خاص ـ المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات، ألمانيا وهولندا ECCI
إلى أي مدى تُعدّ أوكرانيا مفتاح أمن أوروبا؟
حذر نائب رئيس البوندستاغ الألماني، أميد نوريبور، والمؤرخ المتخصص في شؤون أوروبا الشرقية، مانويل سارازين، من تجمّد الصراع في أوكرانيا، حيث أن دعم أوكرانيا يعتبر ضرورة استراتيجية لأمن أوروبا. تُعدّ أوكرانيا الأساسية للبنية الأمنية الأوروبية. فبدونها، ستنمو دوائر النفوذ الأجنبية وتُقوّض الديمقراطية. لذا، يجب على أوروبا أن تُوضّح السلام المُملَى ليس سلامًا أبدًا”.
أظهرت القمتان الأخيرتان في ألاسكا وواشنطن بوضوح أن الرئيس الأمريكي ترامب والروسي بوتين لن يُنهيا حرب أوكرانيا. إن “تجميدًا” محتملًا للنزاع على غرار اتفاقيات مينسك من شأنه أن يمنح الكرملين وقتًا لترسيخ الأراضي المحتلة، و”تطهيرها” عرقيًا، وإعدادها كقاعدة لهجمات مستقبلية.
بوتين يريد تقسيم المجتمع الأوكراني
حتى في ذلك الوقت، بين عامي 2015 و2022، لم ينعم خط التماس بالسلام قط كانت هجمات الطائرات المُسيّرة، وإطلاق النار، أمورًا شائعة. لذا، لن يحقق وقف إطلاق النار الاستقرار، ولكنه سيجلب معه بالتأكيد مخاطر جديدة. سترفع المفاوضات غير المتكافئة ثمن كل متر مربع من الأرض في شرق أوكرانيا، وفي الوقت نفسه، ستحقّق لبوتين نجاحات سياسية محلية وإثبات أن روسيا ازدادت قوةً ونفوذًا.
من المتوقع أن يسعى بوتين إلى تقسيم المجتمع الأوكراني من خلال هجمات هجينة، حتى خلال وقف إطلاق النار. فاللاجئون والعمليات الانتخابية، والأخبار الكاذبة عن غزوات جديدة كل هذا قد يُقوّض الاستقرار الداخلي. وسيناريو يُقسّم أوكرانيا إلى مناطق، ويُعفي الأراضي المحتلة من القانون الأوروبي، ويُقوّض فرص انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، سيكون كارثيًا.
تُهدَّد أوروبا بأن تصبح أكثر عرضة للابتزاز، سواء من موسكو أو واشنطن. قد يستخدم الرئيس الأمريكي ترامب الضمانات الأمنية الأوروبية لأوكرانيا كورقة ضغط لتعزيز مصالحه التجارية، والالتفاف على قواعد السوق الموحّدة، أو دفع الاتحاد الأوروبي إلى حرب اقتصادية مع الصين. ستُكلّف الحرب المُجمّدة أوروبا مبالغ طائلة؛ الدعم العسكري، وإعادة بناء البنية التحتية المُدمَّرة، وتأمين خطوط جبهة جديدة كل هذا سيُكلّف مليارات الدولارات. ستُستنزف بعثات المراقبة، أو حتى القوات المُتمركزة من قِبل الدول الضامنة، موارد حلف الناتو، بينما تسعى روسيا والولايات المتحدة إلى تحقيق مكاسب اقتصادية.
يجب ألا تصبح أوروبا دافعةً للنفقات دون حماية مصالحها. عليها ضمان بقاء أوكرانيا مندمجةً بشكل دائم في الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي. السلام في مصلحة أوروبا، ولكن ليس كل سلامٍ يخدم المصالح الألمانية والأوروبية، وبالتأكيد ليس الحفاظ على الهوية الأوكرانية.
واشنطن في عهد الرئيس ترامب لم تعد تُقدّم قيادةً موثوقة
الحقيقة الثانية التي أظهرتها قمة ألاسكا، يجب على العالم الغربي أن يُدرك أن الولايات المتحدة في عهد الرئيس ترامب لم تعد تُقدّم قيادةً موثوقة. بل على العكس، تُخالف إدارة ترامب النظام القائم على القواعد. فالرسوم الجمركية، ودعم الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا، كل هذا ينسجم بسلاسة مع استراتيجية غالبًا ما يصعب تمييزها، من حيث الصياغة والمضمون، عن دعاية الكرملين.
يجب على ألمانيا أن تستخلص النتائج
لخّص جيه. دي. فانس، نائب الرئيس ترامب، هذا النهج الجديد في مؤتمر ميونيخ للأمن، قائلاً: “ليست روسيا أو الصين هما التهديد الأكبر لأوروبا، بل تنوعها العالمي”. الدرس المستفاد هي يجب أن تكون أوروبا قادرة على تأكيد وجودها، بحزم وسرعة. ويجب أن تكون قادرة على الدفاع عن سيادتها. إن العواقب التي يتعين على الحكومة الألمانية الآن أن تسعى جاهدًة إلى تحقيقها في الاتحاد الأوروبي واضحة:
الاتحاد الدفاعي الأوروبي: ينبغي على ألمانيا تشكيل تحالف دولي للدفاع فورًا، بما في ذلك أوكرانيا. يُعدّ الشراء المشترك وتقليص البيروقراطية في قطاع الدفاع أمرًا بالغ الأهمية.
تكنولوجيا الأقمار الصناعية الخاصة: بدون الخدمات الأمريكية، ستكون أوروبا عمياء. نحن بحاجة إلى نظام استطلاع خاص بنا يضمن استقلاليتنا.
استراتيجية الاستخدام المزدوج: لا بد من التكامل بشكل أوثق بين البحث والصناعة لجعل الابتكارات المدنية والعسكرية قابلة للاستخدام.
السيادة التكنولوجية: الرقائق، والذكاء الاصطناعي، والدفاع السيبراني، والطائرات بدون طيار بدون استثمارات في هذه المجالات، لن تتمكن أوروبا من البقاء كقوة فاعلة من حيث السياسة الأمنية.
الدعم العسكري لأوكرانيا: كييف بحاجة إلى جميع الأنظمة المتاحة، بما في ذلك صواريخ كروز، فأمن أوروبا يعتمد على صمود أوكرانيا.
إعادة إعمار آمنة: يجب أن تقترن الاستثمارات بالحماية العسكرية. مشاريع البنية التحتية دون دفاع جوي هي مجرد أهداف.
نقاشٌ صريح: الأمنُ مُكلفٌ، فالمسؤوليةُ السياسيةُ تعني التعبيرَ عن هذه الحقيقةِ بوضوحٍ، دونَ تحميلِ أعباءٍ إضافيةٍ على الفئاتِ الأضعفِ في المجتمع، أو تحريضِ فئةٍ على أخرى.
على الحكومة الألمانية أن توضح هذه العواقب للشعب الألماني، فمصير أوروبا سيُحسم في كييف، فقط إذا استطاعت أوكرانيا الدفاع عن نفسها وتحقيق التنمية، ستبقى أوروبا حرّة وآمنة.
النتائج
تعكس التطورات تحوّلًا جذريًا في الخطاب السياسي الألماني والأوروبي بشأن حرب أوكرانيا، من الحديث عن الدعم الإنساني والمساعدات المؤقتة إلى التأكيد على أن دعم كييف ضرورة استراتيجية وجودية لأوروبا. فـ”تجميد الصراع”، لن يحقق السلام، بل سيمنح موسكو فرصة لإعادة ترتيب أوراقها وزيادة تغلغلها في أوكرانيا وأوروبا.
في ظل سياسة ترامب، تزداد المخاوف من انهيار نظام الضمانات الأمنية الغربي، وتحوّل العلاقة عبر الأطلسي إلى علاقة مصلحية نفعية. أوروبا، مدعوة إلى بناء ذاتها من الداخل، وتعزيز سيادتها التكنولوجية، وتأسيس اتحاد دفاعي مستقل، وربط أوكرانيا بمؤسساتها بشكل دائم.
هناك تبلور رؤية استراتيجية متقدمة تسعى إلى تحصين أوروبا من النفوذ الروسي أو التقلّب الأمريكي. غير أن هذا المسار يتطلب موارد مالية ضخمة، وإجماعًا سياسيًا داخليًا، ووضوحًا في مخاطبة الرأي العام، وهي تحديات ستواجه الحكومة الألمانية في السنوات القادمة.
مستقبليًا، إذا لم تتخذ أوروبا خطوات جادة لتقوية جبهتها الداخلية والخارجية، فقد تجد نفسها أمام مشهد جيوسياسي مُنهار، فأوكرانيا مُقسّمة، موسكو أكثر عدوانية، وواشنطن أكثر انعزالية. أما إذا نجحت في بناء منظومة أمنية واقتصادية متكاملة تضم أوكرانيا، فستكون قد خطت خطوة حاسمة نحو الاستقلال الاستراتيجي.
رابط مختصر.. https://www.europarabct.com/?p=108957
