خاص ـ المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات، ألمانيا وهولندا ECCI، وحدة الدراسات والتقارير “1”
أمن دولي ـ هل باتت المواجهة بين الناتو وروسيا وشيكة؟ قراءة في المؤشرات والتحولات العسكرية
يرى خبير عسكري بريطاني أن دول الناتو قد تنخرط في صراع عسكري مع روسيا في غضون عامين فقط. هذا ما صرّح به د أرنولد، من مركز الأبحاث البريطاني المعهد الملكي للخدمات المتحدة (RUSI)، في حديثه مع وكالة الأنباء الألمانية (DPA). وفي ضوء الاستثمارات الألمانية الضخمة المخططة في مجال التسلّح، حذّر أرنولد من أن الحكومة الألمانية لا تملك ترف توزيع هذه الاستثمارات على مدى عشر سنوات، في ظل التهديد الروسي المتصاعد. بل يجب على الجيش الألماني (البوندسفير) أن يركّز أولاً على التوسيع السريع لمخزون أنظمة الأسلحة المجربة والذخيرة – وبالأخص ذخيرة المدفعية.
تجهيز البوندسفير إلى حد كبير بالعتاد الثقيل
من بين الأنظمة الموصى بها – وفقاً لأرنولد – صواريخ توروس المجنحة، ودبابات ليوبارد 2 A8 القتالية، ومركبات النقل المدرعة بوكسر. هذه كلها منظومات مستخدمة أيضاً من قبل دول أوروبية أخرى. وأشار الخبير إلى أن ألمانيا يمكنها “زيادة الإنتاج بشكل كبير” وتزويد وحدات البوندسفير إلى حد واسع بالعتاد الثقيل، إلى جانب تزويد الحلفاء أيضاً. أما أنظمة الدفاع الجوي الألمانية، مثل نظام IRIS-T ومدفع جيبارد المضاد للطائرات الذي تم سحبه من الخدمة في البوندسفير، فقد أثبتت فعاليتها “اللافتة” في الحرب الأوكرانية، بحسب الخبير. ويوصي أرنولد بإنتاج هذه الأنظمة بكميات كبيرة أيضاً وتصديرها إلى الحلفاء.
ليس من الضروري دائماً امتلاك الأفضل
قال أرنولد إن على أوروبا أن تتخلى عن فكرة السعي الدائم إلى امتلاك الأسلحة الأكثر تطوراً من الناحية التكنولوجية. وأضاف: “ما تُظهره أوكرانيا هو أنك لست بحاجة دائماً إلى الأفضل. يكفي أن تكون فقط أفضل بقليل من العدو”. كما حذر من تبديد الأموال على معدات يمكن أن تُفقد بمعدل عشر وحدات في اليوم خلال حالة حرب.فيما يخص الطائرات المسيّرة، لا يتعلق الأمر فقط بشراء المخزون، بل أيضاً ببناء قدرات إنتاجية تتماشى مع دورات التطوير السريعة. وقال أرنولد: “التغير في طبيعة الحروب يعني أن المسيّرات تُستخدم على أدنى المستويات”. وأضاف أنها أصبحت “حاضرة في كل مكان على ساحة المعركة”.
الحرب مع روسيا قد تبدأ في دول البلطيق
وأشار أرنولد إلى أنه على ألمانيا أن تسأل نفسها إن كانت لا تزال ترغب في الاستثمار في أنظمة أسلحة أمريكية، بالنظر إلى التوجهات السياسية في واشنطن. هذا ينطبق بشكل خاص على طائرات F-35 الشبحية، وكذلك على نظام الدفاع الجوي باتريوت. ووفقاً له، يمكن استبدال هذه الأنظمة على المدى المتوسط بأنظمة أوروبية. وفي حال قررت روسيا الدخول في صراع متعمد، فإن الخبير يرى أن هذا قد يحدث على الأرجح في منطقة البلطيق، وتحديداً عند فجوة سوالكي، وهي الممر البري الوحيد الذي يربط دول الناتو في أوروبا الوسطى مع حلفائها في البلطيق. وفي الوقت نفسه، حذر أرنولد من احتمال انزلاق دول الناتو وروسيا إلى صراع غير مقصود في مناطق أخرى، بسبب الأنشطة العسكرية المكثفة في أوروبا.
هل نحن على أعتاب صدام عسكري بين الناتو وروسيا؟ هل تبالغ لندن أم أن المواجهة باتت وشيكة؟
ما الذي يدفع أرنولد لإطلاق هذا التحذير الصارخ؟ وهل يُعبر عن واقع جيوسياسي متوتر فعلاً، أم عن موقف بريطاني متشدد تقليدي تجاه موسكو؟ أرنولد قدّم جملة من المؤشرات التي تدعم رؤيته، أبرزها:
ـ تصاعد التهديد الروسي : بحسب أرنولد، لم تُظهر موسكو أي رغبة في التراجع أو التهدئة، بل على العكس، توسّع ترسانتها العسكرية وتعزز قدراتها على خوض صراع طويل الأمد، سواء في أوكرانيا أو في جبهات أخرى محتملة مثل البلطيق.
ـ الفراغ الاستراتيجي الأوروبي: الخبير البريطاني انتقد خطط الحكومة الألمانية التي تمتد لعقد من الزمن لتحديث الجيش، واعتبرها غير واقعية في ظل التهديد العاجل، داعيًا إلى زيادة فورية في إنتاج الأسلحة، وخاصة الذخيرة والمدفعية وأنظمة الدفاع الجوي.
ـ نقاط الضعف الجغرافية للناتو: حذر أرنولد من منطقة “فجوة سوالكي”، وهي الممر البري الضيق الذي يربط دول البلطيق ببقية دول الناتو عبر بولندا. اعتبر أن أي تحرك روسي في هذه المنطقة قد يُشعل فتيل صدام عسكري مباشر مع الحلف.
ـ عدم جدوى البحث عن الأسلحة “الأفضل”: بشكل مفاجئ، شدد أرنولد على أن الحروب الحديثة لا تُحسم بالتفوق التكنولوجي فقط، بل بالقدرة على الإنتاج السريع”التصنيع العسكري” والتكلفة المعقولة. وقال: “ما تعلمناه من أوكرانيا هو أن عليك أن تكون فقط أفضل قليلاً من عدوك، لا أن تمتلك الأفضل دائماً”.
ـ تغيير في سلوك الحرب: الحرب الحديثة، كما يراها أرنولد، تُدار من الجو وعبر الطائرات المسيّرة، وعلى مستويات تكتيكية منخفضة. لذا دعا إلى الاستثمار في سلاسل إنتاج المسيّرات الرخيصة، وليس فقط في المقاتلات المتطورة باهظة الثمن.
في تطور لافت، طرح أرنولد تساؤلاً حساسًا: هل ينبغي لألمانيا الاستمرار في الاعتماد على الأسلحة الأمريكية؟ وخصّ بالذكر مشروع شراء مقاتلات F-35 وأنظمة باتريوت للدفاع الجوي، مشيرًا إلى أن “التحولات السياسية في واشنطن”، وربما عودة دونالد ترامب، قد تدفع أوروبا إلى إعادة النظر في تبعيتها الدفاعية للولايات المتحدة.
بين الواقع والتحريض… هل تصدق التوقعات؟
رغم التحذير الصريح، يرى مراقبون أن تصريحات أرنولد تحمل جانبًا من التهويل الاستراتيجي البريطاني المعتاد. فبريطانيا تاريخيًا من أكثر دول الغرب تشددًا حيال روسيا، وتُفضّل استباق الأحداث بصوت مرتفع، خاصة عندما يتعلق الأمر بتهيئة الرأي العام الأوروبي لزيادة الإنفاق العسكري. لكن في المقابل، لا يمكن تجاهل حقيقة أن أكثر من مسؤول عسكري أوروبي رفيع تحدث خلال الشهور الماضية عن احتمال الصدام المباشر مع موسكو، بينهم رئيس هيئة الأركان الألمانية ووزير الدفاع السويدي، ما يجعل تحذير أرنولد جزءًا من مناخ أمني عام متوتر، وليس تغريدًا خارج السرب. إن تحذير أرنولد ليس تنبؤًا ، بل دعوة للاستعداد. السؤال الأهم لم يعد “هل ستقع الحرب؟”، بل: ” هل أوروبا مستعدة لها؟ ؟”
**
هل أوروبا جاهزة لحرب محتملة مع روسيا؟
في ظل تصاعد التوترات بين روسيا وحلف شمال الأطلسي (الناتو)، ووسط تحذيرات متكررة من إمكانية اندلاع صراع عسكري مباشر خلال الأعوام القليلة القادمة، يبرز سؤال محوري في مراكز القرار الأوروبية والغربية: هل أوروبا مستعدة فعلاً لمواجهة عسكرية محتملة مع روسيا؟
إن الجهوزية العسكرية الأوروبية ـ واقع هش ومحاولات للإصلاح، رغم التحولات الواضحة في السياسات الدفاعية منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا، إلا أن القارة الأوروبية لا تزال تفتقر إلى الجاهزية الكاملة لأي مواجهة عسكرية شاملة مع روسيا.
ـ نقص حاد في الذخائر والاحتياطات الاستراتيجية، نتيجة الدعم المستمر لأوكرانيا. وتفاوت في القدرات والإنفاق الدفاعي بين دول أوروبا الغربية (فرنسا، ألمانيا) ودول شرق أوروبا بولندا، البلطيق. ضعف الاعتماد على الصناعات الدفاعية المحلية، مقابل تبعية مستمرة للصناعات الأميركية.
أعلنت ألمانيا تخصيص 100 مليار يورو لصندوق تحديث البوندسفير، وبدأت استثمارات في دبابات “ليوبارد”، وصواريخ “توروس”، وأنظمة الدفاع الجوي. كذلك بولندا أطلقت خطة تحديث عسكري تعدّ الأضخم في أوروبا، بشراء معدات متقدمة من كوريا الجنوبية والولايات المتحدة.ويهدف مشروع “الدرع الجوي الأوروبي” بقيادة ألمانيا لبناء منظومة دفاع جوي متكاملة لحماية المجال الجوي الأوروبي.
الناتو ـ من الردع إلى التحضير للصدام
شهد حلف الناتو تحولًا جذريًا في عقيدته الدفاعية منذ عام 2022، وانتقل من عقيدة الردع التقليدية إلى سيناريوهات المواجهة المباشرة مع روسيا. أبرز الخطوات: تعزيز الوجود العسكري على الجناح الشرقي للحلف . وإطلاق مناورات كبرى تحاكي سيناريوهات اشتباك مباشر مع الجيش الروسي، آخرها “Steadfast Defender 2024”. واعتماد استراتيجية جديدة تعتبر روسيا “أكبر تهديد مباشر للأمن الأوروبي والأطلسي”. إلا أن الناتو يواجه تحديًا استراتيجيًا يتمثل في استدامة هذه الاستعدادات عسكريًا ولوجستيًا، خاصة في حال حرب طويلة الأمد.رغم أن الولايات المتحدة تظل الركن الأهم في الدفاع عن أوروبا، إلا أن المتغيرات السياسية في واشنطن تثير تساؤلات جوهرية حول ديمومة الالتزام الأميركي. تنتشر أكثر من 100 ألف جندي أميركي في أوروبا، معظمهم في ألمانيا وبولندا. توفر واشنطن أنظمة دفاعية متقدمة مثل “باتريوت”، وطائرات الشبح F-35، والدعم الاستخباراتي المتكامل. المظلة النووية الأميركية تبقى العامل الحاسم في توازن الردع مع روسيا.
الهواجس الأوروبية
صعود النزعة الانعزالية في السياسة الأميركية، خاصة مع احتمالية عودة ترامب للرئاسة، يثير مخاوف من انسحاب تدريجي أميركي. يتجلى القلق الأوروبي في تساؤل محوري: هل تستطيع القارة الدفاع عن نفسها إذا اختفى المظلة الأميركية فجأة؟ تشير المعطيات إلى أن أوروبا في طور التحول الاستراتيجي، لكن لا تزال بعيدة عن الاكتفاء الذاتي في أمنها الدفاعي. رغم استثمارات ضخمة وتحولات في العقيدة العسكرية، يبقى الحلف الأطلسي مدعومًا بأميركا ، هو الضامن الأول لأي مواجهة محتملة. لكن السؤال الأخطر يبقى مطروحًا: ماذا لو اندلعت المواجهة في لحظة غياب أميركي، أو في ظل انقسام أوروبي داخلي؟ إنها لحظة اختبار تاريخي لمشروع الدفاع الأوروبي، ولمدى قدرة الناتو على البقاء حلفًا قادرًا على الردع والمواجهة في آن واحد.