحها، وليس فقط منذ الأمس. ولذلك، علينا نحن في أوروبا أن نُعدّل مصالحنا”
أوروبا بحاجة إلى السعي للاستقلال الاستراتيجي
حاول المستشار الألماني الحفاظ على توازن دقيق في تعامله مع إدارة ترامب. وقد تأثر بمواقف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب المتذبذبة بشأن الحرب في أوكرانيا والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فحذّر منذ ليلة فوزه بالانتخابات في فبراير 2025 من أن أوروبا بحاجة إلى السعي للاستقلال عن الولايات المتحدة.
حاول ميرز بناء علاقة وثيقة مع ترامب، وأشاد بجهود الرئيس الأميركي في التفاوض على اتفاق سلام في أوكرانيا، وأشار إلى الأميركيين باعتبارهم شركاء “لا غنى عنهم” في مسائل الأمن وحلف شمال الأطلسي. إن تعليقات ميرز في الثامن سبتمبر 2025 الاثنين تشكل إشارة واضحة إلى أن الزعماء الأوروبيين، وراء الثناء العلني على ترامب، يستعدون بهدوء لمستقبل لم يعد فيه التحالف عبر الأطلسي هو الأساس الذي يُعتمد عليه في دفاع القارة واقتصادها.
الشراكة مع واشنطن ستكون أقل وضوحًا
أضاف ميرز وفقًا لنص خطابه: “تظل الولايات المتحدة أهم شريك لنا. نحن مستعدون للتنسيق والتعاون الوثيقين. لكن من الواضح أن هذه الشراكة ستكون أقل وضوحًا، وستكون أكثر تركيزًا على القضايا والمصالح”. تابع ميرز: “أن العلاقة مع الولايات المتحدة في المستقبل سوف تعتمد على قوتنا كأوروبيين”، مشيرًا إلى: “تعزيز هذه القوة، تحتاج أوروبا إلى البحث عن تحالفات جديدة في جميع أنحاء العالم”.
أردف ميرز قائلًا: “يتعيّن علينا أن نكون أكثر استباقية مما كنا عليه حتى الآن، في إقامة شراكات جديدة بمختلف أنحاء العالم، وتوسيع وتعزيز الشراكات القائمة”. تابع المستشارالألماني: “في حين تسعى ألمانيا إلى التعاون حيثما أمكن مع الصين بشأن قضايا مثل سياسة المناخ، فإن تزايد التنافس النظامي مع بكين يعني أن أوروبا يجب أن تبحث في أماكن أخرى لتنويع سلاسل المواد الخام والتجارة لدينا لصالح السيادة الاستراتيجية”.
تدعم ألمانيا استراتيجية “التعددية” وتعمل على موازنة نفوذ بكين من خلال بناء تحالفات مع دول في آسيا، مثل اليابان وكوريا الجنوبية والهند. يأتي ذلك ضمن التوجه الأوروبي العام لتعزيز “الاستقلالية الاستراتيجية”. هذا يعني أن أوروبا تحتاج إلى اتفاقيات تجارية وشراكات أوثق مع دول أميركا الجنوبية، وأفريقيا.
هل يترك ترامب ألمانيا تتجه نحو الصين؟
في فترة ولايته الأولى (2017–2021)، اتسمت سياسة ترامب بنهج أحادي، ووجه انتقادات شديدة للحلفاء الأوروبيين، خصوصًا ألمانيا، بسبب قضايا مثلانخفاض إنفاقها الدفاعي في الناتو، اعتمادها على الغاز الروسي سابقًا. ترامب قد لا “يمنع” صراحةً التعاون مع الصين، لكنه قد يعاقب ألمانيا اقتصاديًا أو سياسيًا إذا رأى أن شراكتها مع بكين تهدد المصالح الأميركية. وقد يُقابل هذا بضغط أمريكي شديد، ربما على شكل عقوبات اقتصادية، تهديدات بفرض رسوم جمركية على المنتجات الألمانية، تقييد التعاون الاستخباراتي والعسكري.
النتائج
تشير تصريحات المستشار الألماني فريدريش ميرز إلى مرحلة تحوّل استراتيجية تمر بها أوروبا في علاقتها مع الولايات المتحدة. فمع عودة دونالد ترامب إلى الساحة السياسية، والتذبذب الواضح في مواقفه تجاه قضايا دولية محورية مثل الحرب في أوكرانيا، تدفع برلين، وربما الاتحاد الأوروبي برمته، نحو مراجعة شاملة لعلاقاتها الأطلسية.
خطاب ميرز لا يعكس فقط قلقًا من انسحاب أميركي محتمل أو جزئي من التزاماتها الأوروبية، بل يكشف عن وعي أوروبي متزايد بأن “الاعتماد المفرط” على واشنطن لم يعد خيارًا استراتيجيًا مضمونًا. فالقارة، التي عاشت لعقود تحت المظلة الأميركية الأمنية والاقتصادية، باتت مطالَبة اليوم بإعادة تعريف نفسها كقوة مستقلة متعددة الأبعاد.
تأكيد ميرز على “التحالفات الجديدة” يعكس تطلعًا لتوسيع دائرة الشراكات العالمية بعيدًا عن الغرب التقليدي، في اتجاه الجنوب العالمي وآسيا. وهذا التحول، إن تحقق، سيمنح أوروبا مرونة أكبر، خاصة في تنويع مصادر الطاقة والتكنولوجيا والمواد الخام، وهو ما يمثل تحديًا في ظل تنامي المنافسة مع الصين، واستمرار الحرب في أوكرانيا، والضغوط الأميركية على بعض قطاعات الاقتصاد الأوروبي.
لا يمكن إغفال التحفظ الأوروبي في القطيعة الكاملة مع الولايات المتحدة. فميرز، رغم انتقاداته الضمنية، لا يزال يصف الأميركيين بأنهم “شركاء لا غنى عنهم”، وهو ما يدل على أن أوروبا لا تسعى للانفصال بقدر ما تسعى للتوازن وإعادة ضبط العلاقات.
في المستقبل القريب، يمكن توقّع تحركات ملموسة لتعزيز “السيادة الاستراتيجية الأوروبية”، منها توسيع سياسة الدفاع الأوروبي وتطوير قدرات عسكرية موحدة خارج مظلة الناتو. دعم مشروعات تكنولوجية وصناعية مشتركة تقلل من الاعتماد على واشنطن وبكين. الدفع نحو اتفاقيات تجارية مع تكتلات مثل ميركوسور، ودول الآسيان، والهند.
على المدى المتوسط، فستكون قدرة أوروبا على تحويل هذا الخطاب السياسي إلى استراتيجية تنفيذية، مرتبطة إلى حد كبير بالتوافق داخل الاتحاد الأوروبي، وخاصةً بين برلين وباريس.
رابط مخصر.. https://www.europarabct.com/?p=108942
