بون ـ المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات ECCI ـ وحدة الدراسات (24)
كانت حرب أوكرانيا في فبراير 2022 بمثابة نقطة تحول في السياسة الدفاعية الألمانية. فبعد ثلاثين عاماً من الانكماش العسكري، ظهرت القوات المسلحة الألمانية في وضع يتسم بالحرمان الشديد من القدرات في وقت اندلعت، للمرة الأولى منذ عام 1945، حرب شديدة الحدة شاركت فيها قوة عظمى على أبواب أوروبا. وكان رد المستشار شولتس هو تبني تغيير في “العقيدة الدفاعية الألمانية” من خلال برنامج إعادة تجهيز كبير للجيش الألماني.
إمكانيات الجيش الألماني
يعدّ الجيش الألماني واحداً من بين أكبر (30) قوّة عسكرية في العالم، وبقوامه البالغ (183.695) جندي، يُعد ثاني أكبر قوّة عسكرية في الاتحاد الأوروبي بعد فرنسا من حيث عدد الأفراد، وسابع أفضل جيش من حيث التمويل في العالم. وعلى الورق، يمتلك الجيش الألماني (284 ) دبابة قتالية من نوع “ليوبارد”، و(674) مركبة قتالية للمشاة، و (121) قطعة مدفعية من عيار “155 ملم”، و(8) فرقاطات، و(226) طائرة مقاتلة من طراز “يوروفيتر”، و”تورنادو” . ومع ذلك، فإن عدداً من هذه الآليات ليس جاهزاً للخدمة.
وبالرغم من أن ألمانيا تعد أحد أكبر مصدّري السلاح في العالم، إذ توجد في المركز الخامس بحصة (4.2%) من التصدير العالمي ما بين 2018 و2022 ، فإن تطور مبيعات الشركات الألمانية لم ينعكس إيجابياً على الجيش الألماني، الذي يعاني مشكلة كبيرة في نقص التجهيزات، وصرّح وزير الدفاع الألماني بوريس بيستوريوس بأن هذه الثغرات لن يتم سدها بالكامل قبل 2030.
ووفق تقرير نشر في ديسمبر 2022، فإن أقل من (30%) من السفن التابعة للبحرية الألمانية “تعمل بشكل كامل”، فيما “مقاتلات كثيرة في وضع لا يسمح لها بالطيران”. أمّا بالنسبة إلى المعدات البرية، “فلا تُعد سوى (350) مركبة قتالية من طراز “بوما” مؤهلة للحرب. كما يفتقر هذا الجيش، ليكون جاهزاً، إلى المعدات الشخصية مثل الخوذات وحقائب الظهر والسترات الواقية، وكذلك المعدات الصغيرة والكبيرة -من أجهزة الراديو والذخيرة إلى الدبابات… يفتقر البوندسوير (الجيش الألماني) إلى كل شيء تقريباً، وذلك إرث لعقود من نقص الاستثمار، وفق التقرير.
وتشتكي إيفا هوغل، مفوضة البوندستاغ لشؤون الدفاع عندما قدمت تقريرها السنوي في مارس 2024 من بطء عملية تحديث الجيش الألماني، وتضيف أنّ “القاعدة المادية للجيش أصبحت الآن أسوأ مما كانت عليه قبل بدء العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا، إذ جرى إرسال كثير من السلاح إلى كييف”. وتقول هوغل إن “ألمانيا بحاجة إلى شراء ذخيرة بقيمة (20) مليار يورو من أجل تجهيز قواتها تماماً، والجنود لا يجري تزويدهم دائماً بالملابس اللازمة”. أمن قومي ـ الجيش الألماني وتحديات التحديث والتسلح
زيادة الانفاق العسكري والتسلح
لم تكن برلين تولي أهمية كبيرة لميزانية الدفاع، وكانت الأحزاب الألمانية منقسمة بخصوص التسليح، بل كان منها أحزاب كالحزب الاشتراكي الديمقراطي “حزب المستشار الحالي” يطالب بتوجيه الأموال إلى قطاعات أخرى. لكن الحرب الروسية لأوكرانيا غيّر الخطة. وتحدث المستشار أولاف شولتز عن نقطة تحول في بيان حكومته في 27 فبراير 2022 وأعلن عن إنفاق خاص بقيمة (100) مليار يورو للدفاع.
ويهدف الصندوق الخاص إلى تمكين شراء المعدات العسكرية على نطاق واسع. ووفقا لقائمة المشتريات التي وافقت عليها لجنة الدفاع في البوندستاغ، سيتم استخدام غالبية الأموال، التي تبلغ حوالي (41) مليار يورو، للقوات الجوية، بما في ذلك الطائرات المقاتلة الشبح الأمريكية من طراز ” F-35″ وطائرات الهليكوبتر للنقل من الشركة المصنعة الأمريكية. ومن المخطط أيضًا إنتاج” بوينغ”، ونسخة “يوروفايتر” للحرب الإلكترونية، وتسليح طائرة “هيرون” بدون طيار. بالإضافة إلى ذلك، سيتم شراء طرادات جديدة وفرقاطة واحدة على الأقل للبحرية، بالإضافة إلى خليفة لمركبة المشاة القتالية “Marder” ومركبة نقل القوات “Fuchs”. وقال وزير الدفاع بيستوريوس في 26 فبراير 2023، إنه سيتم بالفعل تخصيص حوالي (30) مليار دولار للإنفاق.
وفي منتصف ديسمبر 2022، أعطى البوندستاغ الضوء الأخضر للتمويل الأول بقيمة (13) مليار يورو. ويشمل ذلك أيضًا قرار شراء بندقية هجومية جديدة خلفًا لمجموعة ” G-36″، وشراء أنظمة الإرسال اللاسلكي العسكرية، وتعديل مركبة المشاة القتالية “Puma” ومركبات جديدة فوق الثلوج.
وتخصص ميزانية ألمانيا لعام 2024 مبلغ (51.8) مليار يورو للدفاع، وهو في حد ذاته أقل من نسبة (2%) من الناتج المحلي الإجمالي القياسي لحلف شمال الأطلسي. ومع ذلك، يبدو أن ألمانيا في طريقها لتحقيق الهدف من خلال سحب صندوق الطوارئ بقيمة (100) مليار يورو حتى عام 2028، وبعد ذلك تخطط ألمانيا لتمويل الدفاع من خلال عملية الميزانية العادية وسيتطلب تحقيق ذلك زيادة بنحو (30 ) مليار يورو مقارنة بنفقات الدفاع لعام 2024.
ويدعو وزير الدفاع الألماني بيستوريوس إلى زيادة ميزانية الدفاع بما لا يقل عن ( 6.5) مليار يورو لعام 2025. ولم يؤيد المستشار الألماني شولتز حتى الآن طلب بيستوريوس بالاستثناء من كبح الديون.
نقص في القوات الألمانية ومطالب بالعودة للخدمة الإلزامية
تمتلك ألمانيا حالياً (260) ألف عنصر في الجيش، لكن فقط (181) ألف عنصر يرتدون الزي العسكري، والبقية متوزعون على الوظائف المدنية، وفق أرقام رسمية حتى ديسمبر 2023، كما أن حوالي (64) ألفاً ينتمون للقوات البرية، و(30) ألفا للقوات الجوية، و(17) ألفا للقوات البحرية، ومقارنة بعام 2022، هناك تراجع في عدد الجنود بـ (1500) فرد، بينما تريد ألمانيا الوصول إلى (200 ) ألف جندي في أفق عام 2030.
وألغت ألمانيا التجنيد الإلزامي منذ عام 2011، وشجعت بدلا منه الخدمة التطوعية، مما أدى إلى تراجع عدد أفراد الجيش بشكل واضح،. وقد أكد وزير الدفاع الألماني بيستوريوس بالفعل أنه “بحلول عام 2050، سيكون عدد الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين (15 و24) عاما أقل بنسبة (12%) “. ومن هنا جاءت فكرة إعادة التجنيد الإجباري، مستوحاة من النموذج المعمول به في السويد، حيث تحتفظ القوات المسلحة فقط بالمجندين الذين تحتاجهم، على أساس طوعي إن أمكن.
ومع أن وزير الدفاع الحالي يدعم إعادة التجنيد الإلزامي، فإن هناك معارضة سياسية وحقوقية كبيرة، لأسباب تتعلق بحرية الاختيار، بالإضافة لما يعانيه سوق العمل في ألمانيا من نقص مهول في الكوادر، وسيزداد تأثرا في حال العودة للتجنيد.
وقد اقترح وزير الدفاع بوريس بيستوريوس رسميًا شكلاً من أشكال الخدمة العسكرية في 12 يونيو 2024،. ولن تؤدي المقترحات إلى إعادة التجنيد الإجباري كما كان الحال في النموذج الذي تم إلغاؤه فعلياً في عام 2011. وجاء في وثيقة حول المقترحات “نريد نموذجا جديدا يعتمد في المقام الأول على المشاركة التطوعية، ولكنه يتضمن أيضا عناصر إلزامية إذا لزم الأمر”.
ووفقاً للتقييمات الحالية، فإن المساهمة الألمانية في الدفاع عن حلف شمال الأطلسي سوف تتطلب نحو (460) ألف جندي على المدى الطويل. ومن بين هؤلاء، من المقرر أن يكون نصفهم نشطين والباقي احتياطيات. أمن قومي ـ الجيش الألماني يعاني من مشاكل في البُنى التحتية ـ ملف
خطط بيستوريوس لإصلاح الجيش الألماني
قدم وزير الدفاع الاتحادي بوريس بيستوريوس (SPD) في بداية أبريل 2024 خططه لـ “الجيش الألماني نقطة التحول”. النقطة المركزية هي القيادة التشغيلية الموحدة. ولهذا الغرض، سيتم دمج القيادة الإقليمية السابقة للدفاع الوطني والقيادة العملياتية للبعثات الأجنبية. وشدد بيستوريوس على أن هذا يضمن التخطيط والإدارة “من مصدر واحد”.
وتنص خطته الإصلاحية على إنشاء “قيادة عسكرية عملياتية” واحدة، والتي يأمل أن تمكن من اتخاذ قرارات سريعة والقضاء على الازدواجية. حاليًا، لدى الجيش الألماني مركزان للقيادة: أحدهما مسؤول عن تخطيط وإدارة عمليات الانتشار في الخارج والآخر للدفاع عن ألمانيا نفسها.
سيتم توسيع قسم “السايبر والمعلومات” الحالي، الذي تشمل مسؤولياته صد الهجمات السيبرانية، وحماية البنية التحتية الإلكترونية وتحليل التهديدات الهجين مثل المعلومات المضللة، ليصبح رسميًا ذراعًا رابعًا للجيش إلى جانب الجيش والقوات الجوية والبحرية.
وصرح بيستوريوس في جلسة استماع في البوندستاغ في 6 يونيو 2024 أن الجيش الألماني يجب أن يكون جاهزا “للدفاع” بحلول عام 2029. ومن أجل حل هذه المشكلة، حدد بيستوريوس (3) مشاكل رئيسية: “التكنولوجيا والأفراد والمالية”.
كما دعا إلى زيادة ميزانية وزارة الدفاع بمقدار (6.5 إلى 7) مليار يورو في العام 2025، بالإضافة إلى إقرار زيادة طويلة الأمد في الإنفاق الدفاعي الألماني.
“مبادئ توجيهية جديدة لسياسة الدفاع” الألمانية
وافق مجلس الوزراء الألماني في نوفمبر 2023 على وثيقة مفاهيمية جديدة للدفاع العسكري والمدني في ألمانيا، تحدد مسؤوليات الجيش الألماني ومنظمات الإغاثة وسلطات الدفاع المدني في حالة الكوارث والحروب.
تحل المبادئ التوجيهية الجديدة محل ورقة سابقة من عام 1989 وتتناول الآن التهديدات السيبرانية والحرب الهجينة. وتنص المبادئ التوجيهية الجديدة لسياسة الدفاع الألمانية على أن الدفاع الشامل الناجح يتطلب التنسيق الوثيق والتعاون بين جميع أصحاب المصلحة المعنيين بما في ذلك الحكومة والمجتمع والصناعات، حتى في وقت السلم، وإذ تحث على تعديل رؤية القوات المسلحة والشعب، تعتبر الحرب “الواجب الأساسي” للقوات المسلحة. وبينما تصف هذه المبادئ التوجيهية بوضوح التهديدات التي تواجهها ألمانيا وأبعادها العسكرية، فإنها تعكس تقييم استراتيجية الأمن القومي بأن روسيا ستظل أكبر تهديد للأمن الأورو-أطلسي “في المستقبل القريب” وستكون بمثابة القضية الأمنية الأكثر أهمية بالنسبة للقوات المسلحة. كما تصف هذه الوثيقة القوة النووية الروسية بأنها الخصم الرئيسي وتعتبر القوات المسلحة الروسية عدواً لمهمة الردع والدفاع الجماعي لحلف شمال الأطلسي.
تصرح هذه الوثيقة أن القدرة القتالية يجب أن تكون “المبدأ التوجيهي” للجنود الألمان. ورغم الانتقادات من داخل حزبه، حاول وزير الدفاع الألماني توظيف هذا التوجه، الذي لم يكن يُستخدم في ألمانيا من قبل، في الوثائق الرسمية. ويظهر هذا الموضوع أن القوات المسلحة ستبقى ناقصة دون إحداث تغيير معرفي في القوة العسكرية، خاصة لجهة خلق الرغبة والقدرة على القتال والانتصار على عدو مثل روسيا.
أخيراً، تأخذ هذه المبادئ التوجيهية الدفاعية في الاعتبار الحاجة الملحة لإجراء إصلاحات هيكلية في وزارة الدفاع للحد من العمليات البيروقراطية البطيئة ويؤكد على أنه “ينبغي تقليل العمل الإضافي، وإزالة العلاقات غير الواضحة، ويجب تطوير هياكل شاملة أكثر كفاءة”. أمن قومي ـ الجيش الألماني نقطة إرتكاز الناتو في أوروبا
تقييم وقراءة مستقبلية
ـ يواجه الجيش الألماني ، انتقادات في السنوات الأخيرة بشأن قدراته. أحد أهم الانتقادات الموجهة للبوندسفير هو افتقاده للجاهزية ونقص المعدات وصعوبات التجنيد .
– إن عودة الصراع المسلح على نطاق واسع إلى أوروبا دفعت ألمانيا إلى إعادة صياغة سياستها الأمنية بشكل كبير.وقد تعهدت الحكومة الألمانية بزيادة التمويل للبوندسوير وتحسين استعداده وقدراته خاصة مع حرب أوكرانيا . ومع ذلك ، فإن فعالية هذه التدابير لا تزال غير معروفة.
– على الرغم من التحسن في الميزانية، إلا أن الجيش الألماني لا يزال يواجه الكثير من المشاكل في مسيرته نحو تحقيق التطور المطلوب منه. فالحرب في أوكرانيا تجعل تحديث الجيش الألماني مهمة مرهقة، حيث أعرب وزير الدفاع الألماني بوريس بيستوريوس عن اعتقاده أنه ليس من الممكن سد فجوات التسليح في الجيش قبل نهاية العقد الحالي. موضحا أن نقل أسلحة لأوكرانيا لدعمها ضد روسيا أدى إلى تفاقم الحاجة للأسلحة.
– تثار دعوات جديدة لإعادة التجنيد الإلزامي، لكن بالنسبة لسكان ألمانيا المسنين، سيكون هذا تحدياً. فمنذ إلغاء التجنيد الإلزامي في عام 2011، فضل الشباب الألماني طرقاً مهنية أخرى. كما يواجه هذا المطلب اعتراضات حقوقية باعتباره يمس الحرية الشخصية للمواطن الألماني.
– يعتقد النقاد أن ألمانيا من خلال المبادئ التوجيهية الجديدة لسياسة الدفاع الألمانية ، تستخدم الحرب لتحقيق خططها التسليحية طويلة الأمد بغية تغيير الاتجاه العسكري نحو الشرق. وكما حدث خلال الحرب العالمية الثانية، فإنها تتحدث اليوم كذلك عن “استعداد الشعب الألماني من أجل الحرب” و”القدرة على الدفاع عن النفس”، بينما يتعين على شريحة العاملين أن يدفعوا ثمن جنون الحرب هذا من خلال تخفيض الأجور والخدمات الاجتماعية لتمويل المزيد من الأسلحة، وتقليص حقوقهم الديمقراطية بشكل خطير.
رابط مختصر.. https://www.europarabct.com/?p=94569
*حقوق النشر محفوظة إلى المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الارهاب والاستخبارات
هوامش
Germany pledges to make its military ‘the backbone of defence in Europe’
https://2u.pw/B7uBUSFU
German Military is ‘Aging and Shrinking:’ Parliament Report
https://2u.pw/FpaF7iom
Germany overhauls military command in quest for ‘war-capable’ force
https://2u.pw/c3coN2iE
German defense minister calls for war readiness by 2029
https://2u.pw/ERgGzd6s
ألمانيا ـ وزير الدفاع يعرب عن غضبه إزاء التباطؤ في ميزانية 2025
https://2u.pw/6e9P28cQ