خاص ـ المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات ـ ألمانيا وهولندا ECCI
الأمن القومي الألماني ـ ما الذي يجعل الدفاع ضد الطائرات بدون طيار أكثر تعقيداً؟
أكد وزير الدفاع الألماني بوريس بيستوريوس: “أن المبادرات الجديدة الرامية إلى تعزيز دفاعات أوروبا ضد الطائرات المسيّرة، خصوصاً في دول حلف الناتو الواقعة على الجناح الشرقي، لن تكون محصّنة تماما في وجه التهديدات الروسية”. وأوضح بيستوريوس: “أن بناء ما يُعرف بجدار الطائرات المسيّرة يعدّ مشروعاً طموحاً للغاية، مؤكداً: “أن تحقيقه بصورة كاملة أمر غير واقعي حالياً”.
مخاوف من إغراق الدفاعات الجوية للناتو بالطائرات المسيرة
أكثر من ثلاث سنوات ونصف من بداية حرب أوكرانيا غيّرت كلياً من طبيعة تصميم الطائرات المسيّرة وطرق استخدامها، كما غيّرت أساليب التصدي لها. وتشير التقارير إلى أن الطائرات الروسية الصنع من طراز “جيربيرا” وهي النسخة المحلية من طائرات “شاهد” الإيرانية شكّلت نسبة كبيرة من الطائرات المسيّرة التي انتهكت الأجواء البولندية. يخشى خبراء الدفاع أن يلجأ خصم مثل روسيا إلى إغراق الدفاعات الجوية للناتو بأسراب من الطائرات المسيّرة الرخيصة. وتمثل كيفية اعتراض هذه الطائرات منخفضة التكلفة دون استخدام صواريخ باهظة الثمن تُصمّم عادة لاعتراض الصواريخ الباليستية وتكلف ملايين الدولارات – تحدياً رئيسياً لدول الحلف.
في سبتمبر 2025، عبرت نحو 20 طائرة مسيّرة إلى الأجواء البولندية، ما أدى إلى استنفار فوري للطائرات المقاتلة وإطلاق جهود جديدة لتعزيز الدفاع الجوي على طول الجبهة الشرقية للتحالف. وقد نفت موسكو أنها تعمّدت استهداف أراضي بولندا العضو في الناتو.ودعا المفوض الأوروبي لشؤون الدفاع والفضاء، أندريوس كوبيليوس، إلى “الإسراع في بناء جدار الطائرات المسيّرة” بعد هذه الحوادث.
يشير خبراء الدفاع إلى أن أنظمة الدفاع الجوي المستخدمة لصد هجوم جماعي بالطائرات المسيّرة تختلف عن تلك المخصصة للتصدي للصواريخ الباليستية أو الجوالة. ففكرة “جدار الطائرات المسيّرة” تقوم على إنشاء دفاعات متعددة الطبقات تشمل طائرات اعتراض مسيّرة، ومدافع وصواريخ، إضافة إلى تقنيات الحرب الإلكترونية والتشويش لإرباك الطائرات المهاجمة. وفي الوقت نفسه، تسعى دول الناتو إلى تعزيز قدراتها الدفاعية ضد الصواريخ. أوضح بيستوريوس: “إن جداراً محصّناً بالكامل ضد الطائرات المسيّرة أمر غير واقعي حالياً”، لكنه أضاف أن المشروع يمكن أن يقلّل إلى حدّ كبير عدد الطائرات التي قد تواجهها الدول الأوروبية في حال وقوع هجوم واسع.
صرّح الخبير البريطاني في شؤون الطائرات المسيّرة ستيف رايت: “أن الوزير الألماني محِق تماماً”، مضيفاً: “أفضل ما يمكن أن نأمله هو منع معظم الطائرات المهاجمة من الوصول إلى أهدافها”. كان بيستوريوس قد عبّر سابقاً عن تشكّكه في الاعتقاد بأن “جدار الطائرات المسيّرة” يمكن أن يشكّل حلاً سحرياً في سباق التسلّح المتسارع في هذا المجال. شهدت الفترة الأخيرة سلسلة من الحوادث التي تعرّضت فيها دول الناتو لاختراقات بطائرات مسيّرة، أدت إلى إغلاق مطارات كبرى وظهور هذه الطائرات قرب مواقع عسكرية حساسة. ولا يزال الدور الروسي في بعض تلك الحوادث غامضاً، رغم أن مسؤولين في الناتو أشاروا إلى أن موسكو قد تكون تختبر جاهزية الحلف، فيما تنفي روسيا دوماً أي تورط مباشر.
الاتحاد الأوروبي والناتو يعملان جنباً إلى جنب
يقول الأمين العام لحلف الناتو مارك روتّه: “إن الاتحاد الأوروبي والحلف يعملان جنباً إلى جنب في مجال الدفاع ضد الطائرات المسيّرة”، مؤكداً “لا يوجد تداخل في الجهود”. وأوضح: “أن كثيراً من دول الناتو هي أيضاً أعضاء في الاتحاد الأوروبي، الذي يُعد كتلة اقتصادية لا دفاعية”. ودفعت المفوضية الأوروبية بقوة نحو مشروع “جدار الطائرات المسيّرة” المستوحى من التجربة الأوكرانية. وقالت رئيسة المفوضية أورسولا فون دير لاين: “نحتاج إلى نظام فعّال وميسور التكلفة يلبي الغرض المطلوب”.
وأضاف روتّه: “لا نريد القيام بما يبرع الطرف الآخر في تنفيذه”، في إشارة إلى التنسيق بين الاتحاد الأوروبي والناتو. وأطلق الحلف مبادرة جديدة تُعرف باسم *Eastern Sentry* بعد اختراق الطائرات الروسية للأجواء البولندية، شاركت فيها دول مثل بريطانيا وألمانيا بإرسال مقاتلات إضافية لتأمين المجال الجوي لبولندا، ضمن مهمة الشرطة الجوية التابعة للناتو هناك.
وعقب تلك الحوادث، فعّلت وارسو المادة الرابعة من معاهدة الناتو، التي تنص على أن الأعضاء “يتشاورون معاً كلما رأى أحدهم أن سلامة أراضيه أو استقلاله السياسي أو أمنه مهدَّدة”. كما استدعت إستونيا المادة نفسها في سبتمبر 2025 بعد أن قالت إن ثلاث طائرات روسية من طراز “ميغ-31” انتهكت مجالها الجوي لمدة 12 دقيقة. وردّت موسكو بأن الطائرات “حلّقت وفقاً لقواعد الملاحة الجوية الدولية دون خرق حدود الدول الأخرى”.
أكد الأمين العام لحلف الناتو مارك روتّه خلال أكتوبر 2025: “إن قوة الناتو تكمن في قدراته وقراراته العسكرية”، مضيفاً: “أن الاتحاد الأوروبي يمتلك بدوره قوته الخاصة من خلال ما يُعرف بالقوة الناعمة للسوق الداخلية، التي توحّد الصناعة الدفاعية وتضمن التمويل اللازم، وتتيح في الوقت نفسه الوصول الأوسع للدول غير الأعضاء في الاتحاد إلى ما يُنجز من مشاريع”.
النتائج
تُظهر التطورات الأخيرة في مشروع “جدار الطائرات المسيّرة” أن أوروبا تتجه نحو إعادة صياغة مفهوم الدفاع الجوي الجماعي في مواجهة التهديدات الروسية المتزايدة. ورغم أن المبادرة تعبّر عن وعي متنامٍ داخل الناتو والاتحاد الأوروبي بأهمية التحصين التكنولوجي ضد الطائرات المسيّرة، إلا أن المواقف الرسمية وخاصة تصريحات وزير الدفاع الألماني بوريس بيستوريوس تكشف عن واقعية مفرطة في إدراك حدود القدرات الدفاعية الأوروبية الحالية. فالمشروع، رغم طموحه، يواجه تحديات مالية وتكنولوجية وتنظيمية قد تجعل تحقيقه الكامل صعبًا على المدى القريب.
تشير الحوادث المتكررة في بولندا وإستونيا ورومانيا إلى أن روسيا تستخدم الطائرات المسيّرة كأداة اختبار وردع سياسي وعسكري، بهدف إرباك دفاعات الناتو وإجباره على استنزاف موارده. الخطر الأكبر الذي يقلق الخبراء يتمثل في استراتيجية الإغراق الجوي، أي شن هجمات بأعداد هائلة من الطائرات المسيّرة منخفضة التكلفة، وهو ما يجعل الدفاع التقليدي بالصواريخ باهظ الثمن وغير فعّال اقتصاديًا. لذلك، يُتوقع أن يتجه الحلف في المستقبل القريب إلى تطوير أنظمة دفاعية متعددة الطبقات تعتمد على مزيج من الذكاء الاصطناعي، والحرب الإلكترونية، والطائرات الاعتراضية المسيّرة، والمدافع الليزرية قصيرة المدى.
على المستوى المؤسسي، يشكّل التعاون بين الاتحاد الأوروبي والناتو في هذا الملف نقطة تحول مهمة في علاقة المؤسستين، إذ تسعى بروكسل إلى تسريع الاستثمار في الصناعات الدفاعية وتوحيد المشتريات عبر مبادرات تمويل مشتركة، بينما يتولى الحلف الجانب العملياتي والعسكري المباشر. هذا التنسيق يهدف إلى سد الفجوة بين القدرة الصناعية الأوروبية وضعف الجاهزية الميدانية، خاصة في الجناح الشرقي. ومع ذلك، تبقى مسألة توزيع الأدوار والتمويل بين الطرفين قضية حساسة، وقد تُحدث توترات بين الدول الأعضاء ذات القدرات الاقتصادية والعسكرية غير المتكافئة.
في المدى المتوسط، من المرجح أن تتحول فكرة “جدار الطائرات المسيّرة” إلى شبكة دفاع مرنة تغطي الحدود الشرقية لأوروبا، مع التركيز على سرعة الاستجابة بدلًا من التحصين الكامل. أما في المدى البعيد، فإن مستقبل المشروع سيتوقف على مدى وحدة الإرادة السياسية الأوروبية واستدامة الدعم الأمريكي داخل الناتو. وفي حال تصاعد الاستفزازات الروسية، قد يصبح المشروع نواة لتحول أوسع في العقيدة الدفاعية الأوروبية، من الدفاع التفاعلي إلى الردع الاستباقي الذكي الذي يدمج بين التكنولوجيا والأمن الجماعي.
رابط مختصر.. https://www.europarabct.com/?p=110972
