خاص ـ المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات ـ ألمانيا وهولندا ECCI
الأمن الدولي ـ كيف تؤثر “غرينلاند” على العلاقات عبر الأطلسي؟
يخشى كبار المسؤولين الدنماركيين أن ترامب لا يزال مصممًا على أن يكون أول رئيس أميركي يوسّع الأراضي الأميركية توسعًا كبيرًا منذ أن اشترى أندرو جونسون ولاية ألاسكا عام 1867، وأنه رغم الاتفاقات الأخيرة بشأن الدفاع والتجارة، فإن قضية غرينلاند قد تتحول إلى أكبر أزمة في العلاقات بين ضفتي الأطلسي خلال عهد ترامب الجديد. كما تخشى الدنمارك أن بعض شركائها الأوروبيين في الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو لم يدركوا بعد مدى التهديد الوجودي الذي تمثله خطط ترامب تجاه غرينلاند على العلاقات الأميركية الأوروبية، وعلى مبدأ احترام السيادة والحدود الدولية.
اهتمام ترامب بغرينلاند مزيج من اللاعقلانية والجدية
يُعد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون استثناءً، إذ أسعد قادة الدنمارك وغرينلاند عندما أكد خلال زيارته للعاصمة نوق في يونيو 2025 أن الإقليم “ليس للبيع ولا للاستيلاء”. لكن آخرين فضلوا تجنب استفزاز الرئيس الأميركي المتقلب، خصوصًا في ظل تقدم المحادثات بشأن التجارة وضمانات الأمن الأوروبي الأوكراني. ولهذا السبب، يتعامل بعض القادة الأوروبيين مع فكرة ضم غرينلاند وكأنها تشتيت للانتباه، لكن في كوبنهاغن الأمر مختلف. ترى الدنمارك أن اهتمام ترامب بغرينلاند مزيج من اللاعقلانية والجدية. فهو “لاعقلاني” لأنه لا يوجد تهديد أمني مباشر لغرينلاند من روسيا أو الصين، وأي تهديد محتمل مستقبلاً يمكن أن يعالجه حلف الناتو. كما أن استغلال معادن غرينلاند النادرة مفتوح بالفعل أمام المستثمرين الأميركيين، لكن الإقبال ضعيف. ومع ذلك، يعتقد المسؤولون الدنماركيون أن طموحات ترامب الإقليمية حقيقية، حتى لو لم تستند إلى أهداف عملية.
يعتقد المسؤولون الدنماركيون أن البيت الأبيض يخطط لشيء ما، وهو ما يؤكده تقرير لصحيفة “وول ستريت جورنال” في مايو 2025 عن محاولات أجهزة الاستخبارات الأميركية تحديد شخصيات “مفيدة” في غرينلاند تتعاطف مع أجندة ترامب، إضافة إلى استدعاء الدنمارك دبلوماسيًا أميركيًا كبيرًا في أغسطس لمناقشة تقارير عن ثلاثة أميركيين يُزعم أنهم مرتبطون بترامب وينفذون عمليات سرية في غرينلاند بهدف إثارة التوتر ضد كوبنهاغن. وبناءً على ذلك، لا تتوقع الدنمارك غزوًا عسكريًا، بل “غزوًا ماليًا”، سواء عبر عرض مبالغ ضخمة على سكان غرينلاند فردًا فردًا، أو عبر حملة لشراء النفوذ والسياسيين المحليين. والخوف في كوبنهاغن أن مثل هذا “الاستحواذ البطيء” لن يثير رد فعل قوي من بروكسل أو شركاء الاتحاد الأوروبي.
ولهذا يعمل المسؤولون الدنماركيون على كسب دعم أوروبي أكبر لقضيتهم. وقد سعدوا كثيرًا بزيارة ماكرون لغرينلاند، إذ وجه من هناك رسالة واضحة من دون أن يذكر ترامب بالاسم حول أهمية احترام القانون الدولي والتصرف اللائق بين الحلفاء. وتتمثل استراتيجيتهم الآن في رفع تكلفة أي تحرك أميركي محتمل من خلال الحصول على دعم برلين ومؤسسات الاتحاد الأوروبي لالتزام مشترك بحماية غرينلاند وتنميتها اقتصاديًا بشكل متوازن. صحيح أن غرينلاند انسحبت من الجماعة الأوروبية قبل نصف قرن، لكنها ما زالت تحتفظ بعلاقة قانونية خاصة مع الاتحاد، لأن سكانها يحملون الجنسية الدنماركية، وبالتالي جوازات سفر أوروبية، مما يمنحهم مزيجًا من الحكم الذاتي والوصول إلى الاستثمارات والحماية الأوروبية.
يبدو أن “تصادمًا” عبر الأطلسي بات حتميًا
أما السيطرة الأميركية فستعني عكس ذلك تمامًا، استثمارات قاسية بلا اعتبار للثقافة المحلية أو حقوق السكان الأصليين، كما تُظهر تجربة الإنويت في ألاسكا. لذلك، بينما يخيّم الهدوء المؤقت على “جبهة الشمال”، ينبغي للأوروبيين أن يأخذوا مخاوف حليفهم الدنماركي بجدية. ففي نهاية المطاف، يبدو أن “تصادمًا” عبر الأطلسي أو في القطب الشمالي بات حتميًا. إن طموحات ترامب تجاه غرينلاند تمثل تحديًا مباشرًا للقانون الدولي المتعلق بسلامة الأراضي وحرمة الحدود.
النتائج
يشير المشهد الراهن إلى أن ملف غرينلاند قد يتحول من قضية رمزية إلى اختبار جيوسياسي حقيقي للعلاقات بين أوروبا والولايات المتحدة خلال ولاية ترامب الثانية. فبينما كانت أوروبا تأمل في تهدئة التوترات عبر الأطلسي بعد سنوات من الخلافات حول الدفاع والإنفاق العسكري، يعيد طموح ترامب الإقليمي في القطب الشمالي انعدام الثقة بين الحلفاء، مهددًا بتقويض وحدة الموقف الغربي في مواجهة روسيا والصين.
من منظور استراتيجي، يمثل اهتمام ترامب بغرينلاند امتدادًا لرغبته في إعادة تعريف النفوذ الأميركي على أساس السيطرة الجغرافية والموارد الطبيعية، وليس فقط عبر التحالفات السياسية أو الاقتصادية. فغرينلاند، بموقعها المحوري بين أميركا وأوروبا واحتياطاتها من المعادن النادرة واليورانيوم، تُعد ورقة استراتيجية في سباق السيطرة على القطب الشمالي، الذي يزداد أهميته مع ذوبان الجليد وفتح طرق بحرية جديدة. إلا أن الطريقة التي يتعامل بها ترامب مع هذه القضية تثير مخاوف الأوروبيين من عودة منطق القوة والاستحواذ بدلًا من منطق التعاون الدولي.
أما في الجانب الأوروبي، فإن كوبنهاغن تجد نفسها في موقف حساس بين رغبتها في الحفاظ على علاقات قوية مع واشنطن وبين حاجتها إلى حماية سيادتها ومصالحها الوطنية. ولهذا بدأت الدنمارك، بدعم فرنسي متزايد، حملة دبلوماسية لإضفاء بعد أوروبي مشترك على القضية، عبر المطالبة باعتبار غرينلاند جزءًا من الأمن الإقليمي الأوروبي الذي يجب الدفاع عنه سياسيًا واقتصاديًا. غير أن الانقسامات داخل الاتحاد الأوروبي قد تُضعف هذا الموقف، خاصة إذا اختارت بعض الدول تجنب مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة للحفاظ على مصالحها التجارية والأمنية.
على المدى المتوسط، يُتوقع أن تتحول غرينلاند إلى نقطة توتر مستمر في العلاقات عبر الأطلسي، حيث ستزداد المنافسة على النفوذ الاقتصادي والبحث العلمي والاستثمار في الطاقة والمعادن. وستحاول واشنطن توسيع حضورها الاقتصادي والعسكري في الجزيرة بطرق غير مباشرة، بينما سيعمل الاتحاد الأوروبي على تقديم بدائل تنموية جذابة لضمان ولاء سكان غرينلاند.
قد تصبح هذه الأزمة رمزًا لتحول أعمق في بنية العلاقات الغربية، من شراكة متكافئة إلى علاقة تزداد فيها الشكوك المتبادلة. وإذا لم يُدِر الأوروبيون الموقف بذكاء جماعي، فقد يجدون أنفسهم أمام واقع جديد يعيد تعريف مفهوم “التحالف” ذاته، ويفتح الباب أمام تصدعات غير مسبوقة في المنظومة الغربية التي بُنيت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
رابط مختصر.. https://www.europarabct.com/?p=110990
