خاص ـ المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات ـ ألمانيا وهولندا ECCI
انتشرت مخاوف في أوروبا بشأن إمكانية تخلي الولايات المتحدة، بقيادة رئيسها الجديد دونالد ترامب، عن حلف شمال الأطلسي (الناتو). لكن ترامب، المعروف بتشككه الشديد في التحالف عبر الأطلسي الذي تقوده الولايات المتحدة، لن يضطر إلى الانسحاب من الناتو لتفكيكه. في الواقع، لدى البيت الأبيض خيارات عديدة إذا رغب في تقويض التحالف. ويرى الخبراء أن كل ما يتطلبه إنهاء حلف الناتو فعليًا دون انسحاب رسمي هو أن تُضعف إدارة ترامب الثقة التي يقوم عليها وجود التحالف. وبالنسبة للعديد من الخبراء، بدأت هذه العملية بالفعل.
كيف سيسحب ترامب الولايات المتحدة من حلف شمال الأطلسي؟
من أجل الانسحاب الرسمي للولايات المتحدة من حلف شمال الأطلسي (الناتو)، يتعين على إدارة ترامب تقديم إشعار مدته عام واحد، وفقًا للمادة 13 من ميثاق الحلف. وفي إشارة إلى الثقة السابقة في الالتزام الأمريكي الثابت، يجب تسليم الإشعار إلى الحكومة الأمريكية، ثم تقوم واشنطن بإبلاغ الدول الأخرى بهذه الخطوة.
يقول إدوارد هانتر كريستي، المسؤول السابق في حلف شمال الأطلسي، إن ترامب سيحتاج إلى التشاور مع لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ ، ثم إخطارها ، وكذلك لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب. كما أقر الكونجرس تشريعًا في أواخر عام 2023 يمنع أي رئيس أمريكي من سحب الولايات المتحدة من حلف شمال الأطلسي دون موافقة ثلثي أعضاء مجلس الشيوخ أو إجراء منفصل يقره الكونجرس .
تم تضمين الإجراء، الذي دفع به وزير الخارجية الحالي ماركو روبيو، في قانون تفويض الدفاع الوطني للسنة المالية 2024 الذي وقعه الرئيس السابق جو بايدن ليصبح قانونًا.
ماذا يمكن أن يفعل ترامب لإثارة الشكوك حول المادة الخامسة؟
ولكن بدلا من السير في هذا المسار، هناك عدة طرق يمكن لترامب أن يتبعها والتي من شأنها أن تؤدي بحكم الأمر الواقع إلى تفكك التحالف دون الحاجة إلى المرور بالإجراءات الدرامية المتمثلة في الانسحاب من حلف شمال الأطلسي.
يقول ديفيد بلاغدن، الأستاذ المشارك في الأمن الدولي والاستراتيجية بجامعة إكستر البريطانية: “ستكون العملية غير الرسمية أسهل” . وأضاف بأن إدارة ترامب تُلمح إلى أن الولايات المتحدة لن تفي بالتزامها بموجب المادة الخامسة، وأن مصداقية الناتو ستُفقد بشكل كبير.
المادة الخامسة هي أساس حلف شمال الأطلسي (الناتو). وهي المادة من المعاهدة التأسيسية للحلف، التي تُلزم الدول الأعضاء الأخرى بمساعدة أي عضو يتعرض لهجوم مسلح، بالرد الذي تراه مناسبًا.
ترسانة الأسلحة النووية الأمريكية الهائلة، التي لا تضاهيها إلا روسيا، شكّلت تاريخيًا رادعًا قويًا لأي هجوم محتمل على دولة عضو في حلف شمال الأطلسي. ورغم أن المملكة المتحدة وفرنسا تمتلكان مخزونات صغيرة من الأسلحة النووية، إلا أن هناك تساؤلات كبيرة حول الظروف التي ستُناقش فيها لندن وباريس استخدام هذه الأسلحة، ومخاوف عميقة بشأن ما إذا كانت كافية لردعها دون العدد الهائل من الأسلحة النووية الأمريكية.
يقول بلاغدن إن كل ما هو مطلوب في الواقع هو أن تشكك دول حلف شمال الأطلسي في التزام أميركا بالمادة الخامسة، وأن يشكك خصوم التحالف في هذا الالتزام. وأضاف نيل ميلفين، مدير الأمن الدولي في معهد الخدمات الملكية المتحدة (RUSI)، وهو مؤسسة بحثية، “لقد بدأت الثقة التي كانت تشكل جوهر العلاقة تتآكل بالفعل”.
وأكد ميلفين “أعتقد أن الأمر لا يتعلق بالعملية الرسمية لمغادرة التحالف، بل يتعلق بالشك الذي بدأ يتسلل حول ما إذا كانت الولايات المتحدة ستكون هناك حقا”. وأوضح الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي لقادة أوروبيين في فبراير 2025 إنهم “لا يستطيعون استبعاد احتمال أن تقول أميركا لا لأوروبا بشأن قضية تهددها”.
لكن كبار مسؤولي الناتو في أوروبا حاولوا التقليل من شأن مخاوفهم. وفي حديثه خلال قمة القادة الأوروبيين في لندن في مارس 2025، والتي لم تشمل الولايات المتحدة، صرّح الأمين العام للناتو، مارك روته، لوسائل الإعلام بأن ترامب “ملتزم تمامًا بالمادة الخامسة، بحلف الناتو”. ثم أبدى روته نبرة ودية خلال زيارة للبيت الأبيض لـ”عزيزي دونالد” في 13 مارس 2025.
يرى بلاغدن إن ترامب قد يلمح أيضًا علنًا إلى أن الولايات المتحدة ستدافع فقط عن الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي التي أنفقت ما تعتبره الإدارة كافيًا على الدفاع، على سبيل المثال، وهو ما من شأنه أن يعوق التحالف. وأشار ترامب مرارا وتكرارا إلى أن الولايات المتحدة لن تدافع عن الدول في التحالف التي “لا تدفع” ما يعتبره نصيبها العادل. ويقول ترامب في تصريحاتٍ أدلى بها من المكتب البيضاوي: “إذا لم يدفعوا، فلن أدافع عنهم. لا، لن أدافع عنهم”.
من المفترض أن تُخصّص دول حلف الناتو 2% من ناتجها المحلي الإجمالي للدفاع، وهو هدفٌ لطالما عجزت العديد من الدول الأوروبية الأعضاء عن تحقيقه. وقد رفعت الدول الأعضاء في حلف الناتو في السنوات الأخيرة إنفاقها الدفاعي، حيث وصل معظمها الآن إلى عتبة الـ 2%.
لكن ترامب وكبار مسؤوليه طالبوا أعضاء الناتو بالوصول إلى 5% من الناتج المحلي الإجمالي. ويُقرّ المسؤولون الأوروبيون بضرورة ارتفاع الإنفاق بشكل ملحوظ فوق 2%، وأن الولايات المتحدة لطالما تفوقت على أوروبا، لكنهم يترددون في الالتزام بنسبة 5% التي تُعدّ غير واقعية بالنسبة للعديد من الدول في الوقت الحالي.
يقول كريستي “يمكنك أن تدخل في سيناريوهات سلبية للغاية للخيانة، دون أن تكون الولايات المتحدة رسميًا خارج حلف شمال الأطلسي، وهذا هو الشيء المرعب الذي يتعين على الحكومات الأوروبية التعامل معه الآن”.
الانسحاب العسكري في أوروبا
عسكريًا، قد يلغي ترامب الوجود العسكري الأمريكي الكبير الذي حافظ عليه لعقود في أوروبا دون الإدلاء بتصريحات رسمية بشأن حلف الناتو. وقد أعلنت الولايات المتحدة بالفعل أنها تعيد تركيز اهتمامها على الصين، إلا أن هذا التحول جاء مصحوبًا بنبرة سخرية من حلفاء أمريكا التاريخيين وتقارب مع موسكو، مما أثار مخاوف أعضاء حلف الناتو.
قد يُقلص ترامب عشرات الآلاف من الجنود الأمريكيين النشطين المتمركزين في جميع أنحاء أوروبا، والذين يتركزون بشكل كبير في وسطها. كما قد يتبنى ترامب استراتيجيةً وضعها الأكاديمي المحافظ سومانترا مايترا، الذي اقترح “حلف ناتو خامدًا”، حيث يُسحب الجنود والمعدات الأمريكية من أوروبا، مع احتفاظ القارة بالمظلة النووية الأمريكية والوجود البحري.
يُعتقد أن الولايات المتحدة تمتلك نحو 100 قنبلة نووية تكتيكية منتشرة في خمس دول أوروبية أعضاء في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، منها ألمانيا وبلجيكا. الطائرات الهجومية التابعة للقوات الجوية الأوروبية مُرخصة لحمل هذه القنابل.
أكد بلاغدن إن الحفاظ على هذا الوجود أثناء سحب القوات البرية قد يكون وسيلة للأميركيين ليشعروا بأنهم يجبرون أوروبا على تولي مسؤولية دفاعها على الأرض، لكنهم ما زالوا يحاولون التمسك بقوة الردع التي توفرها القوات الجوية والبحرية الأميركية.
ولكن في الوقت الحالي، لا تزال المكاتب العسكرية الأميركية موجودة في أوروبا، حتى وإن كان من المرجح أن يكون لدى المسؤولين العاملين في هذه المواقع تساؤلات حول كيفية تصرفهم. وذكرت تقارير في مارس 2025 نقلا عن مسؤولين دفاعيين ووثيقة من البنتاغون، أن إدارة ترامب تدرس التخلي عن سيطرة أمريكا على دور القائد الأعلى لقوات حلف شمال الأطلسي في أوروبا.
يقول الأميرال المتقاعد جيمس ستافريديس، الذي شغل منصب SACEUR من عام 2009 إلى عام 2013، للوكالة: ” إن تسليم الدور المعروف باسم SACEUR “سيُنظر إليه في أوروبا على أنه إشارة مهمة للانسحاب من التحالف”. ومن بين القيادات القتالية الإحدى عشرة للجيش الأمريكي، يُمكن دمج خمسٍ منها بموجب خطة جديدة، وفقًا لما ذكره مسؤولا الدفاع. ووفقًا للتقرير، يُمكن دمج القيادة الأمريكية الأوروبية والقيادة الأمريكية الأفريقية في قيادة واحدة مقرها ألمانيا، وكذلك القيادة الجنوبية التي يقع مقرها في فلوريدا مع القيادة الشمالية.
يبدو من المرجح أن تُخفّض الولايات المتحدة وجودها العسكري في أوروبا، وأن يكون العسكريون المتبقون “أقل تفانيًا في الدفاع عن أوروبا”، وفقًا لكريستي. وأضاف أن الولايات المتحدة قد تُبقي على قواعدها وجنودها المتمركزين هناك لبسط نفوذها في الشرق الأوسط والحفاظ على أنظمة الإنذار المبكر بالصواريخ، ولكن ليس لردع روسيا عن مهاجمة أوروبا.
أضاف كريستي “إن احتمال انسحاب الولايات المتحدة بشكل كبير للغاية، أو حتى تخليها عن أوروبا في مواجهة روسيا، أصبح الآن محتملاً بدرجة كافية بحيث لا تستطيع أي حكومة أوروبية مسؤولة أن تتحمل مسؤولية عدم إعداد خطط دفاعية لا تفترض أي مساعدة من الولايات المتحدة”.
قد تتوقف الولايات المتحدة عن المشاركة في مناورات حلف شمال الأطلسي (الناتو)، نظرًا لمدى تكامل القوات الأمريكية مع كيفية استجابة الدول الحليفة للأزمات في أوروبا. في فبراير 2025، أجرى حلف شمال الأطلسي (الناتو) أكبر مناوراته العسكرية للعام 2025، ولم يكن هناك أي جنود أمريكيين حاضرين.
الاستخبارات والدبلوماسية
يمكن الشعور بهذا الغياب في أماكن أخرى. ففي محاولة واضحة للضغط على كييف لقبول مقترحات وقف إطلاق النار الأمريكية، قطع ترامب المساعدات العسكرية المتجهة إلى البلد الذي مزقته الحرب في مارس 2025، وسرعان ما ضاعف الضغط على كييف بقطعه وصول أوكرانيا إلى المعلومات الاستخباراتية المستمدة من الولايات المتحدة.
يقول كريستي إن التخطيط الأوروبي من الآن فصاعدا يحتاج إلى أن يأخذ في الاعتبار كيفية تصرف الولايات المتحدة تجاه أوكرانيا، مع اعتبار ذلك نموذجا محتملا لكيفية تفاعل واشنطن مع أحد حلفائها الأوروبيين. تابع كريستي “حتى لو لم تكن لدى الولايات المتحدة أي نية لخيانة حلفائها في المعاهدة، فإن قطع المساعدات والمعلومات الاستخباراتية عن أوكرانيا، الدولة الشريكة في الحرب، لن يُنسى أبدًا”.
أوضح ميلفين إن الولايات المتحدة لديها مجموعة متنوعة من العلاقات الاستخباراتية مع مختلف البلدان الأوروبية، ولكن مثل حلف شمال الأطلسي نفسه فإن تبادل المعلومات الاستخباراتية يعتمد على الثقة. الولايات المتحدة عضو في شبكة تبادل المعلومات الاستخباراتية التي تضم خمس دول، وتُعرف باسم “العيون الخمس”، وتضم كندا والمملكة المتحدة وأستراليا ونيوزيلندا. ثلاثة من أعضائها أعضاء في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وهناك بالفعل مؤشرات على أن أعضاء سابقين وحاليين في مجتمع الاستخبارات في “العيون الخمس” قلقون بشأن كيفية تقويض التحالف في ظل وجود ترامب على رأس قيادته.
وأضاف ملفين أن المسؤولين الأمريكيين قد يتوقفون عن حضور بعض اجتماعات الناتو، وخاصةً تلك التي تُركز على إرسال قوات أو دعم أوروبا في سيناريو مُعين. وأوضح أن هذا سيُرسل رسالة قوية إلى أعضاء الناتو مفادها أن الولايات المتحدة لن تُدافع عن أوروبا في أي صراع مُحتمل.
وذكرت رويترز في مارس 2025 أن العديد من وكالات الأمن القومي توقفت عن العمل مع الحلفاء الأوروبيين في مجموعات العمل التي تم إنشاؤها في الإدارة السابقة والتي تهدف إلى اكتشاف وإحباط عمليات التخريب الروسية وهجمات المنطقة الرمادية.
رابط مختصر.. https://www.europarabct.com/?p=102639