بون ـ المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات ECCI ـ وحدة الدراسات (26)
تبدو مؤشرات الحرب الأوكرانية التي بدأت عامها الثالث، أن المعارك لا تزال مشتعلة بين طرفي الصراع روسيا وأوكرانيا، لاسيما وأن الحرب منذ اندلاعها في 24 فبراير 2022 لم تُحسم لأحد، رغم أن القتال في الأشهر الأولى ارتكز حول كييف وشرق أوكرانيا، وسرعان ما انتقل إلى ضفاف نهر دونياس وبالقرب من خاركيف، وفي ظل المعطيات الراهنة من انشغال الغرب بقضايا شائكة وصراعات أخرى مثل التوترات في منطقة الشرق الأوسط، وبحث الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن تحقيق انتصار قبل الانتخابات الرئاسية الروسية المقررة في مارس المقبل، تثار التساؤلات حول إمكانية العودة إلى طاولة المفاوضات من جديد، وقبول كل طرف بشروط المباحثات.
الوضع الميداني في الحرب
انتهى العام الأول من الحرب الأوكرانية دون مكاسب كبيرة لكييف أو موسكو، واشتدت الضربات الصاروخية والهجمات بطائرات دون طيار في العام الثاني، وبلغت المعارك نحو (9700) معركة، بزيادة قدرها (32%) مقارنة بالسنة الأولى للحرب، نظراً لارتفاع وتيرة القتال في منطقتي دونيتسك وزابوريجيا، وهجمات متفرقة على كييف وموسكو بطائرات مسيرة، وحققت أوكرانيا (22) مكسباً مقابل (31) مكسباً لروسيا في العام الثاني، بينما كانت مكاسب الطرفين (600) في 2022.
تمكنت روسيا من بناء تحصينات ثقيلة بما في ذلك الخنادق والأسلاك الشائكة، ما أدى لتقوية خط المواجهة، في المقابل عانت أوكرانيا من نفاد قذائف المدفعية وفقدان أعداد من المقاتلين في الخطوط الأمامية، ما تسبب في إخفاق أوكراني في الهجوم المضاد على باخموت، و استيلاء روسيا على مدينة أفدييفكا في 18 فبراير 2024.
تواجه أوكرانيا عدة تحديات في المعارك الأخيرة، وقد أعلن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في بداية الحرب، الحاجة لتعبئة نصف مليون جندي، ولم تتوافق قيادات الجيش الأوكراني على هذا الرقم، وفي الوقت نفسه أعلنت ممثلة الولايات المتحدة الخاصة لإعادة بناء اقتصاد أوكرانيا بيني بريتزكر في 28 سبتمبر 2023، أن إعادة الإعمار لا يمكن أن تنتظر لنهاية الحرب ويجب أن تبدأ الآن، حتى تواصلت مع أكثر من (30) شركة للاستثمار في أوكرانيا رغم استمرار المعارك، ويقدر البنك الدولي أن أوكرانيا بحاجة لأكثر من (400) مليار دولار لإعادة البناء.أمن دولي ـ هل تستشعر أوروبا مخاطر تصعيد حرب أوكرانيا؟
هل يضغط الغرب للتفاوض؟
مرت المفاوضات بين روسيا وأوكرانيا بـ (6) جولات، بدايتها من بيلاروسيا للمطالبة بوقف إطلاق النار في 28 فبراير 2022، وانطلقت الجولة الثانية في 3 مارس 2022 في بيلاروسيا أيضاً، قبل ان تُعقد افتراضياً الجولة الثالثة بين الطرفين في 14 مارس 2022، لتدخل تركيا على خط الوساطة باستقبال المفاوضات في 30 مارس 2022، وانتهت الجولة الأخيرة من المباحثات دون نتائج في 22 أبريل 2022. وعلى مدار عامين لم تتوقف المحاولات الدولية لإنهاء هذا النزاع، حتى أعلن وزير الخارجية السويسري إغنازيو كاسيس في 26 سبتمبر 2023، أن هناك (10) خطط لتسوية الأزمة الأوكرانية، من بينها نحو (6) خطط معلنة فقط، مؤكدا على أن الولايات المتحدة مهتمة بالمشاركة.
أشارت تقارير سرية إلى طرح مسؤولين غربيين في 10 نوفمبر 2023، فكرة محادثات للسلام مع روسيا، مستغلين الجولة الأخيرة من المحادثات في مالطا لتشجيع أوكرانيا للنظر في التنازلات التي قد تكون على استعداد لتقديمها، وسرعان ما نفى متحدث باسم الخارجية الأمريكية هذه التقارير، مؤكداً بأن بلاده ليست على علم بأي محادثات سلام روسية أوكرانية. وتضمنت خطة أوكرانيا للسلام (10) نقاط، من بينها؛ انسحاب كافة القوات الروسية من أراضيها قبل عامين وقبل ضم شبه جزيرة القرم في 2014، والإفراج عن جميع السجناء الأوكرانيين. وفي 15 يناير 2024 عرضت أوكرانيا هذه الخطة في “منتدى دافوس” بمشاركة مستشاري الأمن القومي من (83) دولة، وعلق وزير الخارجية السويسري إغنازيو كاسيس.، بأنه لا كييف ولا موسكو على استعداد لهذه الخطوة.
قبل هذا الطرح أكدت الدولتان على إنهما تريدان إنهاء الحرب ولكن بشروطهما، وحذر الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي من أن وقف إطلاق النار يمنح روسيا فرصة لإعادة تجميع صفوفها، ووصف الكرملين خطة كييف بأنها عملية “سخيفة” لاستبعادها روسيا. بينما أعلن المتحدث باسم الرئاسة الروسية ديمتري بيسكوف في 25 فبراير 2024، أن بلاده مازالت منفتحة للمفاوضات للتسوية مع أوكرانيا، وتفضل روسيا تحقيق أهدافها عبر الوسائل الدبلوماسية، تعليقاً على أنباء إجراء مفاوضات مع الولايات المتحدة بشأن أوكرانيا، كما أكد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في 29 فبراير 2024، أن موسكو مستعدة للدخول في حوار مع الولايات المتحدة بشأن الاستقرار الاستراتيجي، رافضاً أي محاولات لإجبار بلاده على هذه الخطوة. وفي الأول من مارس 2024 كشفت صحيفة “وول ستريت جورنال” عن وثيقة بتاريخ 15 أبريل 2022، تتضمن شروط روسيا لتوقيع معاهدة سلام مع أوكرانيا، ومن بينها تحويلها لدولة محايدة لا تشارك في كتل عسكرية.
عوامل تدفع أوكرانيا للتفاوض
الفشل العسكري: فشل الهجوم المضاد الذي شنته أوكرانيا في 4 يونيو 2023، وخسر الجيش الأوكراني نحو (70) ألف قتيل و(100) ألف جريح من أصل (400) ألف جندي في عامين، ما أدى لمهاجمة روسيا للبنية التحتية للطاقة شمال كييف والموانئ الأوكرانية، وفي 17 فبراير 2024 انسحبت القوات الأوكرانية من مدينة أفدييفكا شرقاً، لتدمير أجزاء كبيرة منها ونقص الموارد والمساعدات العسكرية الغربية، في المقابل عززت روسيا من العناصر والذخيرة لتستولي على المدينة ما يعد انتصاراً رمزياً لها. ومنذ 22 فبراير 2024 تهاجم روسيا القوات الأوكرانية شمال شرق البلاد، في عملية هجومية متعددة المحاور، على طول الجزء الشمالي من الخطوط الأمامية الحالية بشرق أوكرانيا، وحدود منطقتي خاركيف ولوغانسك.ملف: أمن دولي ـ البحر الأسود، الاستعداد للتصعيد في حرب أوكرانيا
شعبية زيلينسكي: تراجعت ثقة الأوكرانيين في رئيسهم مقارنة ببداية الحرب، وأشارت استطلاعات الرأي، إلى تراجع الثقة في فولوديمير زيلنيسكي من (84%) في ديسمبر 2022 إلى (62%) في ديسمبر 2023. تراجع شعبية زيلينسكي لم يكن على المستوى الشعبي فقط بل وصل إلى المستوى السياسي، وأكد عمدة كييف فيتالي كليتشكو، أن أوكرانيا تسير في الاتجاه الخاطئ لذا تتراجع شعبية زيلينسكي.
نقص الذخيرة والتسلح: استنفدت مخزونات المعدات السوفيتية في بلدان حلف “الناتو” الشرقية، وهي أسلحة يجيد الجيش الأوكراني استخدامها، وأعلنت سلوفاكيا وبولندا توقيف دعمهما لأوكرانيا الفترة المقبلة، وشهدت عواصم أوروبية مظاهرات رافضة للدعم المقدم لكييف، وقال رئيس اللجنة العسكرية بالناتو الأدميرال روب باور، إنه “يمكن رؤية قاع البرميل الآن” في إشارة لنفاد الذخيرة بأوكرانيا، ما دفع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي لزيارة فرنسا وألمانيا في فبراير 2024، والمطالبة في مؤتمر ميونيخ للأمن 2024 بزيادة الدعم العسكري لبلاده.
الخلاف حول دعم أوكرانيا: تتباين المواقف الغربية حول دعم كييف، وفي 5 أكتوبر 2023 ظهرت بوادر خلاف في الداخل الأمريكي حول إقرار مساعدات إضافية لأوكرانيا، ورغم دعوة الرئيس الأمريكي جو بايدن للكونغرس لتمرير مشروع قانون أقره مجلس الشيوخ، بتقديم حزمة مساعدات (60) مليار دولار لكييف، إلا أن القانون لا يزال معلقاً لمعارضة الجمهوريين بالكونغرس. وكشفت تقارير في 24 فبراير 2024 عن انقسام بين دول غرب وشرق أوروبا، وتوجه دول أوروبا الشرقية الانتقادات لجيرانهم الغربيين لتراجع تسليح أوكرانيا، وفشل الاتحاد الأوروبي في تزويد كييف بمليون قذيفة مدفعية بحلول مارس 2024. وأعلنت بريطانيا في 24 فبراير 2024، حزمة بقيمة (245) مليون جنيه إسترليني لكييف، بالتزامن مع وصول رؤساء وزراء بلجيكا وإيطاليا وكندا لأوكرانيا لإظهار التضامن معها، وأبدت ألمانيا في 26 فبراير 2024 رفضها لتزويد كييف بصواريخ تاوروس، وقوبلت تلميحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن احتمالية إرسال قوات غربية لأوكرانيا برفض أوروبي وأمريكي.
سيناريو الوضع الحالي
التردد الغربي في استكمال دعم كييف، حيث يصل أوكرانيا نحو (30%) فقط من الدعم المتفق عليه، وتقدر المساعدات العسكرية من الاتحاد الأوروبي (5.6) مليار يورو، إضافة إلى تضرر البنية التحتية العسكرية والاقتصادية جراء الحرب، ربما تعني هذه المعادلة تراجع أوكرانيا عسكرياً، في توقيت تطور فيه روسيا تسليحها التقليدي والنووي بحثاً عن انتصار. وفي الوقت نفسه تجاوز الحرب عامها الثاني يعني اتجاه مسارها إلى حرب استنزاف طويلة الأمد، ما يجعل الحل العسكري مستبعداً. ويصبح عام 2024 فترة تعزيز الإمكانية العسكرية لطرفي المعركة، نظراً لأن روسيا تفتقر القوات المدربة اللازمة والمعدات لشن هجوم استراتيجي حتى العام المقبل، ما يرجح كفة الخيار السياسي كحل للأزمة. أمن دولي ـ كيف أثرت حرب أوكرانيا على سوق الأسلحة والإرهاب ـ ملف
تقييم وقراءة مستقبلية
– مسار الحرب الراهنة يصب لصالح روسيا، في ضوء تطورات المشهد العالمي من اشتعال المشهد في منطقة الشرق الأوسط، وتراجع الاهتمام والدعم الغربي المقدم لكييف، واقتراب مخازن الأسلحة الأوروبية من النفاد، يجدد الدعوات الأوروبية لضرورة استئناف المباحثات، رغم أن التصريحات الفرنسية تشير إلى مزيد من التصعيد مع روسيا، ولكن ربما تصبح وسيلة ضغط على روسيا للتراجع عن توسيع المعارك في ظل تراجع أوكراني واضح.
– قد تعقد محادثة الضباط الألمان المسربة بشأن التورط في ضرب جسر القرم، النزاع الراهن وتبعده عن فرص التفاوض لمدة محددة. ولكن في نهاية المطاف ستجد أوروبا نفسها مضطرة لتقديم تنازلات والضغط على أوكرانيا للقبول ببعض شروط روسيا، تخوفاً من استمرار المعارك لأجل غير مسمى وتداعياته الباهظة على الأمن والاقتصاد الأوروبي، خاصة وأن التحركات الروسية لم تحدث فارقاً كبيراً في الحرب. ومن المتوقع أن هجماتها الراهنة لن تحقق أيضاً أي تقدم ملحوظ.
– اتجاه النزاع الروسي الأوكراني إلى مرحلة الجمود، يجبر الولايات المتحدة وروسيا أيضاً للتوصل إلى تسوية سياسية، خاصة مع انشغال واشنطن بالصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وحاجة موسكو للتعافي من الخسائر العسكرية والاقتصادية لهذه الحرب.
– التحول الراهن في موقف الولايات المتحدة بشأن التفاوض، نابع من عدم قدرة واشنطن على مواصلة تقديم الدعم العسكري، لتباين الرؤى في الإدارة الأمريكية حول إرسال حزمة مساعدات جديدة لكييف، التي تجد نفسها مضطرة لقبول الضغوط الغربية للجلوس على طاولة المحادثات مع روسيا.
– رغم التوتر في العلاقات الروسية الأوروبية وتحديداً مع فرنسا وألمانيا، إلا أن الدولتان سيصبح لهما دوراً في دفع أوكرانيا للتفاوض، ولعب دور الوسيط من جديد مع روسيا، خاصة وأنه في بداية الأزمة الراهنة كانت برلين وباريس حلقة الوصل بين موسكو والغرب.
– تظل شروط التفاوض هي نقطة الخلاف المحتملة بين روسيا والغرب، في ظل تمسك الأولى بضرورة نزع السلاح من أوكرانيا وجعلها دولة محايدة، وإصرار كييف على انسحاب روسيا من أراضيها إلى ما قبل عام 2014. ويتحدد شكل المحادثات وفقاً للمعطيات العسكرية في المعارك وما أحرزه طرفا الحرب من تقدم.
رابط مختصر..https://www.europarabct.com/?p=93043
*حقوق النشر محفوظة إلى المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الارهاب والاستخبارات
الهوامش
Five maps show where the war in Ukraine stands after two years
Ukraine and Russia say they want the war to end. But military and political experts say they’re nowhere near peace talks
كيف تواجه أوكرانيا صعوبات تعبئة المزيد من جنودها؟
Diplomacy Watch: Western pressure on Ukraine grows