بون ـ المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات ECCI ـ وحدة الدراسات (3)
تشهد العلاقات الإسرائيلية الألمانية تحولات منذ بدء حرب غزة في 2023. لطالما اعتبرت ألمانيا أمن إسرائيل “مصلحة وطنية”، مدفوعة بمسؤوليتها التاريخية عن الهولوكوست، ما انعكس في دعم سياسي وعسكري غير مشروط امتد لعقود. تجد ألمانيا نفسها أمام معضلة أخلاقية وسياسية، بعد تزايد التقارير الحقوقية والدولية بشأن انتهاك إسرائيل القانون الدولي بشكل ممنهج في قطاع غزة، بما في ذلك من خلال بناء مستوطنات جديدة، وهجمات على المدنيين والبنية التحتية المدنية، وعدم إيصال المساعدات.
أمن إسرائيل “غير قابل للتفاوض بالنسبة لألمانيا
أوضحت “أنغيلا ميركل” المستشارة الألمانية السابقة في مارس 2008 داخل الكنيست أنَّ “كل حكومة ألمانية اتحادية وكل مستشار قبلي كانوا ملتزمين بمسؤولية ألمانيا التاريخية الخاصة عن أمن إسرائيل، ومسؤولية ألمانيا التاريخية هذه هي جزء من أمن بلدي الوطني”. وهذا يعني بحسب تعبيرها أنَّ أمن إسرائيل “غير قابل للتفاوض بتاتا”
ورد في الاتفاق الائتلافي الحكومي السابق بقيادة الحزب الديمقراطي الاشتراكي (SPD ) لعام 2021 ما يلي: “أمن إسرائيل مصلحة وطنية بالنسبة لنا”. سلطت تعليقات المستشار الألماني “فريدريش ميرز” الضوء على دعم ألمانيا لإسرائيل، حيث أكّد “ميرز”: “أن أمن إسرائيل جزء من مصلحة ألمانيا، وأضاف: “نشعر بالفزع إزاء مصير السكان المدنيين ومعاناتهم في غزة”. لا يزال سبب هذا التغيير الحاد في موقف ميرز تجاه إسرائيل غير واضح.
يعتقد “بيتر لينتل” المحلل في المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية والمتخصص في العلاقات الألمانية الإسرائيلية: “أن ميرز أراد تولي منصبه، وبدء محادثات مع القادة الإسرائيليين، وفهم مسار الأمور قبل تحديد موقفه”. وتابع لينتل: “الاستنتاج الذي توصلت إليه معظم دول العالم هو أنها حرب مروعة لم يعد هدفها واضحا”. وأضاف: “من الواضح أنها تغيير في لهجة الحكومة الألمانية وموقفها”. أمن دولي ـ مفاوضات روسيا وأوكرانيا، الفرص والعقبات
موقف الأحزاب الألمانية من إسرائيل
يقول “رالف شتيجنر” من الحزب الاشتراكي الديمقراطي (SPD) في 26 مايو 2025 “يجب أن تنتهي الكارثة الإنسانية التي يعاني منها المدنيون الفلسطينيون، وانتهاك حكومة نتنياهو للقانون الدولي، فورا، ويجب ألا يستمر هذا الانتهاك بالأسلحة الألمانية”. وتابع: و”قد استثنت الحكومة الألمانية لأسباب وجيهة، إسرائيل من قاعدة عدم توريد الأسلحة إلى مناطق النزاع، فالأسلحة تخدم أمن إسرائيل ودفاعها”. وأضاف: “لا مجال للشك في ذلك في قطاع غزة والضفة الغربية”.
انتقد “أرمين لاشيت” رئيس لجنة الشؤون الخارجية الوضع في قطاع غزة، ووصف “لاشيت” تصرفات إسرائيل، في ظل بطء إيصال المساعدات إلى قطاع غزة، بأنها “انتهاك للقانون الدولي”. وأضاف: “يجب إيصال المزيد من الغذاء والدواء إلى قطاع غزة أكثر من ذي قبل، إن عدم القيام بذلك يعد انتهاكا للقانون الدولي”.
وصف وزير الخارجية الألماني “يوهان فادفول” الوضع في غزة بأنه “لا يُطاق”. تابع السياسي من الحزب الديمقراطي المسيحي: “من جهة، ندعم دولة إسرائيل، ونتحمل مسؤوليتها، ومن جهة أخرى، ندعم، بطبيعة الحال، القيم الإنسانية الأساسية، ونلمس معاناة هؤلاء الناس”. وأضاف: “يجب أن يكون هناك إيصال سريع وفعال للمساعدات”. وفي الوقت نفسه، أقر قائلا: “هذا وضع بالغ الصعوبة بالنسبة لنا”.
تقول رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، وهي من المحافظين الألمان مثل ميرز، إن مقتل الأطفال في حرب غزة كان “مثيرا للاشمئزاز”، مما يعكس مدى القلق في الدوائر النخبوية الألمانية. أمن دولي ـ هل تم تهميش دول أوروبا في مفاوضات ترامب وبوتين؟
كيف ساهمت حرب غزة في تحول الرأي العام في ألمانيا؟
تتعرض إسرائيل لضغوط دولية متزايدة بسبب فالوضع الكارثي ي قطاع غزة. ووفقا للأمم المتحدة، فإن جميع سكان القطاع مهددون. وقد حال الحصار الإسرائيلي دون وصول المساعدات، وهي الآن لا تصل إلى المنطقة إلا ببطء. ووفقا للمتحدث باسم الحكومة الألمانية “ستيفان كورنيليوس”: “شدّد ميرز على ضرورة تقديم المساعدات الإنسانية و السماح فورا بدخول مساعدات إنسانية كافية إلى قطاع غزة وضمان توزيعها بشكل آمن على السكان المدنيين”.
استنكرت ألمانيا إعلان الحكومة الإسرائيلية سماحها ببناء (22) مستوطنة جديدة في الضفة الغربية، وترفض الحكومة الألمانية إنشاء مستوطنات إسرائيلية جديدة هناك، معتبرة ذلك غير قانوني بموجب القانون الدولي. كما ساهمت حرب غزة في حدوث تحول واضح في الرأي العام الألماني. وقد فرض هذا التحول معضلة على “ميرز”، الذي وعد “بنيامين نتنياهو” عند فوزه في الانتخابات الوطنية في فبراير 2025 بأنه سيساعد رئيس الوزراء الإسرائيلي على تحدي مذكرة اعتقال صادرة عن المحكمة الجنائية الدولية إذا زار ألمانيا.
أظهر مسح أجرته مؤسسة “بيرتلسمان” في مايو 2025 أن (36%) فقط من الألمان ينظر إلى إسرائيل بشكل إيجابي، و(38%) ينظرون إليها بشكل سلبي. ويعكس هذا المسح تغييرا ملحوظا عن الاستطلاع الأخير الذي أُجري عام 2021، إذ كان (46%) من الألمان لديهم رأي إيجابي تجاه إسرائيل، بينما لا يُقر سوى (%25) الألمان بمسؤولية خاصة تجاه إسرائيل.
يقول “ألكسندر شوارتز” المحامي وعضو المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان: “الأدلة دامغة، فقد خلصت العديد من المحاكم الدولية وهيئات الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان إلى أن إسرائيل تنتهك القانون الإنساني الدولي بشكل ممنهج في قطاع غزة، بما في ذلك من خلال هجمات على المدنيين والبنية التحتية المدنية، والتي تُشكل جرائم حرب”. وأضاف شوارتز: “عادة ما أكون حذرا للغاية في مثل هذه التقييمات، ولكن في هذه الحالة، الوضع يكاد يكون جليا”. أمن أوروبا ـ كيف تستعد أوروبا للحرب العالمية الثالثة؟
ما احتمالية استمرار الدعم الألماني لإسرائيل؟
تظل ألمانيا أكبر شريك تجاري لإسرائيل في أوروبا، فضلا عن وقوفها إلى جانب إسرائيل في قضية الإبادة الجماعية التي رفعتها جنوب أفريقيا ضد إسرائيل في المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي. لاتزال ألمانيا داعم دبلوماسي وعسكري مهم لإسرائيل، فمنذ عام 2020 إلى غاية عام 2023، استحوذت ألمانيا على حوالي ثلث إمدادات الأسلحة الصادرة إلى إسرائيل، ومعظمها فرقاطات بحرية وطوربيدات. وقد أثار وزير الخارجية الألماني جدلا بتصريحاته حول إسرائيل، ووعد بمزيد من المساعدات العسكرية لإسرائيل.
صرّح “زين حسين” الباحث في معهد “ستوكهولم الدولي” لأبحاث السلام: “إسرائيل اعتمدت على ألمانيا في مجال القدرات البحرية وأن إسرائيل لديها طلبية لشراء غواصات من ألمانيا. وشملت إمدادات الأسلحة الألمانية لإسرائيل مركبات مدرعة وشاحنات وأسلحة مضادة للدبابات وذخيرة. ومن غير المرجح أن يتغير هذا الوضع، على الرغم من دعوات إسبانيا لفرض حظر”.
أظهر استطلاع أجرته مؤسسة “سيفي” في مايو 2025 أن (%51) من الألمان يعارضون تصدير الأسلحة إلى إسرائيل. وأظهر الاستطلاع أن النسبة ترتفع بشكل ملحوظ بين أصحاب التوجهات اليسارية، حيث عبّر نحو (%80) المشاركين من ذوي الميول اليسارية عن معارضتهم الصريحة لإرسال الأسلحة من ألمانيا إلى إسرائيل. وأظهر الاستطلاع كذلك أن (%34) من ناخبي حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي (CDU)، الذي ينتمي إليه المستشار “فريدرش ميرز” يعارضون تصدير الأسلحة إلى إسرائيل. في المقابل يرى (48%) من أنصار الحزب الاشتراكي الديمقراطي (SPD)، الشريك في الائتلاف الحاكم، أن تصدير الأسلحة إلى إسرائيل قرار خاطئ.
هل ستشارك ألمانيا في فرض عقوبات على إسرائيل؟
تدين ألمانيا ودول أوروبية أخرى روسيا لانتهاكها القانون الدولي بغزوها لأوكرانيا، وفرضت عقوبات غير مسبوقة على موسكو، سعيا للحصول على الدعم لعزلها عن دول مثل جنوب أفريقيا والبرازيل ولكن القوى الغربية لم تتخذ نفس النهج تجاه إسرائيل وسط اتهامات مستمرة من جانب جماعات حقوق الإنسان والإنسانية بانتهاك القانون الدولي في إدارتها للحرب في غزة، مع مقتل العديد من المدنيين الفلسطينيين، والدمار الواسع النطاق للبنية الأساسية، وتزايد خطر المجاعة في ظل الحصار الإسرائيلي.
يقول “تيم أسمان” المحلل والخبير في الشأن الألماني الإسرائيلي: ” هل ستُقيّد الحكومة الألمانية شحنات الأسلحة إلى إسرائيل مستقبلا؟، هل ستشارك ألمانيا في فرض عقوبات، على سبيل المثال، على المستوى الأوروبي، أم أنها لن تمنعها؟”. وتابع “أسمان”: “يبدو أن الحكومة في برلين لا تزال ترغب في تجنب مثل هذه الخطوات. وهي تُكثّف الضغط على القيادة الإسرائيلية من خلال تصريحات عامة أكثر صرامة، على أمل التراجع عن موقفها بشكل قاطع”.
تقييم قراءة مستقبلية
– تبنت ألمانيا موقفا داعما لإسرائيل انطلاقا من مسؤوليتها عن “الهولوكوست”، تتجسد في أن “أمن إسرائيل مصلحة وطنية لألمانيا” وأن “أمن إسرائيل غير قابل للتفاوض”.
– أثرت مجريات حرب غزة على الرأي العام في ألمانيا حيث يرفض غالبية الشعب الألماني ممارسات إسرائيل في قطاع غزة، بما في ذلك نقص إمدادات المساعدات، حتى بعض الأحزاب الألمانية تدعو إلى وقف صادرات الأسلحة إلى إسرائيل.
– يمكن القول أن هناك معايير مزدوجة في التعامل مع القانون الدولي، يتمثل ذلك في رد الفعل الأوروبي الصارم تجاه روسيا مقارنة بالتراخي مع إسرائيل في سياق القانون الدولي. ما قد يضعف مستقبلا من مصداقية برلين داخليا وخارجيا.
– يُلاحظ تصعيد في اللهجة الخطابية الألمانية تجاه تل أبيب دون تغيير فعلي في سياسات الدعم الألماني، وهي استراتيجية “احتواء سياسي”. وقد تُضطر برلين على المدى القريب لاتخاذ خطوة رمزية تحت ضغوطات الرأي العام.
– تمر العلاقة الألمانية الإسرائيلية بمرحلة إعادة ضبط تدريجي، فمن المستبعد حدوث قطيعة بين البلدين، لكن من المرجح أن يتحول الدعم الغير مشروط إلى دعم مشروط باحترام القانون الدولي وحقوق الإنسان.
رابط مختصر.. https://www.europarabct.com/?p=105092
*حقوق النشر محفوظة إلى المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات
هوامش
Germany vows continued support of Israel as FM visits Berlin
https://tinyurl.com/2s3vszvw
Germany’s foreign minister condemns Israel’s approval of new West Bank settlements
https://tinyurl.com/yc237kmj
Gaza war testing Germany’s long unconditional commitment to Israel
https://tinyurl.com/s6hrff5v