بون ـ المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات ECCI ـ وحدة الدراسات (27)
تمثل ألمانيا أحد أبرز الفاعلين الأوروبيين في دعم حل الدولتين كإطار لإنهاء الصراع بين إسرائيل وفلسطين، حيث تعتمد سياستها الخارجية على نهج متوازن يجمع بين دعم حقوق الفلسطينيين وأمن إسرائيل. غير أن هذا الموقف يواجه تحديات مستقبلية معقدة تتعلق بالجغرافيا السياسية، والتحولات الإقليمية، والتغيرات في موازين القوى العالمية. في ظل هذه التحديات، تحتاج ألمانيا إلى تطوير استراتيجية متكاملة تضمن استمرار دورها المؤثر في عملية السلام.
ما أبرز التحديات الجيوسياسية والإقليمية؟
يشهد الشرق الأوسط ديناميكيات متغيرة تؤثر بشكل مباشر على قدرة أي قوة دولية، بما في ذلك ألمانيا، على التأثير في مسار عملية السلام. فالصراعات المستمرة في سوريا واليمن وليبيا، وتزايد نفوذ الجهات الفاعلة غير الحكومية مثل الجماعات المسلحة، تعرقل جهود تحقيق استقرار إقليمي يمكن أن يدعم حل الدولتين. بالإضافة إلى ذلك، أدت اتفاقيات التطبيع الأخيرة بين إسرائيل وبعض الدول العربية (مثل اتفاقيات أبراهام) إلى إعادة تشكيل المشهد السياسي، ما يجعل الموقف الألماني أكثر تعقيدًا، إذ تحتاج برلين إلى التوفيق بين دعم هذه التحولات والحفاظ على موقفها التقليدي الداعم لحل الدولتين.
أكد المستشار الألماني أولاف شولتس التزام بلاده بحل الدولتين كوسيلة لتحقيق السلام الدائم بين الفلسطينيين والإسرائيليين. في تصريح عقب لقائه بالرئيس الأمريكي السابق جو بايدن، في فبراير 2024، شدد شولتس على أهمية هذا الحل لضمان تعايش سلمي وأمن مستدام في المنطقة، معربًا عن استعداد ألمانيا لبذل كل الجهود الممكنة لتحقيقه. ويؤكد توماس أوفتشا، رئيس الممثلية الألمانية في فلسطين، على التزام ألمانيا بحل الدولتين كسبيل لإنهاء الصراع. يشير أوفتشا إلى أن برلين تدعم جهود الإصلاح التي تقودها الحكومة الفلسطينية، مع التشديد على ضرورة نبذ العنف من جميع الأطراف. كما يبرز أهمية استمرار الحوار والتعاون الدولي لتحقيق السلام والاستقرار في المنطقة. أمن دولي ـ مؤتمر ميونخ للأمن، من سيشارك في المفاوضات المحتملة للسلام في أوكرانيا ؟
ما طبيعة المنافسة بين القوى العالمية والإقليمية؟
يتأثر موقف ألمانيا بالمنافسة الجيوسياسية بين القوى الكبرى، حيث تلعب الولايات المتحدة وروسيا دورًا حاسمًا في تحديد ملامح الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. في الوقت الذي تميل فيه واشنطن إلى تقديم دعم غير مشروط لإسرائيل، تسعى موسكو إلى توسيع نفوذها في الشرق الأوسط عبر علاقاتها مع مختلف الأطراف، بما في ذلك الفصائل الفلسطينية. كما أن نفوذ إيران في المنطقة، ودورها في دعم بعض الفصائل الفلسطينية واللبنانية، يزيد من تعقيد المشهد. في هذا السياق، تواجه ألمانيا تحديًا في إيجاد توازن بين سياساتها التقليدية القائمة على التوافق الأوروبي، وبين ضرورة التفاعل مع هذه القوى لتحقيق تقدم في عملية السلام.
ما دور الاتحاد الأوروبي في دعم حل الدولتين؟
تلعب ألمانيا، باعتبارها إحدى الدول القائدة في الاتحاد الأوروبي، دورًا رئيسيًا في رسم سياسة الاتحاد تجاه الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. تسعى برلين إلى توحيد الموقف الأوروبي حول دعم حل الدولتين، لكنها تواجه تحديات داخلية نتيجة تباين مواقف الدول الأعضاء، حيث تتبنى بعض الدول مواقف أكثر تقاربًا مع إسرائيل، بينما تدعو أخرى إلى إجراءات أكثر صرامة ضد الاستيطان الإسرائيلي. في ظل هذه التباينات، تعمل ألمانيا على تحقيق توازن داخل الاتحاد الأوروبي لضمان موقف موحد يدعم تحقيق السلام العادل.
ما طبيعة التفاعل مع المجتمع الدولي؟
تلعب ألمانيا دورًا دبلوماسيًا نشطًا في المؤسسات الدولية، مثل الأمم المتحدة، لدعم قرارات الشرعية الدولية المتعلقة بالصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. ومع ذلك، تواجه برلين تحديات في دفع القوى الكبرى للالتزام بتلك القرارات، خاصة في ظل الانقسامات داخل مجلس الأمن بشأن هذه القضية. كما أن الموقف الألماني تجاه إسرائيل، الذي يتأثر بعوامل تاريخية، يجعلها أقل قدرة على ممارسة ضغوط سياسية فعالة على تل أبيب فيما يتعلق بمسائل مثل الاستيطان أو انتهاكات حقوق الفلسطينيين. ومع ذلك، تحاول ألمانيا تعزيز تعاونها مع الشركاء الدوليين، مثل الولايات المتحدة والدول العربية المعتدلة، لتجاوز العوائق الدبلوماسية وتعزيز فرص استئناف المفاوضات.
تعاني السياسة الخارجية الألمانية من تعقيدات ناجمة عن الاستقطاب الدولي الحاد بين القوى الكبرى، وهو ما ينعكس على موقفها من النزاع بين إسرائيل وفلسطين. تلتزم برلين بسياسات الاتحاد الأوروبي التي تدعم حل الدولتين، لكنها في الوقت ذاته لا تريد الدخول في صدام مع الولايات المتحدة، الحليف الأهم لها، والتي تواصل دعم إسرائيل بشكل غير مشروط. علاوة على ذلك، فإن المنافسة المتزايدة بين الولايات المتحدة والصين وروسيا تعيد تشكيل النظام الدولي، مما يجعل برلين بحاجة إلى التحرك بحذر شديد في القضايا الجيوسياسية الحساسة، بما في ذلك القضية الفلسطينية. من ناحية أخرى، يفرض تصاعد نفوذ دول مثل إيران وتركيا في الشرق الأوسط تحديات إضافية على ألمانيا، حيث تسعى هذه الدول لاستغلال الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي لتحقيق مكاسب سياسية إقليمية. في ظل هذه التعقيدات، من المتوقع أن تستمر ألمانيا في تبني نهج دبلوماسي مرن، يركز على تعزيز التعاون مع الأطراف المعتدلة داخل إسرائيل وفلسطين، مع محاولة عدم تجاوز الخطوط الحمراء التي قد تؤدي إلى توتر علاقاتها مع القوى الكبرى. أمن دولي ـ هل تستفيد روسيا من الدعم الصيني في ظل العقوبات الغربية؟
ما الاستراتيجية المستقبلية لتعزيز الدور الألماني؟
يتطلب الحفاظ على دور ألماني فعال في دعم حل الدولتين اعتماد دبلوماسية متوازنة تجمع بين الدعم السياسي للفلسطينيين وضمان أمن إسرائيل. يمكن لألمانيا أن تستثمر في مبادرات وساطة جديدة، بالشراكة مع الدول الأوروبية والعربية، لدفع عملية السلام قدمًا. كما يمكنها الاستفادة من علاقاتها الجيدة مع الطرفين لتعزيز الحوار وبناء الثقة. يمكن لألمانيا توظيف مساعداتها التنموية لدعم الاستقرار في الأراضي الفلسطينية، من خلال تمويل مشاريع البنية التحتية وتعزيز قدرات المؤسسات الفلسطينية، بما يساهم في تحسين الظروف المعيشية وتقوية مؤسسات الدولة الفلسطينية المستقبلية. لضمان تأثير أكبر في عملية السلام، ينبغي على ألمانيا تعزيز شراكاتها مع الدول العربية المؤثرة، مثل مصر والأردن والسعودية، بهدف بناء توافقات إقليمية تدعم حل الدولتين. كما يمكنها لعب دور الوسيط في تقريب وجهات النظر بين الأطراف المختلفة، خاصة في ظل انقسامات الساحة الفلسطينية. أمن دولي ـ مؤشر مؤتمر ميونخ للأمن 2025 والتقرير السنوي
تقييم وقراءة مستقبلية
– يواجه موقف ألمانيا من حل الدولتين تحديات جيوسياسية وإقليمية معقدة، تتطلب منها اتباع نهج أكثر ديناميكية يجمع بين الدبلوماسية الفاعلة والتعاون مع القوى الإقليمية والدولية. ورغم هذه التحديات، تظل ألمانيا لاعبًا محوريًا في دعم عملية السلام، لكن نجاحها في هذا الدور يتوقف على قدرتها على التكيف مع التحولات السياسية في الشرق الأوسط، والحفاظ على نهج متوازن يعزز فرص تحقيق حل دائم للصراع.
– تمثل السياسة الألمانية تجاه القضية الفلسطينية تحديًا دبلوماسيًا معقدًا، إذ تحاول برلين الموازنة بين التزامها التاريخي بدعم إسرائيل ومسؤوليتها تجاه دعم الحقوق الفلسطينية في إطار حل الدولتين.
– رغم التصريحات الألمانية المتكررة حول ضرورة تحقيق حل عادل للصراع، إلا أن الواقع السياسي يشير إلى صعوبة تنفيذ سياسات متوازنة على الأرض، خاصة في ظل الضغوط الداخلية والخارجية التي تواجهها الحكومة الألمانية. مع استمرار التوسع الاستيطاني الإسرائيلي، والتوترات في غزة والضفة الغربية، يصبح موقف ألمانيا أكثر حرجًا، حيث تواجه انتقادات من الأوساط الفلسطينية والعربية بشأن عدم اتخاذها مواقف أكثر صرامة ضد الانتهاكات الإسرائيلية، بينما تتعرض لضغوط أمريكية وإسرائيلية لمواصلة دعم تل أبيب دون شروط. لذلك، فإن قدرة ألمانيا على تبني سياسة أكثر استقلالية بشأن حل الدولتين تظل مرهونة بعوامل داخلية، مثل توجهات الرأي العام الألماني، والخطوط الحمراء التي يضعها الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة.
– تلعب العوامل الداخلية في ألمانيا دورًا رئيسيًا في تشكيل سياستها الخارجية، لا سيما فيما يتعلق بحل الدولتين. فالرأي العام الألماني متباين تجاه القضية الفلسطينية؛ إذ تدعم شرائح واسعة من المجتمع المدني حقوق الفلسطينيين، بينما ترى تيارات سياسية أخرى أن مسؤولية ألمانيا التاريخية تجاه اليهود تحتم عليها دعم إسرائيل بشكل غير مشروط. كما أن الأحزاب السياسية الألمانية الكبرى تختلف في مواقفها، حيث تميل الأحزاب اليسارية مثل حزب الخضر إلى انتقاد سياسات إسرائيل، بينما يدعم التيار المحافظ العلاقات الوثيقة مع تل أبيب.
– في الوقت نفسه، يؤثر تزايد اليمين المتطرف في ألمانيا، والذي يعادي المهاجرين والمسلمين، على السياسة العامة تجاه الشرق الأوسط، مما قد يقلل من الحماس لدعم الحقوق الفلسطينية. ومع استمرار هذه الانقسامات الداخلية، فإن قدرة ألمانيا على تبني سياسة أكثر وضوحًا وجرأة في دعم حل الدولتين ستظل محدودة، ما لم تحدث تغيرات جذرية في التوجهات السياسية أو الرأي العام المحلي.
– رغم التحديات التي تواجهها، تمتلك ألمانيا أدوات يمكن أن تعزز دورها في دعم حل الدولتين، إذا قررت تبني نهج أكثر فاعلية. أحد السيناريوهات المستقبلية يتمثل في تعزيز برلين لدورها كوسيط دبلوماسي بين الفلسطينيين والإسرائيليين، مستفيدة من ثقلها الاقتصادي والسياسي داخل الاتحاد الأوروبي.
– يمكن لألمانيا أن تستخدم نفوذها في المؤسسات الدولية، مثل الأمم المتحدة، للضغط من أجل تنفيذ قرارات الشرعية الدولية المتعلقة بالقضية الفلسطينية، كما تستطيع لعب دور في دعم المشاريع التنموية في الضفة الغربية وقطاع غزة لتعزيز الاستقرار الاقتصادي، وهو عنصر أساسي لأي عملية سلام ناجحة. ومع ذلك، فإن تحقيق هذا الدور يتطلب من برلين تجاوز بعض القيود التي تفرضها علاقاتها مع إسرائيل، والتعامل بحذر مع التوازنات الدولية المعقدة. في حال تمكنت ألمانيا من توظيف قوتها الاقتصادية والدبلوماسية بشكل أكثر استقلالية، فقد تصبح لاعبًا رئيسيًا في تحريك عملية السلام.
رابط مختصر..https://www.europarabct.com/?p=101028
*حقوق النشر محفوظة إلى المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات
هوامش
Germany’s Middle East policy has reached a dead end
How Germany Lost the Middle East
Germany says two states ‘only solution’ to Israeli-Palestinian conflict
Germany’s fall from grace