بون ـ المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات ECCI ـ وحدة الدراسات (3)
أصبحت منطقة بحرالبلطيق بؤرة توتر متزايدة بعد اندلاع حرب أوكرانيا في فبراير 2024، حيث تشهد منطقة بحر البلطيق هجمات هجينة متعددة تتعلق بتخريب كابلات الطاقة والاتصالات، مما أثار مخاوف حلف شمال الأطلسي والحلفاء. هذا ما دفع الاتحاد الأوروبي والناتو بتقديم دعما سياسيا واقتصاديا وعسكريا لدول البلطيق لتعزيز قدراتها على مواجهة التهديدات الهجينة الروسية.
لماذا يشكل القرب الجغرافي من روسيا عاملا في التصعيد؟
يحد بحر البلطيق تسع دول “الدنمارك والسويد وفنلندا وإستونيا ولاتفيا وليتوانيا وألمانيا وروسيا وبولندا” وهناك ما لا يقل عن 10 كابلات بحرية تربط هذه الدول ببقية أوروبا. حيث يعد بحر البلطيق هو أسهل مكان يمكن لروسيا مهاجمته لأنه يمكن الوصول إليه مباشرة من خلال الموانئ في سانت بطرسبرغ وجيب كالينينجراد شرق بولندا. تظل دول البلطيق “إستونيا ولاتفيا وليتوانيا” جزءا من ما يسمى بحلقة الكهرباء “BRELL” مع روسيا وبيلاروسيا لبضعة أشهر أخرى قبل فصلها في فبراير 2025.
زادت مخاوّف دول البلطيق الثلاث من أن تحاصرها القوات الروسية من عدة جهات، لا سيّما وأن اثنتين منهم ـ وهما إستونيا ولاتفيا – تملكان حدودا مباشرة مع روسيا. في حين تتشارك الدولة الثالثة في منطقة البلطيق ـ وهي ليتوانيا ـ شريطا حدوديا طويلا مع بيلاروسيا. تقدمت حكومات البلطيق بطلب للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، وفي العام 2004 حصلت الدول الثلاث على عضوية الاتحاد الأوروبي. بين أعوام 2011 و2015 حصلت الدول الثلاث على عضوية حلف الناتو، ومنطقة اليورو.
تعد المسافات الجغرافية في منطقة البلطيق صغيرة، وإذا استولت روسيا على جزيرة جوتلاند ، فقد تتمكن من الهيمنة على منطقة بحر البلطيق. وهذا من شأنه أن يجعل من الصعب للغاية على الغرب توفير التعزيزات لدول البلطيق عن طريق البحر أو الجو.
كيف تمثل سفن التجسس الروسية تحدياً متزايداً للناتو ؟
بات “أسطول الظل الروسي” يشكل تحدياً متزايداً للناتو في بحر البلطيق حيث يشير هذا المصطلح إلى مجموعة من السفن التجارية ومنها ناقلات النفط، التي تستخدمها روسيا لتجاوز العقوبات الغربية المفروضة عليها خاصة في قطاع الطاق ةتلعب دوراً أكبر في عمليات ستخباراتية تهدد البنية التحتية الأوروبية والتجسس على الناتو.
كشفت التقارير عن وجود سفينة تجسس روسية قريبة من الساحل الألماني، ولكن خارج المياه الإقليمية الألمانية والدنماركية. تم اكتشاف السفينة “فاسيلي تاتيششيف” مابين منطقة “فيهمارن ومنارة كييل”. وهي تتمركز في ميناء أسطول البلطيق في جيب كالينينغراد الروسي وربما تم نشرها في دول البلطيق لمراقبة التدريبات بسبب مناورة الناتو. وجد تحقيق مشترك أجرته هيئات البث العامة في السويد والدنمرك والنرويج وفنلندا ما لا يقل عن (50) سفينة تجسس روسية مشتبه بها تعمل في تلك المنطقة.
يعتقد مسؤولو الاستخبارات الغربية أن جهود روسيا لمراقبة وبناء القدرة التقنية للوصول إلى هذه البنية التحتية الضخمة تحت الماء آخذة في التوسع وتنتشر حالياً بين عدد من الفروع المختلفة للأجهزة العسكرية والأمنية في البلاد، بما في ذلك البحرية الروسية والمديرية الرئيسية لأبحاث أعماق البحار (GUGI). أمن دولي ـ الإطار النظري للنظام الدولي الجديد وسياق التطرف والإرهاب
ما مدى التدخل السيبراني والهجين الروسي في بحر البلطيق؟
تعد الهجمات على كابلات الاتصالات خلال العام 2024 التي نسبها الناتو إلى روسيا هي جزء من النمو الكبير في التدخل السيبراني والهجين وغير ذلك من أشكال التدخل في أوروبا. ففي نوفمبر 2024 ، انقطع كابلان في بحر البلطيق بين السويد وليتوانيا وكابل آخر بين ألمانيا وفنلندا، مما أثار على الفور قلق الدول الأعضاء وحلف شمال الأطلسي بشأن احتمال تعرضها لعمليات تخريب.
يقول هنريك براكس، الباحث المقيم في إستونيا في المركز الدولي للأمن والدفاع (ICDS) “بالنسبة للدول المطلة على بحر البلطيق، فإن البنية التحتية تحت البحر مهمة للغاية، وخاصة بالنسبة للدول الواقعة على الشاطئ الشرقي لبحر البلطيق ودول البلطيق وفنلندا، لأن جزءًا كبيرًا من اتصالات البنية التحتية للبيانات والطاقة بين جميع دول الاتحاد الأوروبي تمر تحت بحر البلطيق: كابلات البيانات، والكابلات الكهربائية، وخطوط أنابيب الغاز”.
أوضح كيستوتيس بودريس وزير خارجية ليتوانيا “ننبه حلفاؤنا إن الهجمات ليست عشوائية؛ إنها جزء من العمليات العسكرية. نحن بحاجة إلى تحييدها ووقفها عند المصدر، والمصدر هو الاستخبارات العسكرية الروسية”. تشير الوقائع إلى أن المخاطر كبيرة بالفعل، إذ تمر 90% من بيانات الاتصالات الرقمية العالمية عبر كابلات بحرية، ويشكل بحر البلطيق، الذي يحده ثماني دول أعضاء في الاتحاد الأوروبي، منطقة استراتيجية تظل عُرضة للهجمات الهجينة.
هل يهدد برنامج “الأبحاث البحرية الروسية” تماسك التحالف؟
تنفذ روسيا برنامج منذ عقود ويطلق ليه اسم “برنامج الأبحاث البحرية الروسية” وهو تعبير عن هيكل شبه عسكري، ممول بشكل جيد للغاية، يرسم خرائط لجميع الكابلات وخطوط أنابيب الطاقة، يضم البرنامج مجموعة من الغواصات الصغيرة، وطائرات بدون طيار يتم التحكم فيها وغواصون ومتفجرات.
أوضح “يورجن يواكيم فون ساندرارت” الفريق السابق، ورئيس فيلق الناتو المتعدد الجنسيات في الشمال الشرقي ومقره شمال غرب بولندا، “هناك خيارات متعددة أمام روسيا لاختبار تماسك التحالف”، بما في ذلك الاستيلاء على أراض محدودة. وأضاف إن روسيا ماهرة في هذا النوع من الحروب، وحلف شمال الأطلسي يعرف ذلك جيداً. ويقول “جيمس أباتوراي” المسؤول الكبير في حلف شمال الأطلسي المكلف بالتعامل مع الحرب الهجينة، إن هناك “احتمالاً حقيقياً” بأن تشن روسيا شكلاً من أشكال الهجوم غير التقليدي ضد التحالف وتتسبب في خسائر “كبيرة”.
التفكير الأمني الروسي قد يحقق عمق استراتيجي
تنامت التحذيرات من تزايد الهجمات الروسية في منطقة بحر البلطيق. خلال العام 2024، حيث أطلقت السفن الحربية الروسية طلقات تحذيرية على سفن الناتو، وعطلت أنظمة التشويش الروسية الحركة الجوية، ونفذت الطائرات المقاتلة الروسية مناورات خطيرة، بما في ذلك إلقاء الوقود على طائرات التجسس التابعة للحلفاء في سماء دول البلطيق.
بدأت البحرية الروسية في 30 يوليو 2024 مناورة كبرى لأساطيلها في المحيطين القطبي الشمالي والهادئ، بالإضافة إلى بحر البلطيق وبحر قزوين. شارك نحو (20) ألف بحار و(300) سفينة سطحية وغواصة و(50) طائرة في التدريبات القتالية والتدريب على تقنيات تشمل استخدام الصواريخ المضادة للطائرات والأسلحة المضادة للغواصات.
يعكس التفكير الأمني الروسي رغبة في تحقيق عمق استراتيجي ورغبة في إنشاء منطقة عازلة واحدة في أوروبا، من القطب الشمالي إلى بحر البلطيق والبحر الأسود، عبر البحر الأبيض المتوسط. وتساعد تقييمات التهديدات المحددة التي قدمتها مصادر حلف شمال الأطلسي على فهم سبب خطورة استنتاجات التقارير. وبحسب تقديرات حلف شمال الأطلسي، فإن الضربات الصاروخية الروسية ستستهدف هلسنكي. لكن الهجوم الرئيسي لروسيا سيكون في دول البلطيق. أمن ألمانيا ـ عسكرة السياسة الألمانية، التحول من سياسة الدفاع إلى الهجوم
ردود فعل الناتو والدول الأعضاء
بدأ حلف شمال الأطلسي في وضع استراتيجية جديدة لمواجهة الهجمات الهجينة لتحل محل سياسة عام 2015. ونشر حلف شمال الأطلسي وحلفاؤه المزيد من طائرات الدوريات البحرية وطائرات الرادار طويلة المدى والطائرات بدون طيار في رحلات مراقبة واستطلاع، في حين جرى إرسال أسطول من صائدي الألغام إلى منطقة البلطيق.
تدرس الدول الأعضاء داخل الناتو اتخاذ تدابير إضافية لمواجهة التهديدات المحتملة للبنية التحتية الحيوية تحت الماء. وتشمل هذه الجهود الدعم من مركز حلف شمال الأطلسي البحري لأمن البنية التحتية الحيوية تحت الماء، والذي تم إنشاؤه في مايو من العام 2024.
كثف الاتحاد الأوروبي جهوده، في ديسمبر2024 بفرض عقوبات على أشخاص متهمين على وجه التحديد بالتورط في تهديدات هجينة موالية لروسيا. وفي نوفمبر 2024، دعا أعضاء البرلمان الأوروبي إلى الاهتمام بتكتيكات الحرب الهجينة التي تستخدمها روسيا في أوروبا، وخاصة في بحر البلطيق.
دشنت ألمانيا في أكتوبر 2024 مركزا جديدا للقيادة البحرية لحلف الناتو في منطقة بحر البلطيق، الهدف من المركز “تنسيق الأنشطة البحرية” وتزويد الناتو بـ”صورة آنية عن الوضع” في المنطقة. يوظف المركز (180) شخصا، من بينهم ممثلون عن الدنمارك وإستونيا وفرنسا وبريطانيا وإيطاليا ولاتفيا وليتوانيا وهولندا وبولندا. كما ومن بين المشاركين في الفرقة فنلندا والسويد
يقول أندريه زفايجنه، الباحث البارز في معهد أنظمة الكمبيوتر التطبيقية بجامعة ريغا التقنية في ديسمبر 2024 يعاني بحر البلطيق من “ضعف الرؤية” بسبب “طبقات المياه” المختلفة، مما يجعل من الصعب رؤية ما يحدث، لكن بعض الطائرات بدون طيار تتغلب على هذا باستخدام أجهزة السونار. حتى مع وجود نظام قوي في مكانه، فما زال من الصعب على حلف شمال الأطلسي أو دول البلطيق التمييز بين الضربة العرضية للكابلات تحت الماء والتخريب المتعمد. مكافحة الإرهاب ـ خريطة الجماعات المتطرفة في سوريا ومناطق النفوذ
تقييم وقراءة مستقبلية
– عززت روسيا من الوجود العسكري في بحر البلطيق من خلال المناورات العسكرية، واستخدام أساطيل بحرية متطورة، والغواصات النووية، والزوارق الحربية الصغيرة التي تتمتع بالقدرة على تنفيذ هجمات سريعة. و تنظر روسيا إلى الكابلات البحرية للاتصالات والإنترنت باعتبارها نقطة ضغط ضد أمن الدول الأوروبية والناتو.
– من المحتمل محاولة روسيا توسيع نفوذها في منطقة البلطيق وتطوير استراتيجيتها العسكرية في المنطقة، خاصة مع التدخلات المتزايدة من الناتو في البحر أو في الأجواء المحيطة.
– من المتوقع أن يستمر الناتو في تعزيز حضوره العسكري في بحر البلطيق، عبر نشر الأساطيل أو تكثيف تدريبات مشتركة مع الدول الحلفاء، وتعزيز الدفاع السيبراني كألية للردع في المنطقة ضد أي تصعيد روسي.
– بات متوقعا مع تنامي الأنشطة العسكرية الروسية، وتكثيف الناتو والدول الأعضاء داخله في مراقبة بحر البلطيق جويا وبحريا،ان يكون هناك عن مواجهات بين الطائرات الحربية الروسية والطائرات العسكرية للناتو، مما يضاعف المخاوف من تصعيد مستقبلي.
رابط مختصر.. https://www.europarabct.com/?p=99756
*حقوق النشر محفوظة إلى المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات
هوامش
Concerns grow over possible Russian sabotage of undersea cables
https://tinyurl.com/bp5rnjpa
Russian navy begins major combat training exercises
https://tinyurl.com/4mx9f3fa
Putin’s designs on a Baltic island are leading Sweden to prepare for war
https://tinyurl.com/bah94rtj