بون ـ المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات ECCI ـ وحدة الدراسات (27)
شهدت العلاقات بين الولايات المتحدة وأوروبا توترًا متزايدًا منذ عودة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في يناير 2025، خاصة فيما يتعلق بالمفاوضات مع روسيا. فرغم أن أوروبا كانت دائمًا لاعبًا رئيسيًا في القضايا الأمنية والاقتصادية العالمية، إلا أن إدارة ترامب أعادت تبني سياسة أكثر انعزالية، مما أثار تساؤلات حول مدى تأثير الدول الأوروبية في القرارات الكبرى التي تتخذها الولايات المتحدة وروسيا. مع توجه ترامب لإعادة هيكلة التحالفات الدولية وفق مبدأ “أمريكا أولًا”، وجد الاتحاد الأوروبي نفسه في موقف يبدو ضعيفًا، حيث أصبح التأثير الأوروبي على السياسات الأمريكية أكثر تعقيدًا. فهل تمكنت أوروبا من فرض رؤيتها في القضايا الدولية رغم التجاهل الواضح لها من قبل إدارة ترامب؟
ما طبيعة التوجهات السياسية لترامب تجاه الحلفاء الأوروبيين؟
اتسمت سياسة ترامب الخارجية منذ عودته إلى الحكم بالتشكيك في جدوى التحالفات التقليدية، بما في ذلك العلاقة مع أوروبا. فقد أعاد انتقاد حلف شمال الأطلسي (الناتو) معتبرًا أنه يشكل عبئًا ماليًا على الولايات المتحدة، وطالب الدول الأوروبية بزيادة إنفاقها العسكري. كما جدد مواقفه المتشددة تجاه الاتحاد الأوروبي، منتقدًا سياساته الاقتصادية والأمنية، وشجع الحركات القومية المناهضة للاتحاد الأوروبي. وقد رأى الباحث الألماني هانز كونراد أن سياسة ترامب تهدف إلى تقويض النفوذ الأوروبي لصالح تعزيز المصالح الاقتصادية والأمنية للولايات المتحدة على حساب شركائها التقليديين. كما أن إعادة انتخابه أعطته دافعًا أقوى لمتابعة هذه السياسات، وهو ما أدى إلى مزيد من التوتر في العلاقات الأوروبية-الأمريكية.أمن دولي ـ ما هو تأثير الخلاف بين ترامب وزيلينسكي على صفقة المعادن؟
ما تأثير سياسة “أمريكا أولاً” على العلاقات؟
تبنت إدارة ترامب في بداية ولايته الثانية شعار “أمريكا أولاً” بتركيز أكبر، مما انعكس سلبًا على العلاقات مع الحلفاء الأوروبيين. فقد فضّل ترامب التعامل مع الدول على أساس العلاقات الثنائية بدلاً من التحالفات الجماعية، مما أضعف التنسيق الأوروبي-الأمريكي في قضايا كبرى مثل السياسة الدفاعية والتجارية. وقد أدى ذلك إلى تراجع الثقة الأوروبية في التزام الولايات المتحدة بأمن أوروبا، خاصة في ظل التقارب الأمريكي مع روسيا في بعض الملفات. وقد أكد الباحث السياسي الفرنسي جان بيير مولين أن هذا التوجه أضر بالمصالح الاستراتيجية الأوروبية، حيث أصبحت دول الاتحاد الأوروبي مضطرة إلى البحث عن بدائل لتعزيز أمنها القومي والاقتصادي، وهو ما دفعها إلى تقوية علاقاتها مع الصين وروسيا، رغم المخاطر الجيوسياسية المرتبطة بذلك.أمن دولي ـ لماذا يرفض ترامب دعم مشروع قرار الأمم المتحدة بشأن أوكرانيا؟
الاتفاق النووي الإيراني وانسحاب الولايات المتحدة
كان الاتفاق النووي الإيراني أحد أبرز القضايا التي أثارت خلافات حادة بين الولايات المتحدة وأوروبا. ففي يناير 2025، قرر ترامب مجددًا فرض عقوبات أكثر صرامة على إيران، رغم اعتراضات الاتحاد الأوروبي. ورغم جهود أوروبا للحفاظ على الاتفاق، إلا أنها واجهت صعوبات في مواجهة العقوبات الأمريكية، مما حدَّ من قدرتها على التأثير في المسار السياسي الأمريكي تجاه إيران.
تبنّى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب نهجًا مزدوجًا تجاه الاتفاق النووي مع إيران. فمن جهة، أعاد فرض سياسة “الضغط الأقصى” عبر توقيع مذكرة تهدف إلى تقليص صادرات النفط الإيرانية إلى الصفر، بهدف حرمان طهران من الموارد المالية الضرورية لبرنامجها النووي. ومن جهة أخرى، أعرب عن رغبته في التوصل إلى “اتفاق نووي سلمي خاضع للتدقيق” مع إيران، مؤكدًا أنه يفضل الحلول الدبلوماسية التي تسمح لإيران بالنمو والازدهار، بشرط عدم امتلاكها للسلاح النووي. بالمقابل، سعت الدول الأوروبية إلى الحفاظ على قنوات الحوار مع إيران، حيث عقدت اجتماعات في جنيف في يناير 2025 لبحث إمكانية استئناف المفاوضات حول البرنامج النووي الإيراني قبل تولي ترامب منصبه رسميًا. ورغم الضغوط الأمريكية، دعت هذه الدول إلى إيجاد حلول دبلوماسية لتجنب تصعيد التوترات في المنطقة.
وقد أشار المحلل الأمريكي ديفيد فريدمان إلى أن “سياسة ترامب تجاه إيران تمثل استكمالًا لنهجه السابق، حيث أنه لم يعد يأخذ المصالح الأوروبية بعين الاعتبار، مما دفع أوروبا إلى البحث عن آليات مستقلة، ولكن هذه الجهود لم تكن كافية لاحتواء الضرر الناتج عن العقوبات الأمريكية”.أمن دولي ـ ما هي حقيقة المساعدات الأمريكية لأوكرانيا؟
كيف تتأثر اتفاقيات التجارة الحرة بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي؟
شهدت المفاوضات التجارية بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي تعثرًا كبيرًا بسبب سياسة ترامب الحمائية، حيث فرضت إدارته تعريفات جمركية على المنتجات الأوروبية، مما أدى إلى توتر تجاري بين الطرفين. ورغم محاولة بروكسل التوصل إلى حلول وسط، فإن سياسة ترامب التي تضع المصالح الأمريكية أولاً عرقلت أي تقدم جوهري في هذا الملف. الباحث الاقتصادي الألماني توماس كريستيان أوضح أن “استراتيجية ترامب التجارية قامت على أساس الضغط على الاتحاد الأوروبي للحصول على اتفاقات تخدم مصالح الولايات المتحدة، دون مراعاة المصالح الأوروبية، مما جعل المفاوضات غير متوازنة وغير مثمرة”.
ما جهود أوروبا في الحفاظ على النظام الدولي متعدد الأطراف؟
حاولت أوروبا خلال فترة حكم ترامب تعزيز النظام الدولي متعدد الأطراف، في مواجهة السياسات الأحادية التي انتهجها البيت الأبيض. فقد كثفت بروكسل تعاونها مع الأمم المتحدة ومنظمات دولية أخرى للحفاظ على الاستقرار العالمي، إلا أن تأثير هذه الجهود كان محدودًا في ظل المعارضة الأمريكية. وفي هذا السياق، قال الباحث الفرنسي لويس دوبريه: “كانت أوروبا الطرف الأكثر التزامًا بالقواعد الدولية، ولكن عدم وجود أدوات ضغط كافية جعل جهودها غير فعالة أمام الولايات المتحدة وروسيا”.
ما معوقات المشاركة الأوروبية؟
كانت إحدى العقبات الرئيسية التي حدت من قدرة أوروبا على التأثير في المفاوضات بين ترامب وبوتين هي غياب سياسة خارجية موحدة داخل الاتحاد الأوروبي. فعلى الرغم من أن الاتحاد يمثل كيانًا سياسيًا واقتصاديًا موحدًا، إلا أن الدول الأعضاء تمتلك مصالح متباينة وتوجهات استراتيجية مختلفة، مما حال دون تبني موقف أوروبي موحد تجاه القضايا الجيوسياسية الكبرى. وتبرز هذه الإشكالية بشكل واضح عند النظر إلى العلاقات مع روسيا والولايات المتحدة، حيث تتباين مواقف الدول الأوروبية بشدة بين مؤيد للتعاون مع موسكو، مثل فرنسا وألمانيا، وبين متشدد يطالب بمزيد من العقوبات، مثل دول البلطيق وبولندا.
الانقسامات الداخلية في الاتحاد الأوروبي أضعفت موقفه التفاوضي، مما جعل من الصعب على القادة الأوروبيين فرض شروطهم أو حتى الحصول على مقعد متقدم في المفاوضات الأمريكية-الروسية. وعلى سبيل المثال، بينما سعى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى تعزيز الحوار مع موسكو من خلال مبادرات دبلوماسية، شددت دول شرق أوروبا على ضرورة اتخاذ موقف أكثر صرامة تجاه الكرملين، وهو ما أدى إلى تشتيت الجهود الأوروبية وإضعاف تأثيرها.
إضافة إلى ذلك، فإن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (البريكست) زاد من تعقيد الأمور، إذ فقدت بروكسل واحدة من أقوى القوى الدبلوماسية والعسكرية داخل التكتل، مما قلل من ثقلها في المفاوضات العالمية. وأشار الباحث في الشؤون الأوروبية “ريتشارد يونغس” إلى أن غياب سياسة خارجية موحدة يجعل أوروبا لاعبًا ثانويًا في القضايا الكبرى، حيث تفضل القوى العظمى مثل الولايات المتحدة وروسيا التفاوض مباشرة دون إشراك الاتحاد الأوروبي كمحاور رئيسي.
تقييم وقراءة مستقبلية
– كانت أوروبا تاريخيًا أحد اللاعبين الرئيسيين في السياسة الدولية، ولكن مع إدارة ترامب، تراجع نفوذها بشكل ملحوظ. فمع إقصاء أوروبا من المفاوضات الرئيسية بين واشنطن وموسكو، قد يصبح الدور الأوروبي ثانويًا، مما يؤثر على قدرة الاتحاد الأوروبي في التأثير على القرارات العالمية. وقد رأى الباحث البريطاني ريتشارد يونغ أن “استبعاد أوروبا من المفاوضات ليس مجرد قرار سياسي أمريكي، بل هو مؤشر على ضعف الدور الأوروبي عالميًا في ظل غياب رؤية موحدة”.
– لم تكن أوروبا موحدة في مواقفها تجاه الولايات المتحدة وروسيا. فبينما تبنت فرنسا وألمانيا موقفًا أكثر صرامة تجاه موسكو وواشنطن، فضلت دول أخرى مثل المجر وإيطاليا انتهاج سياسات أكثر مرونة تجاه إدارة ترامب وروسيا. هذا التباين أدى إلى إضعاف الموقف الأوروبي المشترك في المفاوضات مع القوى الكبرى، وجعل من السهل على ترامب وبوتين التعامل مع كل دولة على حدة بدلاً من التعامل مع أوروبا ككيان واحد.
– بعد التجربة المريرة السابقة مع ترامب، سعت أوروبا إلى تبني استراتيجيات جديدة لتعزيز مكانتها على الساحة الدولية. من بين هذه الاستراتيجيات تعزيز القدرات الدفاعية الأوروبية من خلال تطوير مشاريع عسكرية مستقلة عن الناتو، كما عملت الدول الأوروبية على تعزيز التعاون الاقتصادي فيما بينها للحد من التأثيرات السلبية للسياسات الأمريكية.
– مع استمرار ترامب في الحكم حتى عام 2029، يبقى السؤال حول مستقبل العلاقات الأمريكية-الأوروبية مفتوحًا. ورغم الضغوط الأوروبية لتقليل الاعتماد على الولايات المتحدة، إلا أن الواقع الجيوسياسي يفرض استمرار التعاون بين الطرفين، خاصة في ظل التهديدات الأمنية المشتركة. لذا، تحتاج أوروبا إلى اتباع سياسة أكثر استقلالية دون القطيعة مع واشنطن.
– في ظل هذه التحديات، باتت أوروبا بحاجة إلى تعزيز آليات التنسيق بين دولها الأعضاء لتفادي التهميش في الترتيبات الجيوسياسية الكبرى، خاصة في ظل عودة ترامب إلى البيت الأبيض وتزايد حدة الاستقطاب بين القوى الكبرى.
– تمثل تجربة تهميش أوروبا خلال مفاوضات ترامب وبوتين درسًا هامًا للاتحاد الأوروبي حول أهمية تطوير سياسة خارجية أكثر استقلالية وفاعلية. فرغم أن أوروبا تمتلك قوة اقتصادية كبيرة، إلا أن ضعف تنسيقها السياسي جعلها أقل تأثيرًا في القضايا الدولية الكبرى. ولتجنب تكرار هذه التجربة، تحتاج أوروبا إلى تعزيز التنسيق بين دولها، وتطوير قدراتها العسكرية والاقتصادية، وتحقيق استقلالية أكبر عن الولايات المتحدة.
– لضمان دور أكثر تأثيرًا في المشهد الدولي، تحتاج أوروبا إلى تبني استراتيجيات جديدة تقلل من اعتمادها على الولايات المتحدة وتعزز نفوذها السياسي والعسكري. الاتحاد الأوروبي مطالب بتطوير سياسات أكثر استقلالية في مجالات الدفاع والطاقة، بحيث يكون أقل تأثرًا بقرارات واشنطن. كما أن تحسين العلاقات مع روسيا بشكل متوازن، بدلًا من اتباع النهج الأمريكي المتشدد، قد يساعد في خلق بيئة تفاوضية أكثر توازنًا.
رابط مختصر..https://www.europarabct.com/?p=101419
*حقوق النشر محفوظة إلى المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات
هوامش
The Transatlantic Alliance in the Age of Trump: The Coming Collisions
Netanyahu seeks to draw Trump into future attack on Iranian nuclear sites
How Europe Views Trump: Three Camps on a Fluid Map
US-EU relations: The 31 days that shook the transatlantic partnership