خاص ـ المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات ـ ألمانيا وهولندا ECCI
الأمن القومي الألماني ـ “الوقاية والرصد والتعطيل”، استراتيجية متكاملة لمواجهة التهديدات
يرى رئيس المكتب الاتحادي لحماية الدستور (BfV)، سنان سيلين، أن ألمانيا تواجه تهديدات متزايدة تتطلب تركيزًا واضحًا وأولويات محددة. مؤكدًا: “إنّ الوضع الأمني قد تغيّر وتفاقم فعليًا خلال السنوات العشر الماضية”. وأضاف: “أن التحديات الحالية تستلزم اعتماد مبدأ واضح في العمل الاستخباراتي يقوم على الوقاية، والرصد، والتعطيل”، مشيرًا إلى: “أن المكتب يواجه تهديدات متعددة الأوجه تشمل التجسس، والتخريب، والهجمات السيبرانية، والإرهاب الدولي، والتطرف العنيف”. وشدّد على أهمية الكشف المبكر عن الشبكات والعناصر الفاعلة، وكذلك أولئك الذين يديرون العمليات من وراء الكواليس.
تأسس مكتب حماية الدستور في السابع من نوفمبر 1950 في سياق الحرب الباردة، بموافقة القوى الغربية آنذاك فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة التي سمحت لألمانيا الغربية بإنشاء جهاز استخبارات داخلي لحماية النظام الديمقراطي الحر. ومع ذلك، حظرت تلك القوى منح المكتب أي صلاحيات شرطية بسبب تجربة ألمانيا النازية السابقة. لا يزال مبدأ الفصل بين الشرطة والاستخبارات قائمًا. ومع ذلك، يجري تبادل المعلومات في حالات تتعلق بالإرهاب الإسلاموي أو التطرف اليميني واليساري من خلال المركز المشترك لمكافحة الإرهاب (GTAZ) والمركز المشترك لمكافحة التطرف والإرهاب (GETZ) في برلين.
من “العمل في الخفاء” إلى “خدمة الديمقراطية”
لطالما عُرف المكتب بشعاره القديم “القيام بعمل جيد في الخفاء”، لكن منذ عام 2021 تبنّى شعارًا جديدًا هو “باسم الديمقراطية”، في محاولة لجذب كوادر جديدة تعكس صورة أكثر انفتاحًا وشفافية. يصف سيلين مهمة المكتب بأنها مزدوجة: فهو يحمي مصالح الدولة من التهديدات الداخلية والخارجية، وفي الوقت ذاته يدافع عن حقوق وحريات المواطنين. كما تشكّل تحليلات المكتب الأساس القانوني لحظر الجمعيات أو التنظيمات التي تستهدف النظام الديمقراطي الحر. أكد سيلين: “أن العديد من عمليات الاعتقال والأحكام ضد متطرفين وإرهابيين ما كانت لتتحقق لولا جهود مكتب حماية الدستور، مشيرًا إلى أن المكتب يلعب دورًا رئيسيًا في كشف المنصات الدعائية على الإنترنت وإيقافها، إلى جانب التحذير من الهجمات السيبرانية التي تتعرض لها ألمانيا”.
رغم الإنجازات، لم تخلُ مسيرة المكتب من بعض المعوقات أبرزها قضية تمزيق الملفات عام 2011 عقب الكشف عن خلية النازيين الجدد (NSU)، حين أُتلفت وثائق تتعلق باليمين المتطرف، ما دفع الرئيس السابق للمكتب، هاينز فروم، إلى التقاعد المبكر في 2012. وقد نفّذت خلية NSU بين عامي 2000 و2007 سلسلة اغتيالات عنصرية أودت بحياة تسعة مهاجرين وشرطية ألمانية.
مراقبة حزب “البديل من أجل ألمانيا”
يتركز الخلاف بين المكتب وبعض القوى السياسية، إذ تواجه حزب “البديل من أجل ألمانيا” (AfD) مشاكل متزايدة مع جهاز الاستخبارات الداخلية. ففي مايو 2025، صنّف المكتب الحزب كـ”حركة يمينية متطرفة مؤكدة” بعدما كان مجرد حالة اشتباه. غير أن الحزب طعن في القرار قضائيًا، ما دفع المكتب إلى تعليق التصنيف مؤقتًا بانتظار الحكم النهائي. أما محاولات الحزب السابقة لمنع تصنيفه كحالة اشتباه فقد فشلت أمام القضاء، ما يسمح للمكتب بمواصلة مراقبته باستخدام الوسائل الاستخباراتية. يعد الكشف المبكر والوقاية أكثر أهمية من أي وقت مضى في ظل إدراك متزايد بأن التحديات الجديدة من التجسس إلى التطرف الرقمي.
النتائج
يُظهر المشهد الأمني الألماني الراهن أن مكتب حماية الدستور في مرحلة تتسم بقدر عالٍ من التعقيد والتحدي. فالمكتب، الذي تأسس عام 1950 لحماية النظام الديمقراطي من التهديدات الأيديولوجية، يجد نفسه أمام طيف واسع من الأخطار، تمتد من التجسس الروسي والصيني إلى الإرهاب العابر للحدود، ومن التطرف اليميني المتصاعد إلى التهديدات الرقمية التي تمس البنية التحتية الحيوية للدولة.
تقديرات رئيس المكتب، سنان سيلين، تعكس تحوّلًا استراتيجيًا في المقاربة الأمنية الألمانية، إذ لم يعد التركيز ينحصر في تتبّع الجماعات الإرهابية أو المتطرفة، بل أصبح الاهتمام منصبًا على “الوقاية والرصد والتعطيل” كمنهج متكامل في مواجهة التهديدات قبل تفاقمها. ويبدو أن هذا التحول ينبع من إدراك متزايد بأن التهديدات الجديدة خاصة تلك المرتبطة بالفضاء السيبراني وحروب المعلومات لا يمكن معالجتها بالأساليب التقليدية التي كانت سائدة في مرحلة ما بعد الحرب الباردة.
على الصعيد السياسي، يُتوقع أن يظل مكتب حماية الدستور في قلب النقاش العام حول التوازن بين الأمن والحرية. فالقضايا المثيرة للجدل، مثل مراقبة حزب “البديل من أجل ألمانيا” أو التعامل مع التطرف اليساري والإسلاموي، ستظل محل تجاذب بين الأحزاب، خاصة في ظل اقتراب الانتخابات. هذه القضايا قد تُستغل سياسيًا من أطراف مختلفة، ما يضع المكتب أمام اختبار دقيق في الحفاظ على الحياد المؤسسي.
في المستقبل القريب، ستزداد أهمية التعاون بين الأجهزة الأمنية الأوروبية، خصوصًا في ضوء تصاعد التوترات الجيوسياسية مع روسيا وازدياد النشاط الاستخباراتي الصيني في أوروبا. كما ستلعب الشراكة بين أجهزة الاستخبارات والقطاع الخاص دورًا متزايد الأهمية، نظرًا لأن معظم التهديدات السيبرانية تستهدف شركات الاتصالات والطاقة والمصارف.
على المستوى الداخلي، سيواجه المكتب تحديًا مزدوجًا: من جهة، تعزيز ثقة الرأي العام بعد إخفاقات الماضي مثل قضية NSU، ومن جهة أخرى، مواكبة التطور التكنولوجي دون المساس بالحقوق المدنية. يمكن القول إن مستقبل مكتب حماية الدستور سيتوقف على قدرته في تحقيق توازن دقيق بين الشفافية والكتمان، وبين حماية الدولة والديمقراطية. فنجاحه في السنوات المقبلة لن يُقاس فقط بعدد الهجمات المُحبطة، بل بقدرته على ترسيخ ثقافة أمنية حديثة تتماشى مع قيم المجتمع الديمقراطي الألماني.
رابط مختصر.. https://www.europarabct.com/?p=111015
